آدب

عبدالله لحود… نسيج وحده بين الرجال في زمن القامات العالية

منذ ربع قرن تقريباً، رحل المحامي الكبير والكاتب الفذ عبدالله لحود، وذلك في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1988. وهو الذي مارس مهنة المحاماة بشغف وضمير حيّ، دفاعاً عن الحريات الشخصية وخصوصاً حرية الرأي، ودفاعاً عن الحقيقة أينما وجدت… وهو الذي تعاطى مع الأدب والشعر والفكر بالروحية نفسها، بحثاً عن الأدب المعافى والمجتمع الأفضل. بعد ربع قرن، أتذكر عبدالله لحود (1899 – 1988) الذي عرفته عن كثب، واكتشفت معدنه الأصيل، ومدى صدقه مع نفسه ومع الآخرين. ترك في المكتبة العربية مؤلفات مهمة وفريدة من نوعها، سواء في القانون أو في الأدب، وأول ما يخطر في بالي، كتابه الجميل «الملكية الأدبية والفنية» الذي دافع فيه عن حقوق أهل الفكر والفن… وخصوصاً كتابه «ذكريات مختارة» وهو من نوع السيرة الذاتية وكنت وراء دفعه الى كتابته ونشره في سلسلة صحافية، وصدر بعد رحيله عن «دار العلم للملايين» في سنة 1996. والى ما هنالك من الكتب المتنوعة.

تعرّفت على الأستاذ عبدالله لحود قبل زمن بعيد، وذلك في العقد السادس من القرن العشرين، يوم باشرت – في بداية عملي في الصحافة – بإجراء سلسلة طويلة من الحوارات الصحافية مع كبار أهل الأدب والشعر والفن في لبنان، ومع رؤساء الأحزاب والكتل اللبنانية، يوم كان لبنان يضج بالحركة والعافية، ويعج بالقامات العالية. وبإستطاعتي القول، انني في تلك الحقبة، حاورت معظم الأسماء الكبيرة، وكان آخر من التقيت به – يومئذ – قبل أن أنتقل الى ميدان آخر في الصحافة، الشاعر الكبير أمين نخلة، الذي بادرني قائلاً: «تركتني للآخر»، فقلت له: أردت أن أتوّج حواراتي مع أمين بك نخلة بإعتباره سيّد الكلمة.

نسيج وحده بين الرجال
في ذلك الزمن، كان عبدالله لحود من جملة الذين حاورتهم، ودار الحديث بيني وبينه حول موضوعات وقضايا عدة… وهو من الأشخاص الذين امتدت علاقتي بهم مرحلة طويلة من الزمن، وكنت أستشيره حول مسائل قانونية خاصة، وكان دائماً يلبي طلبي ويدلني الى الطريق الصحيح، ومن دون أي مقابل مادي. كما انه شارك معنا في الكتابة عبر صفحات مجلة «الخواطر» التي كنت مدير تحريرها. فكتب أولاً، تحت باب «أفكار وآراء» سلسلة من المقالات بعنوان «نظرات في الطائفية»، وسلسلة أخرى بعنوان «حديث العامية والفصحى». بعدئذ، كتب تحت عنوان «ذكريات مختارة» محطات من سيرته الذاتية، ومن دون أي مقابل مادي أيضاً. انه عبدالله لحود، نسيج وحده بين الرجال.

 ظاهرة نادرة
في حواري الأول والوحيد معه، الذي كان وراء معرفتي الشخصية به، تحدث عبدالله لحود عن علاقة الأدب بالمحاماة، وعلاقة الأدب بالحياة، وعلاقة الأدب بالسياسة، وتحدث عن أهم القضايا القانونية التي يعيرها اهتمامه أكثر من غيرها، والى ما هنالك من مسائل…
فأين يلتقي الأدب بالمحاماة؟
في رأي عبدالله لحود ان «هناك نقاط التقاء عديدة بين الأدب والمحاماة… ف
المحامي كالأديب يتغلغل في خفايا النفس البشرية وفي تضاعيف الأمزجة والأحاسيس فيتحرى العقد والعاهات والعوامل الخفية التي تسيّر الإرادة وتسهم في إبراز الفعل البشري، وكلاهما يحتضن الضعف ويقدر الأعذار ويشفق حتى على المجرم الذي نبذه المجتمع. والمحاماة كالأدب تلجأ الى الكلمة لكي تصقلها فتجعلها أكثر تأثيراً في النفوس وأشد قدرة على الإقناع. والأدب يكسب المحامي نضارة في البيان وبراءة في الأداء وعرض الواقعات كما ان المحاماة تكسب الأديب دقة في التفكير وصلابة واحكاماً في الإستنتاج. ولعل المحاماة في لبنان قدّمت للأدب أفراداً تزيد نسبتهم على نسبة ما قدّمته المحاماة للأدب في سائر بلدان العالم».                       

بين الأدب والحياة
وسألته أيضاً، عن مدى التقاء الأدب بالحياة؟ فكان جوابه: «ان الأدب الصحيح هو تصوير للحياة بكل ما فيها من متناقضات… ومن قبح وجمال. فهو مرآة الحياة، كما هي، وكما يجب أن تكون. والأدب الذي يستل صوره ومواده من الحياة يعود فيؤثر في مجرى الحياة، بحيث ان هناك عدداً من الأدباء ورجال الفن طبعوا العصور التي وجدوا فيها بطابع خاص استمر ويستمر زمناً طويلاً. ولقد قيل، ولا مغالاة، ان الكون يخلق من جديد كلما برز أديب عبقري جديد. فالحياة هي مادة الأدب، والأدب هو الترجمان الأمثل للحياة».

علاقة الأدب بالسياسة
الى جانب المحاماة والأدب، لم يكن عبدالله لحود بعيداً عن السياسة، وقد خاض غمارها الى حد ما، ولكنه لم يلبث أن اكتشف ألاعيب أصحاب السياسة في لبنان وأساليبهم الرخيصة، فإبتعد عن ساحتها بلا ندم.
كان يؤمن بإلتقاء الأدب والسياسة، وبتأثير الأدب في السياسة، ودور الأديب في محاربة الظلم وتقويم الاعوجاج… ويقول: «ان الأديب هو طبعاً مواطن صالح، وهو بفضل ما يتحلى به من ثقافة وقوة شعور، يتحسس المسائل السياسية تحسساً قوياً حاداً. وإذا عدنا الى التاريخ، نجد أن هناك أدباء عديدين خاضوا ميادين السياسة وكانوا فيها من المجلين، فلامارتين وفيكتور هوغو مثلاً، وغيرهما من الأدباء الأوروبيين الكبار كانوا الى جانب ابداعهم في الأدب من رجال السياسة، وشاتوبريان وبول كلوديل وأمثالهما كانوا من رجال الديبلوماسية».
وهو لا يقول بالإلتزام في الأدب، ولكنه يعتبر «ان الأديب الذي يستعمل بيانه في سبيل خدمة الفكر والحرية، يضيف مجداً الى مجده الأدبي، فدفاع فولتير عن كالاس مثلاً، هو بنظري من أروع المفاخر التي يعتز بها الأدب في أي جيل من الأجيال. وأنا وان آمنت بحرية الأديب المطلقة لا يمكنني أن أتصور أديباً يرى الظلم والإجحاف من حوله، أو يرى التعصب الطائفي وبشاعاته، أو التمييز العنصري ومساوئه، أو يرى الحيف الإجتماعي وما يجره من تعاسات، ثم لا يتحمس لمحاربة الجور والتعصب الذميم والتمييز العنصري الأبله».

فضل الأدباء
يومها، أضاف عبدالله لحود في هذا المجال، قائلاً: «انني أرحب بإهتمام الأدباء العرب في الشؤون السياسية والإجتماعية اهتماماً متزايداً، وألاحظ أن معظم ما نالته البلدان العربية من اصلاحات في نواحي التفهم السياسي والحقوق السياسية إنما نالته بفضل الأدباء على الأخص، فالمفاهيم القومية الصحيحة وتقديس الحريات الشخصية وتساوي المواطنين بالحقوق، لا سيما مساواة المرأة بالرجل، كل هذا كان للأدباء، منذ ابرهيم اليازجي وبطرس البستاني واديب اسحق وقاسم أمين، الفضل الكبير في نشره والأخذ به. لهذا يمكننا القول ان الأدب كان له في البلدان العربية اليد البيضاء على السياسة. ونأمل أن يظل تأثير الأدب في السياسة تأثيراً خيّراً طيباً ومتواصلاً».

أعظم مفاخر المحاماة
كنت أعرف مدى ايمانه بالحريات الشخصية، ولا سيما حرية الرأي، ومدى دفاعه عنها… ولكنني كنت أريد معرفة المزيد، ولذلك، سألته عن أهم القضايا القانونية التي يعيرها اهتمامه أكثر من غيرها… فكان جوابه: «لقد اهتممت بصورة خاصة بالقضايا التي تمس الحريات الفردية، لا سيما حرية الرأي والإجتماع، وقد دافعت عن عدد كبير ممن احيلوا الى المحاكم بسبب آرائهم… ومن أهم القضايا التي كتبت فيها مئات الصفحات وألقيت العديد من المرافعات، قضايا تظاهرات الطلاب الجامعيين من أجل المسائل القومية وما يمت اليها… أذكر منها قضية الطلاب الذين تظاهروا تلك التظاهرة المشهورة التي كان من ضحاياها المرحوم حسان أبو اسماعيل. و
لقد حاربت طوال خمس عشرة سنة القرار 115 الصادر في عهد الإنتداب والذي يجيز للسلطات احالة المتظاهرين الى المحاكم لأسباب تافهة، حتى توصلت بعد الجهد العنيف المتمادي الى اقناع معظم المحاكم اللبنانية بأن هذا القرار الجائر ألغي بقانون العقوبات اللبناني».
وبشكل واضح وصادق، قال: «انني أعتقد وأؤمن بأن أعظم مفاخر المحاماة هي أن تتطوع للدفاع عن الحريات الشخصية ولا سيما حرية الرأي، وعلى كل محام أن يعتبر ان قضية الحرية والدفاع عنها هي رأس قضاياه جميعاً»

الجمعيات بين النجاح والفشل
في ذلك اللقاء – كما سبق وذكرت – تطرقت الى موضوعات عدة، فسألته مثلاً، عن سبب فشل نجاح الجمعيات الأدبية في لبنان، فكان جوابه: «يمكننا القول، ان الجمعيات الأدبية نجحت في أزمان معيّنة وأخفقت في أزمان، وعلى كل، فان وجودها، طويلاً كان أو قصيراً، أحدث تياراً أو تيارات نافعة، ويكفيني أن أذكر دور الجمعيات الأدبية في عهد المعلّم بطرس البستاني، وما كان لها من أثر في مكافحة التعصب الديني، ووضع نواة الوحدة الوطنية، وتحبيب الناس بطلب العلم. على ان هذه الجمعيات لم تكن طويلة العمر بسبب أحداث سياسية ومالية… وآخر هذه الجمعيات، «جمعية أهل القلم» التي كان يرجى لها طول الحياة، فأصيبت بموت فجائي أو كالفجائي، وقد يصعب تعليله. ان الاعتماد، كل الاعتماد على المساعدات الحكومية، هو بنظري، من أهم أسباب هلاك الجمعيات».
 
فضيحة كريستين كيلر
في ذلك الزمن، كانت فضيحة الحسناء البريطانية كريستين كيلر، انطلاقاً من علاقاتها الغرامية بالوزير بروفيومو، شغل الناس الشاغل في بريطانيا، وكان لا بدّ لي من معرفة رأيه في هذه القضية، بإعتباره من أهل المحاماة، فقال: «ان الحادث هو عادي، بحد ذاته، ويوجد مثله كثير في جميع بلدان العالم، لا سيما في فرنسا، ولكن الظروف والمصادفات شاءت أن تضع المحاكم يدها على هذه القضية بعينها وأن يكون القانون الانكليزي والرأي العام الإنكليزي قاسيين في مثل هذه المواضيع فحدثت الفضيحة، وكان بالإمكان ألا تذاع كما أذيعت، فلم يكن ليكترث بها أحد… ان المصادفات هي التي خلقت فضيحة كيلر!».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق