سياسة عربية

هل نجح المتمردون في جر القاهرة الى حرب استنزاف؟

اعاد التفجير «الارهابي» الذي جرى في نهاية الاسبوع الماضي، امام مقر المخابرات العامة المصرية في مدينة الاسماعيلية، الواقعة على قناة السويس، تسليط الاضواء الساطعة على نتائج المواجهات العسكرية التي تدور منذ نحو شهرين في صحراء سيناء، بين قوى الامن المصرية والمجموعات الارهابية المسلحة التي «استوطنت» الجزء الآسيوي من مصر منذ اعوام، تحت جنح التطورات والصراعات في الداخل المصري، واقامت ما يشبه سلطة امر واقع، او «امارة» لها كيانها ولها امتداداتها ولها جذورها العميقة في رمال هذه الصحراء القصية المترامية الاطراف.

 ما ان وقع هذا التفجير حتى ضج الشارع المصري بسؤال اساسي عن مدى الارتباط  بينه وبين مسار المواجهات في الصحراء المقابلة لهذه المدينة الواقعة على اهم شريان حيوي بحري يشكل مصدر دخل اساسي لمصر الغارقة في صراعاتها الدامية والمتوالية فصولاً منذ نهاية شهر آب (اغسطس) الماضي وحتى اليوم.
والسؤال هذا تركز على امر اساسي: هل وقع الانفجار لان الحملة العسكرية الضخمة نسبياً التي جردها النظام المصري العسكري الجديد الذي تربع على رأس هرم السلطة في القاهرة، بعد خلع الرئيس المصري محمد مرسي واسقاط اول تجربة لحكم «الاخوان المسلمين» في بلد منشئهم مصر، قد اخفقت في تحقيق اهدافها وعجزت عن القضاء على بؤر هذه المجموعات ومواقعها ونقاط قوتها، ام ان العكس هو الذي حصل؟
ليس خافياً ان التفجير الذي حصل في احدى مدن القناة كان بمثابة صدمة حقيقية للحسابات العسكرية للنظام المصري الحالي. فثمة من رأى ان المجموعات المسلحة التي فتح النظام ابواب المواجهة معها مددت دائرة استهدافاتها وعملياتها ضد مواقع النظام ومفاصله العسكرية والامنية الى اوسع مدى جغرافي ممكن لتخفف من وتيرة الضغط العسكري عليها في صحراء سيناء حيث ان حملة النظام عليها باتت تضغط عليها لدرجة الاستئصال، في حين ان ثمة من يرى ان مسار المواجهات هناك لم يسر وفق ما تعهدت به السلطة المصرية الحالية، وان كل الجهود التي بذلتها على ارض تلك الصحراء القصية ذهبت ادراج رياح حسابات عسكرية خاطئة او مبالغ فيها، مما حولها فعلاً الى حرب استنزاف حقيقية من جانب هذه المجموعات التي ثبت احترافها وتمرسها على وحدات الجيش المصري.

معلومات ضئيلة
ليس جديداً القول بأن النظام المصري خفف في الاسابيع القليلة الماضية من عملية تسليط الاضواء الاعلامية على مسار المواجهات العسكرية في صحراء سيناء، ولا سيما في الجزء الجنوبي منها البعيدة عن الساحل، وهذا الواقع «التعتيمي» لم يسمح للمراقبين بالتأكد من صحة بعض المعلومات التي اتسمت بالخجل وعدم الجزم التي بثها اعلام النظام، واوحت بأن الحملة العسكرية حققت اغراضها ومقاصدها في القضاء عسكرياً على سطوة المجموعات المسلحة وحدت الى اجل غير مسمى من سيطرتها غير المعلنة على هذا الجزء الاستراتيجي من مصر.
والواضح ان هذا النهج الذي اتبعه النظام المصري، عزز من مخاوف بعض المراقبين الذين وضعوا منذ بداية الحملة امامهم فرضية ان تنجح هذه المجموعات في استدراج القوات المصرية الى «مكمن» في هذه الصحراء التي لها فيها خبرة ودراية بغية استنزافها تدريجياً وانهاكها.
فالمعلوم ان النظام المصري الحالي خالف الكثير من النصائح بعدم الانزلاق في الذهاب الى مواجهات في صحراء سيناء خشية عدم اثبات القدرة على الحسم الميداني السريع انطلاقاً من اعتبارات ووقائع ميدانية ابرزها:
– ان عديد مقاتلي هذه المجموعات هو اضعاف ما يقدره النظام المصري، فالقاهرة قدرتهم بنحو اربعة آلاف مقاتل في حين ان مصادر عليمة بحالهم، قدرت اولاً ان عددهم هو اعلى من ذلك وقد يصل الى نحو عشرة آلاف مقاتل، وان بمقدورهم ثانياً نقل مجموعات اخرى من خارج سيناء الى داخل الصحراء عبر مسارب ومداخل متعددة لانهم باتوا ادرى بشعاب هاتيك المنطقة الوعرة والخفية.
– ان هذه المجموعات نجحت الى حد بعيد في شراء ولاء قبائل وعشائر سيناء او القسم الاكبر منها مستغلة بطبيعة الحال تردي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية لهذه القبائل وشيوخها وضعف مداخيلهم من عمليات التهريب التي اعتادوها، في حين ان النظام المصري كان يراهن على ان شيوخ العشائر المنتشرة في سيناء لن يخرجوا عن ولائهم التقليدي للنظام في القاهرة.
– ان النظام المصري ركز جزءاً من حساباته في مسار المواجهات الميدانية على عملية ردم الانفاق العديدة التي تربط بين صحراء سيناء وغزة والتي تعد بالمئات، وهي واسطة نقل المقاتلين والاسلحة والذخائر وتبادل الخبرات من هذا القطاع الذي تسيطر عليه حركة «حماس».
وعليه، فإن رهان النظام المصري كان على عملية خنق ممنهجة ومنظمة لهذه
المجموعات من البر عبر الانفاق ومن البحر عبر رصد الشواطىء والمعابر البحرية التي تشكل عادة احد شرايين الدعم والرفد لهذه المجموعات، والعمل على اقفالها بالقوة، فضلاً عن ارباك حركة «حماس» وممارسة ضغوط مادية ومعنوية عليها لتمتنع عن الدعم.

 رهانات
– الى ذلك كانت الرهانات العسكرية للنظام المصري ايضاً على ارباك هذه المجموعات واستنزافها وتشتيت قواها وتوجيه ضربات موجهة وسريعة لها، تجعلها تفقد توازنها وانضباطها وتشل قدرتها على التركيز، وهو امر لم يتحقق بالشكل المطلوب لاعتبارات ووقائع عدة ابرزها ان هذه المجموعات متجذرة وخبيرة ومحترفة بالمواجهات وبعمليات الكر والفر، ومستعدة للمواجهة، خصوصاً ان لها امتدادها وقيادتها المركزية داخل صحراء سيناء وفي خارجها، وصولاً الى سوريا والعراق ودول شمال افريقيا، امتداداً حتى افغانستان، فضلاً عن قنوات اتصال خفية بجهات في الداخل المصري نفسه وان بدرجات اقل ومستويات ادنى.
– ان القيادات الميدانية لهذه المجموعات المتجذرة في صحراء سيناء، هي بالاصل مطلوبة للسلطات المصرية ومطاردة منها، وبالتالي فهي مستعدة للمواجهة والمنازلة حتى النفس الاخير، وتفضل الموت على رفع راية الاستسلام.
وحيال هذه الوقائع والمعطيات، فإن السؤال المطروح بإلحاح: هل فعلاً اخطأ النظام المصري الحسابات واستسهل الوقائع وبالتالي انزلق الى حيث يريد خصومه ان ينزلق، وبالتالي دخل الى دائرة الاستنزاف بقدميه؟
حسب اكثر من اجابة يعطيها العارفون بالشأن المصري، فإن النظام المصري دخل الى رمال سيناء المتحركة والساخنة والتي كانت على مرّ التاريخ احدى نقاط ضعف الجيش المصري، مضطراً لاعتبارين اساسيين:
الاول: انه كان بأمس الحاجة الى تحقيق نصر ميداني في سيناء، معتقداً ان ذلك من شأنه ان يشكل له عنصر دعم واسناد في عمليات المواجهة الشرسة التي بدأها مع مجموعات الاخوان المسلمين في الداخل بعدما اقصى رئيسهم مرسي، ووضعه في السجن واضعاً حداً لتجربة حكم كانوا ينتظرونها منذ زمن بعيد بفارغ الصبر ويعولون عليها الى درجة كبيرة.
بل ان ثمة تحليلات وقراءات لدى هذا النظام ذهبت الى حد الاستنتاج بأن لا مجال لتكريس مفاعيل التغيير الذي احدثه في الداخل المصري من دون توجيه ضربة كبرى وقاصمة للمجموعات الارهابية المنتشرة بعناد في طول صحراء سيناء وعرضها وبالتالي احدث النظام المصري معادلة ربط وثقى بين القاهرة وسيناء، وبين حساباته المستقبلية على اساسها، ولا سيما بعدما فتحت هذه المجموعات الحرب ضده في سيناء من خلال مهاجمة قواته ودورياته.
الثاني: ان الحسابات العسكرية للنظام المصري سولت له ان بإمكانه تحقيق ضربة حاسمة وسريعة للمجموعات الارهابية المسلحة في سيناء، من شأنها ان تقصم ظهر هذه المجموعات وبالتالي ان تحبط من عزيمة تنظيم الاخوان في الداخل، ولا سيما ان هذا التنظيم بنى ابان حكمه القصير لمصر علاقة تبادلية وثقى مع هذه المجموعات بل ان ثمة معلومات تقول بأنه رفدها ودعمها ومكنها في محطات عدة، استعداداً ليوم موعود كهذا اليوم.

مصير المواجهات
وفي كل الاحوال، فإن من حق المراقبين ان يلحوا في السؤال عن المسار الحقيقي والمصير الجدي للمواجهات التي فتح النظام المصري ابوابها مع المجموعات الارهابية في صحراء سيناء، ليتأكد بالملموس من صحة مزاعم النظام في القاهرة من انه بات على قاب قوسين او ادنى من انجاز مهمة قواته في مواجهات سيناء وبالتالي تحديد ساعة اطلاق بوق النصر على هذه المجموعات المتمردة هناك، مما يؤكد بالتالي انه لم يقع في براثن حرب استنزاف قد تطول هناك في ظل ستار من الكتمان والتعتيم الاعلامي.
ومن حق هؤلاء المراقبين ايضاً ان يلحوا في السؤال ليتيقنوا من ادعاءات المجموعات المسلحة وامتداداتها في القاهرة التي تعلن جهاراً بين فينة واخرى بأنها كسرت حدة هجوم القوى الامنية المصرية في صحراء سيناء.
ومهما يكن من امر، فثمة مشهد لا يمكن نكرانه في مصر وسيناء نفسها وجوهره ان المواجهات مستمرة حتى الان في شطري مصر الاسيوي والافريقي على حد سواء، وان اعمال التخريب والتحدي للقوى النظامية المصرية قائمة على قدم وساق مما يولد انطباعاً اساسياً فحواه ان ارض مصر لم تسلس تماماً للنظام الحالي، وان اعداء هذا النظام ما زالوا يملكون حيوية وقدرة على المواجهة والتحدي.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق