آدب

توفيق ابرهيم: ما زال في لبنان مكان للحب والجمال!

في الخامس من شهر أيلول(سبتمبر) المقبل، تصادف ذكرى رحيل الشاعر اللبناني توفيق ابرهيم، الذي غنّى الحب والجمال والحرية كأحسن ما يكون الغناء، عبر مجموعات شعرية عديدة، هي:القصائد العشر – شاعر الريف – شاعر الجمال – شاعر الحرية – شاعر الثورة – شاعر النجوم – المجرمون – وسواها… وفي جميع هذه الأعمال، كان الشاعر ينهل من الواقع، ومن أحداث العصر الذي عاش فيه، وفي مفهومه، ان الشعر ليس فقط متعة للذهن، بل هو أيضاً، أشبه ما يكون بمبضع الجرّاح الذي يستأصل أمراض المجتمعات في كل زمان ومكان… ومنذ رحيل توفيق ابرهيم في سنة1993، لم يتذكره أحد، سوى مرة واحدة في سنة 1997، وذلك عندما تألفت لجنة من أجل تكريمه، في دار نقابة الصحافة اللبنانية، ضمت مجموعة كبرى من الأدباء والشعراء والمفكرين والنقاد والإعلاميين.

باستطاعتي القول، ان توفيق ابرهيم هو أول شاعر وأديب لبناني عرفته، في بداية عملي في الصحافة بشكل رسمي، في سنة 1960. ومنذ لقائي الأول به، صار صديقي ورفيق دربي، التقي به في كل حين، في مقاهي بيروت ومطاعمها، وخصوصاً في مطعم «اللاروندا» الذي كان موقعه في قلب ساحة البرج، ويلتقي فيه العديد من مبدعي تلك الحقبة، أمثال: رئيف خوري – سعيد عقل – ميشال سليمان – رشيد وهبي – ميشال طراد – جوزف حرب – نقولا قربان – ميشال المير – وغيرهم… وجميعهم كانوا أصدقاء توفيق ابرهيم، الذي كان مرهف الإحساس، إنساني النزعة، يهزه الجمال، وفي الوقت نفسه، يتألم مع الإنسان المعذب أينما كان… من هنا، كان تارة يستهلم الجميلات والعيون التي في طرفها حَوَرٌ، وطوراً يستهلم نضال الشعوب من أجل التحرّر والعيش في ظل العدالة والمساواة والإخاء.

سعيد عقل ورئيف خوري وبينهما توفيق ابرهيم
من هنا، يروي الشاعر جوزف حرب، انه كان يلتقيه:«إما وأنا برفقة رئيف خوري، وإما وأنا برفقة سعيد عقل، وإما برفقتهما معاً. وقد ظلت بيني وبين توفيق ابرهيم مسافة، ملأها رئيف خوري وسعيد عقل كل على خطى أطباعه وسجاياه، فبينما كان سعيد عقل ينتشي وهو يتكلم على إعجاب توفيق ابرهيم به، كان رئيف خوري ينتشي وهو يتكلم على إعجابه بتوفيق ابرهيم. سعيد عقل، دائماً لنفسه، رئيف خوري دائماً للآخرين».

داعية خير ومحبة وعدل وسلام
من هنا أيضاً، يؤكد الأديب جان كميد، على ان شعر توفيق ابرهيم الذي كان يملأ الجرائد والمجلات «غدا متعاطفاً مع قضايا البائسين وقضايا الشعوب، مع الكادحين المستغَلَين، ومع الأحرار المنتفضين في وجه المستعمر الغاصب، فما من حدث كبير مرّ على المنطقة العربية إلا وكان له صداه في شعر شاعرنا، نصرة للحق، وصرخة في وجه الظلم. وما من قصيدة خلت من صورة السواعد العاملة، والعرق المتصبب على الجباه…».
كما يؤكد الكاتب كعدي كعدي، أن توفيق ابرهيم كان «داعية السلام والمحبة والعدل. وكان صادقاً، أميناً، لا يوارب ولايحابي، وما كره إلا الكره وما حقد على غير الحقد، فوجدت فيه الخلّ الوفيّ».
وبدوره، يؤكد نقيب الصحافة اللبنانية محمد البعلبكي، ان توفيق ابرهيم «كان داعية خير ومحبة، فلما عصفت بالوطن الغالي العواصف الهوجاء، تألم كثيراً، وقال شعراً ونثراً، نبذ فيه العنف من أي جهة أتى، ودعا الى الحوار والتآلف والتكاتف واحترام الإنسان».

الجندي المجهول في ميدان الأدب
منذ لقائي الأول به، في ذلك الزمن الجميل والبعيد، تبيّن لي أن في جعبته الكثير من الأخبار والذكريات والأسرار والطرائف، حول الأدب والأدباء، سواء في لبنان أو في العالم…
كان توفيق ابرهيم الجندي المجهول في ميدان الأدب، حيث كان يعمل بصمت من أجل رفع مستوى الأدب والأدباء في «بلد الإشعاع والنور» باذلاً الجهود الكبيرة في سبيل جمع الأدباء في بوتقة واحدة، والتضامن في ما بينهم للمحافظة على حقوقهم وكيانهم وثقافتهم… وذلك من خلال إنشاء نقابة للأدباء، ولكن الأحداث الدامية التي شهدها لبنان في سنة 1958 أدت الى عدم تنفيذ هذه الفكرة، فالثورة اللبنانية يومئذ – كما قال لي – ساعدت على الإنقسام بين الأدباء، وبات لكل منهم حزب معيّن ينتمي إليه، أو طائفة من الطوائف يحتمي في ظلها!
لا فتا، الى أن عدد النقابات في لبنان لا يحصى ولا يعدّ، إذ ان لكل مهنة من المهن نقابة خاصة، حتى ان لبائعي الخضار نقابة تدافع عن حقوقهم، فلماذا لا يكون للأدباء الذين هم طليعة الأمة، نقابة أو جمعية وطنية تقدمية ترفع من مستواهم المادي والمعنوي، وتسير بالحركة الأدبية خطوات الى الأمام؟!
يومها، سألته عن مصير جمعية «أهل القلم» في حال تم تأسيس جمعية جديدة… قال:«ان جمعية «أهل القلم» أصبحت في عالم النسيان، لم تؤد الرسالة التي وجدت من أجلها، كما ان معظم الذين ساهموا في تأسيسها قد تخلوا عنها…».

بين لبنان وسويسرا وفرنسا
من أطرف ما رواه لي توفيق ابرهيم، ان ليس في سويسرا – التي عرفها معرفة جيّدة – أدباء كما في سائر البلدان الأوروبية وبالتحديد في فرنسا، ففي جنيف مثلاً، يعيش الناس في أجواء المال والأعمال، همهم الوحيد عقد الصفقات التجارية، ومراقبة ميزان البورصة!
وعلى هامش المقارنة بين لبنان وسويسرا التي يطيب للبعض أن يتحدث عنها من حين الى آخر، تبيّن لتوفيق ابرهيم ان جمال بلادنا أفضل من جمال سويسرا، وأكبر دليل على ذلك، هو ان الطبيعة في لبنان أوجدت شعراء وأدباء تأثروا بجمالها، وغنوا بلادهم بأعذب القصائد… بينما طبيعة سويسرا لم تفلح في ايجاد شاعر أو اديب بارز!
وفي المرحلة التي أمضاها في فرنسا، استطاع ان يعقد صداقات مع كبار رجال الأدب والشعر والفكر، منهم الشاعر لويس آراغون، والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر… وكان الشاعر بول ايلوار من أصدقائه الكبار، ومعجباً به، كما أنه أفضل من ترجم له قصيدة «الحرية» الذائعة الصيت الى العربية. وكان من المعجبين أيضاً بالشاعر التركي ناظم حكمت.

الشيخ بشارة الخوري بين الأدب والمحاماة
كان توفيق ابرهيم يعتبر ان شخصية الأديب هي الأبرز والأقوى في المجتمع، الى درجة انه يراها أقوى من شخصية المحامي، معتبراً أن هناك العديد من المحامين مثلاً، رفعهم أدبهم الى أوج الشهرة والمجد، ومثالاً على ذلك: أمين نخلة، وعبدلله لحود، وصلاح لبكي، وأنطوان قازان، وعبدلله الأخطل، وسواهم… فهؤلاء يتمتعون بمكانة مرموقة في دنيا القلم، وليست المحاماة وحدها هي التي جعلت منهم شخصيات يشار إليها بالبنان!
وبلغت به حدّة الهوس مشيراً الى أن صنعة الأدب هي التي جعلت من المحامي الشيخ بشارة الخوري رئيساً للجمهورية!

تحليق النسر غير تحليق الصقر
والجدير بالذكر، ان مجموعة توفيق ابرهيم الشعرية الاولى كانت بالعامية، وهو من محبذي هذا اللون الشعري الذي يهواه اللبناني الى حدّ كبير… ولكنه لم يكن من جماعة الذين يعملون من أجل أن تحل العامية مكان الفصحى، وفي رأيه، حتى الذين يكتبون بالعامية يرفضون أن تصبح هي اللغة الرسمية، فالشاعر ميشال طراد مثلاً، الذي يعدّ من أبرز شعراء العامية، لو استطاع أن يحلّق من خلال الفصحى لما نظم الشعر العامي… ويضرب مثالاً على ذلك:«ان الصقر يحلّق في الفضاء، وكذلك النسر، ولكن تحليق النسر – كما هو معروف – غير تحليق الصقر!»
وبالمناسبة، فإن توفيق ابرهيم هو الذي عرّفني على ميشال طراد، بعدما أبديت رغبتي في ذلك. وذات يوم، فاجأني بحضوره برفقة الشاعر الذي أحب. وقبل أن يغادر ترك لي ميشال طراد، قصائد عدة بخط يده، نشرتها تباعاً في مجلة «الخواطر»، وما زلت أحتفظ بها حتى الآن. والتقطت لنا صورة تذكارية كما يرى القارىء.

ما زال في لبنان مكان للجمال والحب
خلال الحرب الطويلة التي عصفت بلبنان، تقلصت لقاءاتي بتوفيق ابرهيم، الى أن التقيته ذات يوم، وسألته: طالما تغنيت بالجمال والحب والمحبة، فهل ما زال في لبنان مطارح لهذه المواصفات؟
قال لي:«بالرغم من كل ما حدث، ما زال في لبنان مكان للجمال والحب… الشعب اللبناني مطبوع على المحبة، ولبنان لوحة جمال. والأحداث الدامية التي جرت في ربوعه، لم تستطع أن تنال منه، بل بالعكس من ذلك تماماً، فقد زادته قوة ومناعة، وما زال الشعراء والأدباء يتفنون بجمال لبنان بلد الحب وموطن الثقافة ومهبط الوحي. ان لبنان، بفضل طموح شعبه، تغلّب على هذه المأساة الكبيرة التي تعجز عن احتمالها حتى أعظم الدول».

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق