سياسة عربية

مصير صعب ينتظر الساحة الفلسطينية

منذ بدايات انتفاضات الشارع العربي في العديد من الدول، وهو الحدث الذي يطلق عليه مصطلح مثير للسجال والاختلاف، وهو «الربيع العربي»، كان السؤال الاكبر الذي تبادر الى اذهان المهتمين: ماذا ستجني القضية الفلسطينية من هذا المعطى المستجد الذي فاجأ الكثيرين؟

هل ستحمل هذه التحولات الجذرية في عمق البنية السياسية والاجتماعية العربية ما من شأنه اعادة قضية العرب المركزية الى الصدارة والواجهة بعدما تراجعت الى ادنى درجات سلم الاهتمام العربي، وبات الفلسطينيون وكأنهم متروكون لاقدارهم، مستغرقون في التجاذبات والصراعات بين السلطة الفلسطينية وعمودها الفقري حركة «فتح» والتنظيم الفصيل الاخر الصاعد في موازاتها وهو حركة «حماس» وهم بلا حول ولا قوة في مواجهة الذئب الاسرائيلي؟
السؤال عينه وان بشكل مختلف اعيد طرحه بقوة بعد تطورين اثنين اساسيين هما:
الاول: عودة السلطة الفلسطينية الى طاولة الحوار مع الجانب الاسرائيلي بعد ضغوط مشددة مارسها الجانب الاميركي على الطرفين اقتضت 4 زيارات متتالية ومتقاربة زمنياً لوزير الخارجية الاميركية جون كيري الى عواصم المنطقة، ومنها القدس المحتلة ورام الله.
الثاني: عودة الاضطراب والانقسام الى ساحات وعواصم عربية اساسية وفي مقدمها القاهرة كانت الى اجل غير بعيد قد عاشت مخاضاً سياسياً وامنياً شاقاً بدأ بالانتفاضة على انظمتها السابقة ثم دخلت مرحلة صراع ديموقراطي وغير ديموقراطي بين القوى الفاعلة المؤهلة لقيادة المرحلة الجديدة، ثم عاشت استقراراً نسبياً بعد استيلاد سلطة سياسية جديدة عبر صناديق الاقتراع. ولم يعد خافياً ان المثال الابرز لذلك هو ما شهدته مصر منذ عامين وما تشهده الان، فضلاً عما يحصل في تونس وما هو مستمر حصوله في الساحة السورية.

نجاح اوباما
وهكذا وفي ساعة الاحتدام العربي، او بمعنى اخر في لحظة انعدام الوزن العربي مجدداً ودخول ساحات اساسية واعدة وفاعلة مثل الساحة المصرية في لجة صراع داخلي شديد وفي لحظة انعدام الوزن، تنجح ادارة باراك اوباما في ولايتها الثانية في دفع المفاوض الفلسطيني الى الجلوس الى طاولة واحدة مع الاسرائيلي استئنافاً لرحلة المفاوضات المباشرة التي كانت توقفت منذ نحو ثلاثة اعوام بعدما استغرقت اشهراً عدة قبل ذلك.
وبناء على هذه الوقائع والتحولات الدراماتيكية التي لا يمكن لاي مراقب التكهن من الان بمآلها وخواتيمها ونتائجها، ولا يمكن ايضاً معرفة ما اذا كانت ستجد مصيراً مغايراً لمصير جولات المفاوضات المماثلة السابقة، فإن السؤال الملح هو: كيف ستنعكس هذه الاجواء والمناخات المقلقة والمضطربة التي تخيم على الساحات العربية على الوضع الفلسطيني نفسه من جهة، وعلى مسار المفاوضات المستأنفة بين الفلسطيني والاسرائيلي من جهة اخرى، وهل ستكون عاملاً مساعداً ام عنصراً سلبياً لمصلحة الجانب الفلسطيني؟
لا شك في ان تداعيات استئناف المفاوضات وانعكاساتها على الساحة الفلسطينية بدأت تظهر حتى قبل ان تنصب طاولة المفاوضات الموعودة ويجلس اليها الطرفان المعنيان.
فلم يعد خافياً ان السجال والخلاف تمددا بشكل تصاعدي بين القوتين الاساسيتين في الساحة الفلسطينية على خلفية خوض حركة «فتح» غمار الجولة الجديدة من المفاوضات. والاجواء بين الطرفين كانت تشهد بالاساس احتقاناً وتوتراً كامناً ودفيناً بناء على امرين:
الاول: عدم وصول المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية الموعودة الى الخاتمة المنتظرة، فهي تعثرت بفعل الغيبوبة التي يعيشها الجانب المصري الراعي الاصلي لهذه المصالحة والمتعهد لاتمامها، وذلك بعد «الانقلاب» الذي اطاح الرئيس الاسلامي محمد مرسي.
الثاني: انعكاسات وتداعيات الاحداث المشتعلة في ساحات عربية عدة ومنها خصوصاً مصر وسوريا على مسار العلاقة الفلسطينية – الفلسطينية. فالمعلوم ان حركة «فتح» ابدت «شماتة» كبيرة ومعلنة بالانقلاب العسكري الشعبي على نظام الاخوان المسلمين في القاهرة برئاسة مرسي، بسبب ان هذا النظام المعزول الآني كان محتضناً لحركة «حماس»، وكانت هي تعتبره سنداً اساسياً لها بسبب التجانس العقائدي والفكري بين الحركة الاسلامية والاخوان المسلمين.

بين «فتح» و«حماس»
وهذا الواقع طغى طوال ايام عدة على الساحة الفلسطينية واستدرج ردة فعل من جانب «حماس»، خصوصاً ان معلومات سرت بعيد ذلك وقالت ان حركة «فتح» بعثت بوفد قيادي عالي المستوى برئاسة القيادي زكريا الاغا الى دمشق، حيث اجتمع بعدد من المسؤولين في نظام الرئيس بشار الاسد. ورغم ان الهدف المعلن للزيارة النادرة هو العمل على صفقة سياسية من شأنها اخراج مخيم اليرموك والذي يضم كتلة بشرية كبرى من اللاجئين الفلسطينيين من بؤرة الصراع التي يعيش تحت وطأتها منذ فترة، بعيد دخول قوات معارضة اليه والتحصن فيه، مما جعله هدفاً لقوات النظام فصار المخيم ميدان مواجهة حقيقية، الا ان الزيارة فسرت من جانب «حماس» وانصارها على انها بداية لمد جسور التواصل وقنوات الاتصال مع النظام في سوريا، بعدما وقع الطلاق النهائي بين هذا النظام وحركة «حماس» اثر اندلاع الاحداث في الساحة السورية.
وقد ردت «حماس» على ذلك كله بفتح معركة سياسية – اعلامية واسعة ومتشعبة ضد ذهاب الوفد الفلسطيني مجدداً الى طاولة المفاوضات، وذلك في محاولات مكشوفة غايتها القول بأن «فتح» تنفرد بالقرار الفلسطيني فيما الشارع الفلسطيني في مكان آخر، لا يبدي حماسة او ارتياحاً لهذه الجولة الجديدة من المفاوضات رغم ان اسرائيل قدمت وللمرة الاولى «عربوناً» جيداً كان حتى الامس القريب مطلباً عزيزاً للشعب الفلسطيني وهو اطلاق نحو 104 اسرى يعود اعتقالهم الى مرحلة ما قبل اتفاق اوسلو المعقود في العام 1994.

عودة الصواريخ
اضافة الى ذلك، فإن اللافت كان عودة الصواريخ المطلقة من غزة وقطاعها في اتجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما فسره بعض المراقبين على اساس انه نوع من تعكير الاجواء سلفاً على الوفد الفلسطيني المتأهب للذهاب الى طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين، وبالتالي اظهار ان الواقع الميداني هو في يد ليست اليد نفسها التي تفاوض.
وفي السياق نفسه ثمة من يدرج اعادة الروح اخيراً الى قنوات التواصل بين حركة «حماس» ورفيقيها السابقين في محور الممانعة اي ايران و«حزب الله» والذي عدته اوساط عدة حدثاً مهماً ولافتاً، اذ ان الحركة لا تريد ان تظهر في مظهر «اليتيم» الفاقد للاب والمرجعية ولا سيما انها بدأت تخوض معركة حقيقية ضد المفاوضات التي كانت حتى الامس القريب امراً مؤجلاً فإذا بها الان تصير امراً واقعاً وملحاً هيأت واشنطن له المسرح بدقة وعناية، بصرف النظر عن النتائج والمآل.
ولا شك في  ان ثمة عاملاً آخر يبدو ان «حماس» تستفيد منه في سياق معارضتها الشديدة لعودة المفاوضات مع الاسرائيليين وهو ان غالبية الفصائل الفلسطينية ولا سيما التاريخية منها وفي مقدمها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بدأت حملة اطلقت عليها حملة اسقاط المفاوضات قبل ان تبدأ.
صحيح ان هذا الفصيل العريق لم يعد يملك القدرة والامكانية لوقف عجلة المفاوضات، الا ان له قيمة رمزية وتاريخية وصوت وازن في الساحة الفلسطينية نظراً لتاريخه النضالي منذ ان تأسس في العامين الاخيرين من عقد الستينيات من القرن الماضي، على يد الزعيم الفلسطيني الراحل جورج حبش.
يضاف الى ذلك ان فصائل اخرى كانت حتى الامس القريب تدور في فلك حركة «فتح» وتعد نفسها جزءاً لا يتجزأ من السلطة الفلسطينية لم يكن بامكانها هذه المرة ان تغطي المسيرة الجديدة للمفاوضات مع الاسرائيليين، فجاهرت للمرة الاولى بمواقف اعتراض.
وهكذا تذهب حركة «فتح» هذه المرة الى طاولة المفاوضات وهي تفتقد الى تأييد واسع من الشارع الفلسطيني كما جرت العادة في المراحل السابقة، فضلاً عن ان كل الاستطلاعات اشارت الى ان غالبية الشارع تتعامل بلا مبالاة مع هذه الجولة الجديدة من المفاوضات ولا تعقد عليها اية آمال تذكر.

ماذا ينتظر الساحة؟
وعليه، فإن السؤال المطروح هو: الى ماذا سيقود هذا الوضع وبمعنى اكثر دقة ماذا ينتظر الساحة الداخلية الفلسطينية اصلاً تحت وطأة حدثي عودة المفاوضات مع الجانب الاسرائيلي من جهة، وصيرورة ساحات عربية اساسية وفي مقدمها الساحة المصرية فوق صفيح ساخن من الاضطرابات المفتوحة على الاحتمالات السوداء؟
ثمة من المراقبين من يرى ان المفاوض الفلسطيني هذه المرة سيكون في اسوأ حالاته واوضاعه فهو سيذهب الى الجلوس مع عدوه التاريخي وليس من عيون عربية تتابعه وليس من وقت اصلاً لدى العواصم العربية الفاعلة لرصده ورفده، ولو بالدعم المعنوي على الاقل.
وفي الوقت عينه، سيذهب هذا المفاوض والساحات العربية غارقة حتى اذنيها بمشاكلها وصراعاتها التي ادخلت بعضها دائرة الحروب الاهلية المديدة والمدمرة وهذا ما يحصل في الساحة السورية خصوصاً، ووضعت بعضها على شفا الحرب الاهلية كمثل ما هو حاصل في القاهرة منذ اكثر من شهر.
فضلاً عن ذلك كله سيذهب هذا المفاوض ووراءه شارع فلسطيني غير مهتم، ووراءه ايضاً فصائل فلسطينية من مكونات الشعب الفلسطيني لا تمخضه اي تأييد، بل على عكس ذلك يذهب هذا المفاوض وهو يدرك تمام الادراك ان وراءه  صدعاً فلسطينياً داخلياً عميقاً لم تنجح جهود كبرى بذلت في رأبه.
وبناء على كل هذه المعطيات بات واضحاً ان الساحة الفلسطينية تنتظر مزيداً من التصدعات والخلافات ومعها ستتبدد كل الآمال التي عقدت لفترة من الزمن على امكان ان يزهر «الربيع العربي» مصالحة فلسطينية – فلسطينية تطوي صفحة خلافات وصراعات طويلة كلفت الشعب الفلسطيني خسائر كبرى.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق