آدب

نجيب زكا: سماحه الخوري الأكاديمي المكلّل بغبطة الخير

الوجود الأكاديمي اللبناني في فرنسا واقع جذوره تفصح عن ترسّخه، وثماره تنطق بجدّيته ورصانته. اثنان تربّت عليهما أرتال من الجامعيين واغتنت بجهدهما العلمي المكتبات الأوروبية والعربية، انهما البروفسور سماحه جورج الخوري والبروفسور نجيب منصور زكا. الأول فتحت له مدينة بوردو المتكئة على المحيط الأطلسي ذراعيها لمدة ثلاثة عقود قبل أن يغيّبه الموت وهو في ذروة العطاء. والثاني يواصل مسيرة عطاءاته منذ أربعين من السنوات في مدينة ليل المنبسطة على سهول الفلاندر، ملتقى التنوع الثقافي. عرفت نجيب زكا في التسعينيات من القرن الماضي في أحد المؤتمرات الثقافية في القاهرة، وهو الذي عرّفني بسماحه الخوري خلال أحد المؤتمرات التي ينظّمها «المجمع الثقافي العربي» في بيروت، مشاركاً في أعماله ومتحدثاً عن «اهتمام الغرب الأوروبي بالحضارة العربية بشكل عام، وعن التراث العربي في بوردو بشكل خاص». «الأسبوع العربي» تلتقي البروفسور نجيب زكا، عميد كلية الدراسات الأوروبية والآسيوية في جامعة شارل ديغول الفرنسية في مدينة ليل، بمناسبة وجوده في لبنان لنتعرّف أكثر على شخصية زميله الذي تبقى لنا ذكراه محجّة تنوّر وعبق اخلاص.

ماذا يبقى في الذاكرة بعد رحيل صديق وزميل كالبروفسور سماحه الخوري؟ وكيف تقوّم شخصيته أنت الذي رافقته في المنفى والعمل الجامعي؟
عن الكاتب الفذّ ميلان كونديرا: «فقط عندما نتفحص الماضي بعيون الذّكرى، تتكشّف لنا معانيه ويتيسّر لنا فهمها».
لم تدر بلدة الطيّبه البقاعية أن ابناً ولد فيها في كانون الأول (ديسمبر) 1948 يدعى سماحه الخوري سيحملها يوماً في «محفظة» قلبه ويهاجر هجرة فرضتها ظروف وطن غير متصالح مع نفسه، وطن يدفع بأبنائه الى منفى يضجّ بالقلق، ويواكب همّ الداخل مشوار اللبناني المنثور في بقاع الأرض.
امتشق البروفسور سماحه الخوري قلماً وهمّاً ومثابرة وراح يغوص في الأبحاث حتى غدا معلماً من معالم الفكر المتميّز في الجامعات الفرنسية، وترك جهداً في قوارير الذّاكرة هو صنو العطر من الزهر.

فضيلة التذكّر
متى رحل، وما الذي جمعك به؟
أوصدت على البروفسور الخوري بوابة العمر في 22 شباط (فبراير) 2012، وأودع الدنيا ميراثاً فكرياً وانسانياً في حيّزين: العلم والمحبة.
جمعتني به صداقة وزمالة ولقاء منفيّين عن الوطن، تعاونا أكاديمياً في جامعتي «ليل» و«بوردو» الفرنسيتين، تلقفتهما الغربة فانبلجت اطلالتهما المشعّة على غصّة لفراق وطن وحظوة بخميرة انسانية متجددة. قاربا مفهومي جان بول سارتر والقديس اغسطينوس لحياة عبثية بقدر ما هي طين لاهث الى الألوهة.
واحد اسدل الستار وواحد يكابد فضيلة التّذكّر.

مفاتيح خزائن الشرق
ماذا اعطى سماحه الخوري الغرب؟
سماحه الخوري في مشواره الدنيوي عبر ياسميناً، عشقه الليل ونبراسه القمر. أهدى الغرب مفاتيح خزائن الشرق المعرفية وفلش ابن الطيّبه البقاعية زوّادة الأستاذ الباحث على طاولات الجامعات ومراكز البحوث الفرنسية والأوروبية، فلم ينضب الزّاد ولا يزال معازيمه على ازدياد.

مسيرة مكلّلة بغبطة الخير
ما يتراءى لك عندما تتذكره؟
عندما أتذكر سماحه الخوري تتراءى لي انسانيته اللجوجة، حميميّة البراءة، متقشّفة التنسّك حيال تراكم الأحداث المشوبة بالبشاعة في عالمنا.
انتهر سماحه زمانه الميكيافيلي وصفعه بالكبرياء وأكمل مسيرة أخلاقية مكلّلة بغبطة الخير. أصان نفسه بالحقيقة، وبشجاعة دافع عن القيم الإنسانية، وبتواضع القابض على ناصية المعرفة.
ما كان جامعياً منظّراً بل هو معلم واقعي من خلال التجارب البشرية، بالتزامه الدّيالكتي في زمن الكوارث التزام باسكال، ودوستيوفسكي والبير كامو.
تكلّلت مهنته الجامعية بالتزامين: رفض المراوغة، ومقاومة الظلم، وقال قول البير كامو القائل: «كان لديّ اختصاص وحيد: الدفاع عن القضايا المحقّة».
وببساطة النور أضاف على حياته إشعاعاً، وتجلبب تواضعاً انتشله من ضجيج العالم وتصلّب شرايين الرحمة فيه.
ما كفر قط بنعمة الضوء، وما فرّط بكينونة بشرية، حرّاً تربى عليها في شمم ضيعته البقاعية.

مسيرة أكاديمية ثرية
كيف ترسم مسيرته الأكاديمية الثرية؟
في 1980 بدأ سماحه الخوري مسيرة الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية، معهد العلوم الإجتماعية لثمان من السّنين متميزاً في علم الإجتماع العربي وصراعات الشرق الأوسط. مذ ذاك كان تواصل مع جامعة تولوز الفرنسية، وكان أن تطوّر التعاون الأكاديمي مهيّئاً له فرصة التعرف بالعديد من الجامعيين. ونحا نحو التخصّص بتاريخ الصراعات والحروب «la polémologie» غداة تسميته أستاذاً محاضراً في جامعة بوردو في العام 1979 حيث ركّز جهوده العلمية على الحضارة «العرب اسلامية»، تاريخ الشرق الأوسط، الإسلام والمعاصرة، المجتمع، الدين، الحروب. من هذه كافة شكّل بيئة أبحاثه وتحاليله.
في بواكير 1979 استحوذه اهتمام خاص بالصراع «العرب اسرائيلي» بحصوله على دكتوراه حلقة ثالثة في هذا المجال، الى ان حصل في العام 1985 على دكتوراه دولة في علم الإجتماع السياسي، ليتربّع على كرسي الدراسات «العرب إسلامية» في جامعة بوردو.
انتهج البروفسور سماحه الخوري الإتجاهات الآتية:
– الصراعات والتطورات الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط.
– الإسلام السياسي.
– علم الإجتماع التنموي.
– علم الإجتماع السياسي.

الى جانب بحوث عن الشرق الأوسط القديم، شرق الحضارات والإنكسارات، بلوغاً الى القرن العشرين، حيث غدا من أبرز الجامعيين، أصحاب الإهتمام في فرنسا، بالحركات السياسية في الشرق الأوسط الحديث، دون اهمال أثر نشوء الحركة الصهيونية في خلق الكيان الإسرائيلي.
في سياق أبحاثه صوّب على ظاهرة العنف «الشرق أوسطية» عنفاً متصلاً بالمد الديني العاطفي المتمثل «وعداً الهيّاً».
في العام 2002، صدر له في بيروت «فلسطين الأرض المختارة»، بعد صدور في العام 2000، عن جامعة بوردو «فلسطين – اسرائيل، دراسة تاريخية سياسية».
وله في الإسلام السياسي مطبوعات:
– الإسلام، وريث الثقافة الساميّة الشرقية.
– الإسلام والعلمنة.
– حقوق الإنسان في الإسلام.
– الإسلام وتحدّيات الحداثة.

الى هذه جميعاً تضاف دراسات قيّمة حول:
– الشرق والغرب: تلاق ام صراع؟
– أمبراطوريات الشرق الأوسط.
– فرنسا والعالم العربي: صراع ام حوار وتكامل؟
- دور الميليشيات في لبنان.

مسؤوليات أكاديمية
ما هي المسؤوليات الأكاديمية التي تسلمها البروفسور سماحه الخوري؟
في مسيرة مسؤولياته، تسلّم البروفسور سماحه الخوري في جامعة بوردو حيّزاً متقدماً الى جانب المؤسسات العلمية في باريس، منها:
– رئاسة معهد الدراسات الشرق – أوسطية – الأفريقية.
– عضوية مجالس الجامعة الإدارية، التربوية، العلمية.
– عضوية المجلس الوطني للجامعات الفرنسية، باريس.
– عضوية المركز الوطني للعلوم، باريس.
– عضوية مجلس أمناء «المجمع الثقافي العربي» – بيروت.
- الإشراف على التعاون الجامعي بين جامعة بوردو والجامعة اليسوعية – بيروت، وجامعة القاضي عيّاض، في مراكش المغربية.

حب الحياة
كلماتك الأخيرة، عن صديق وزميل رحل قبل أوانه… فماذا تقول؟

«منهم من يصل الى المحبة والرّأفة، دون المرور بالسّخاء والمروءة» قول لأندريه مالرو.
سماحه الخوري، السّخي الرؤوف، بلغ المحبة بالعلم، متصالحاً مع العالمية، غير متناس غباراً لفّ قدميه العاريتين على دروب «الطيّبه» المتأزّرة شمس البقاع.
غادر على يقين: الحياة استمرارية الصداقة. وكأولئك الكبار حمل عالمه الخاص وتباشيره الممتازة. احتضن في صدره قلباً كبيراً ما وقع قطّ في شرك المحسوس الزائف. تحرّك بلا اضطراب، قوياً، لم تستهوه اللامبالاة.
أحب الحياة لرمق أخير، وسافر حاملاً في نورانية عينيه قول دوستيوفسكي: «لنحبب الحياة ولا نلهث لمعرفة كنهها. ان غاب حب الحياة غاب معه أي معنى بامكانه مؤاساتنا».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق