ملف

بتحب لبنان إحمل جنسيته

زيارتهم ليست صدفة، ولا فوزهم في المباراة التي أجريت عبر الانترنت . فهم قرروا عن سابق تصور وتصميم أن يدرسوا ويعمقوا ابحاثهم ليعودوا الى وطن الأجداد ولو في زيارة مدرجة تحت عنوان «العودة إلى الجذور». 40 شاباً من أصقاع الاغتراب اللبناني فازوا في المباراة التي نظمتها الأكاديمية التابعة للمؤسسة المارونية للإنتشار، حضر منهم 30 . وفي أقل من 30 يوماً فهموا أن الوطن الحلم هو أكثر من فولكلور. وما سمعوه وقرأوا عنه في الكتب عن أرض الأجداد وتاريخ الموارنة في لبنان ليس مجرد حكاية ولا اسطورة تتناقلها الأجيال لتصل الى من يهمه الأمر. انتهى الحلم؟ ربما لأيام وأشهر وتكمل الرسالة.  فالثلاثون  تحولوا رسلاً وسفراء للمؤسسة في بلاد الاغتراب. والدفعة الثانية صارت على السكة.

هواجسهم تختلف عن هواجس شباب جيلهم في لبنان. أحلامهم، طموحاتهم، أفكارهم وحتى نظرتهم إلى تفاصيل الأمور مختلفة. لكن من قال إن التفاصيل تهم ذاك الشاب الثلاثيني الذي تطأ قدماه للمرة الأولى أرض الوطن؟ حتى ما يسمى بالإصطفاف السياسي وإسطوانة الفتنة النائمة لم يسمعوا بها، وهي أساساً لا تعنيهم. ففي عالم الإغتراب تعودوا على عيشة «الخليط» البشري واللاطائفية السياسية، وإن كانوا متمسكين بمارونيتهم التي قرأوا عنها الكثير في كتب تاريخ الموارنة وتعرفوا إلى القديسين والأجداد الذين سكنوا الكهوف والمغاور. لكن كان المفروض أن تطأ أقدامهم أرض لبنان ليتعرفوا إليه بنظرتهم الخاصة ويتنشقوا رائحة الأرض التي كانت أشبه بحلم تحقق بفضل المؤسسة المارونية للإنتشار التي سكبت المفتاح الأول عن طريق مشروع الأكاديمية، ليتحول الحلم إلى حقيقة.

في ديارنا
في 12 تموز (يوليو) وصلوا إلى لبنان. 30 شاباً وشابة نزلوا أرض مطار رفيق الحريري في بيروت، منهم للمرة الأولى، ومنهم من زار الوطن طفلاً رضيعاً. هنا استقبلتهم المؤسسة المارونية للإنتشار التي تكفلت في دفع كلفة تذاكر السفر والتنقلات وباقي مستلزمات الزيارة، أما الإقامة فكانت في ضيافة رهبان جامعة الروح القدس الكسليك. سبق اليوم الكبير تحضيرات على مدى سنة بكاملها. أمينة السر في المؤسسة المارونية للإنتشار هيام بستاني أوضحت ان المشروع الذي انطلق من قلب المؤسسة بمبادرة من رئيسها الوزير السابق ميشال إده يهدف إلى توثيق الروابط بين الإغتراب اللبناني وتحديداً جيل الإغتراب الثاني والثالث وأبناء وطنه الأم، وتوعيته على أهمية التسجيل في سفارات بلاده للحصول على الجنسية اللبنانية.
بعد وضع الخطوط العريضة لمشروع الأكاديمية، انكب المعدون على وضع البرامج التثقيفية على مواقع الإنترنت للتعريف ببرنامج الأكاديمية اللبنانية والشروط الواجب ان يتمتع بها الراغبون في الإنتساب. وتولت الرعايا في كنائس الإغتراب ومكاتب المؤسسة، نشر البرنامج وتعريف الشباب المغترب عليه، إضافة إلى الصفحة التي استحدثت على مواقع الإنترنت. وبلغ عدد الشباب الذين تلقوا دورة تعليمية عبر الإنترنت نحو 90 شاباً، وتولى تدريبهم وتثقيفهم الإعلامي أنطوان سعد الذي عرض معهم مواضيع تتعلق بالشأن السياسي وتحديات الموارنة في لبنان، والمحامي عون الذي ناقش مواضيع إقتصادية. في حين تولى الأب كميد المواضيع التي تعنى بالكنيسة والمواقع الدينية الأثرية والتاريخية في لبنان.

لبنانيون من كل العالم
بعد إخضاع 90 شاباً مغترباً للإمتحانات التي أجريت عبر الإنترنت فاز 40. ومنهم من تفوق في علاماته فنال 22 علامة على 20. صدفة؟ لنقل إنه قرار ذاتي ورغبة في المجيء إلى الوطن الأم عن سابق علم وثقافة. أما الطلاب الفائزون فتنوعت جذورهم، فمنهم من جاء من الأرجنتين، والبعض من البرازيل والمكسيك والولايات المتحدة وأستراليا وسويسرا ومصر… أما الشرط الأساسي فهو أن يكون الطالب ملماً باللغة الإنكليزية علماً بأن البعض يتقن القليل من اللهجة اللبنانية، لكنها غير كافية حتماً لإخضاعه لامتحان باللغة العربية.
خبر الفوز بالإمتحان كان بمثابة الحلم، خصوصاً بالنسبة إلى الشباب الذين لم تطأ أقدامهم أرض لبنان. وقد عبروا عن ذلك بلكنتهم اللبنانية «المكسرة». المهم أنهم وصلوا إلى لبنان. لكن أقل من العدد الرسمي بعشرة طلاب. ومنذ اللحظة الأولى على دخولهم الأكاديمية لمس المدربون والأساتذة المرافقون  لهفة الشباب المغترب وحنينه إلى الوطن. حتى نظرته إلى الأمور اختلفت. لكن المهم أنه رأى الوطن – الحلم بعيون الشباب المثقف، والمغترب والطامح إلى التعرف إلى وطنه من زوايا جديدة تتخطى زواريب السياسة الضيقة وحسابات أهلها المفصلة على قياسهم. وانطلاقاً من هذه المعادلة التي وضعتها الأكاديمية كأساس في جولاتها مع الطلاب انطلق المشوار التثقيفي والتدريبي والثقافي والترفيهي في ربوع لبنان.

بعيداً عن الزواريب الضيقة
في الشق التثقيفي توضح بستاني أن الطلاب خضعوا لدورات على يد اساتذة وإعلاميين ومثقفين ورجال دين وأعضاء في المؤسسة المارونية للإنتشار. وشملت المواضيع عناوين عدة، منها ما يتعلق بالمؤسسة المارونية للإنتشار وأخرى عن التحديات الإقتصادية. وتولت بستاني المحاضرات التي تعنى بالإنتشار الماروني في العالم وأهمية التسجيل في السفارات. وركزت بعض المحاضرات على التعددية الموجودة في لبنان والتي تشكل مثالاً يحتذى به في العالم. ولم تغفل المحاضرات حول واقع لبنان السياسي في ظل الصراعات القائمة في المنطقة، إضافة إلى تقديم عرض عن النظام الطائفي مع التركيز على الوجه الإيجابي. لكن الأهم من كل ذلك أن روحية المحاضرات كانت بعيدة عن زواريب السياسة الضيقة «إذ تجنبنا الأخبار التي تتكلم عن الزعامات السياسية ومواقفهم ولم نتطرق إلى اصطفافات 8 و14 آذار» على ما يقول رئيس الأكاديمية لوران عون الذي ألقى عدداً من المحاضرات في الإقتصاد والتحديات المقبلة على لبنان والمنطقة.

 

 


الى كل ربوع لبنان
سياحياً لم يغفل البرنامج الذي نظمته الأكاديمية أية بقعة: من أقصى الشمال إلى الجنوب، ومن غربه إلى شرقه. البداية من زحلة حيث زار الطلاب مع الأساتذة والمدربين مصنع «كسارة». كما جالوا في ارجاء المواقع الأثرية دون استثناء واحدة منها. من هناك انتقلوا في الأيام التالية إلى قنوبين وتعرفوا إلى المغاور الدينية والأقبية التي اختبأ فيها الموارنة قديماً حتى إن البعض تجرأ على القول بأن هذه الأرض المباركة تقدست بدماء شهدائها وستبقى طالما أن هناك مؤمناً واحداً فيها.
في اسواق بيروت و«الزيتونة باي» رقصوا وتعشوا وتسوقوا. وفي باقي الأيام زاروا متحف بيروت ثم توجهوا إلى غابة الأرز وزرعوا شجرة أرز بإسمهم. ثم انتقلوا إلى  دير مار مارون – عنايا وناموا تحت أقدام القديس شربل الذي وصلت نعمه إلى أصقاع العالم وبات صديق وشفيع اللبناني المغترب قبل المقيم. ومن متحف بيروت إلى متحف جبران خليل جبران في بشري فالديمان لزيارة مقر البطريركية المارونية الصيفي ونيل البركة من الكاردينالين بشاره الراعي ونصرالله بطرس صفير. نزولاً نحو إهدن وتحديداً محميتها الطبيعية ومواقعها الدينية والطبيعية التي لا تخلو من الإبهار. ونهاية المطاف في كسروان وجرده حيث تعرفوا إلى جبال هذا القضاء العريق بتاريخه الماروني ومعالمه السياحية والدينية بدءاً من بازيليك سيدة لبنان وتلفريك جونية مروراً بمغارة جعيتا صعوداً نحو الجرد حيث زاروا معالم فقرا السياحية والرياضية وأنهوا مشوار الحلم في زيارة مدينة جبيل وتعمقوا في تاريخ الحرف الأبجدي، ثم توجهوا إلى الجبل فزاروا بيت الدين ودير القمر وصولاً إلى أعالي الباروك.

قرار العودة!
ينقل اساتذة ومدربون رافقوا شباب الإغتراب في رحلاتهم الإستكشافية والسياحية، أن انغماسهم في أرض الغربة لم يطفىء شعلة الحنين عندهم. وعلى العكس فقد توهجت مع تلقيهم خبر فوزهم في الدورة التي خصصتها الأكاديمية، بدءاً من العام الماضي. حتى إن البعض ذهب إلى أبعد من حدود استكشاف الوطن وبث خيوط الحنين فيه، فقرر أن يزور لبنان في الصيف المقبل لكن مع العائلة التي تصنف من جيل الهجرة الثاني. ومنهم من صمم على العودة إلى لبنان بعد إنهاء تخصصه لافتتاح شركته الخاصة هذا إذا سمحت الظروف الأمنية والسياسية في ذلك. وهذه الشريحة وحدها سمحت لنفسها الغوص في خلطة السياسة والإصطفافات لمعرفة الحقائق. وهذا طبيعي لأنها ستحدد مصير المستقبل الذي سيحملونه معهم من وطن الغربة إلى الوطن الأم. وإذا كان المغتربون الأوائل اكتفوا في «صنعة» ما أو العمل كسائق تاكسي أو في افتتاح محطة وقود أو سوبر ماركت أو مطعم او محال سندويشات، إلا ان الجيل الجديد الطالع أبدع في مجالات عدة لا سيما منها في التكنولوجيا والطيران.
لكن اللافت هو تعلقهم بجذورهم اللبنانية ومارونيتهم وهذا ما حمسهم على التمسك أكثر بمشروع التسجيل في السفارات للحصول على الجنسية اللبنانية «ودورنا اليوم أن نساعد ملايين اللبنانيين المنتشرين في الخارج على استعادة الجنسية اللبنانية. لا ننكر اهمية الإغتراب وما يؤمنه للبنان وللعائلات من مداخيل تصل إلى 8 مليارات دولار سنوياً، لكن لدينا دور آخر ومهم جداً هو استعادة الجنسية والإقتراع ولو من الخارج لأننا لبنانيون أولاً وآخراً». إعتراف جريء وواضح من ماري التي ولدت كما أهلها في استراليا، ولا تعرف من لبنان إلا صورة حملها أحد الأجداد من قريته بطرام – الكورة في الشمال اللبناني. اليوم أصرت على ان تعود إلى ذاك المكان لتجد البيت المتكىء تحت شجرة عتيقة يابسة. وحده المكان بوحشته أعاد إليها الحنين الذي كان خافتاً، وازدادت إصراراً على زيارة لبنان وتحديداً قريتها في الصيف المقبل مع أهلها. «وسأصر على إعادة تأهيله ليصبح مؤهلاً للسكن. وهكذا يمكننا ان نأتي كل صيف لقضاء الموسم في وطننا الحلم».

 

 


ماذا يعني أن تكون لبنانياً وتفخر بذلك؟
عندما رسم الوزير السابق ميشال إده والمعنيون في المؤسسة المارونية للإنتشار خريطة طريق مشروع الأكاديمية كان الهدف واضحاً: «إعادة وصل جيل الشباب المغترب بوطنه وتحفيز مشروع التسجيل في الإغتراب لاستعادة الجنسية اللبنانية، خصوصاً ان عدد المسيحيين اللبنانيين المنتشرين في اصقاع العالم بات يشكل حافزاً لذلك. ولفتت بستاني إلى دور المغترب في تنشيط الحركة الإقتصادية «لكن يمكن أيضاً الإفادة منهم ولا سيما أن حركة الإبداع اللبناني بدأت تنشط وتتوسع اكثر فأكثر. وما أحوجنا إلى هذه الطاقات ولو من خلال التواصل من الخارج». هذا الواقع ترجمته إحدى المحاضرات التي ناقش فيها الشباب المغترب مع الأستاذ المحاضر هواجسهم إنطلاقاً من العنوان الآتي: «ماذا يعني أن تكون لبنانياً وتفخر بذلك؟» وما ساعد في توسيع آفاق الشباب إصرار المولجين في مرافقتهم والأساتذة المحاضرين على عدم الدخول في الأوضاع السياسية وزواريبها الضيقة، «فاقتصر النقاش السياسي على دور لبنان ومصيره في ظل الصراعات القائمة في المنطقة». لكن البعض اصر على الدخول في التفاصيل فكان المنفذ الوحيد في تعميق الحوار حول دور اللبناني المغترب في توطيد معرفته بأرضه والتركيز على التعددية التي تشكل مثالاً كون لبنان هو البلد الوحيد في محيطه الذي يحظى بهذه الميزة، ومناقشة النظام الطائفي مع تسليط الضوء على النواحي الإيجابية فيه.
من الخطأ ربما ان نرسم للشباب المغترب الذي يزور لبنان للمرة الأولى أو الثانية على أبعد تقدير صورة زهرية أو مخملية عن الواقع السياسي والنسيج الطائفي والأرضية الإجتماعية فيه، «لكن كان المطلوب أيضاً الا نضع أمام هذا الشباب المتحمس لزيارة لبنان، وقد أثبت ذلك من خلال التحضير للدورات وإجاباته التي خولته نيل علامة التفوق، حجر عثرة، فنتكلم معه مثلاً عن الواقع الأسود وإن كان واقعاً ملموساً. لكن حتى الشباب المغترب يدرك أن من صمد في وادي قنوبين لن تهزمه مؤامرات الدول الكبرى ومخططات إزالة لبنان ومسيحييه عن الخريطة الجغرافية. إنطلاقاً من ذلك يقول رئيس الأكاديمية المحامي لوران عون: «اصررنا على تعميق صلات الوصل بين اللبناني المغترب والمقيم من خلال تعريفه على وطنه بكل وجوهه الحضارية والثقافية وحتى الفكرية والسياسية، لكن بعيداً من زواريبها. وبذلك نكفل وجود جيل ماروني مكودر في الخارج نعول عليه في المستقبل».
بشغف، يتحدث المحامي عون عن العلاقة التي ربطت الشباب المغتربين بأرضهم علماً بأنهم من الجيل السادس وربما السابع «حتى إن البعض تخلى عن دورات الصيف الجامعية وفضل أن يأتي إلى لبنان بعدما سمع بخبر فوزه وتفوقه في العلامات. وحسناً فعل لأنه سيكرر الزيارة السنة المقبلة مع الأهل والأجداد إذا ساعدهم الوضع الصحي على ذلك».

دورة جورج افرام
في 28 تموز (يوليو) أنهى الشباب المغتربون دورتهم في الأكاديمية. لكن القصة لم تنته مع آخر يوم من النشاطات الترفيهية والثقافية. فمع انتهاء الدورة كرمت الأكاديمية طلابها من خلال حفل تخرج اقيم لهم في منزل الوزير السابق جورج افرام الذي أطلقت المؤسسة المارونية للإنتشار إسمه على اول دورة تخرج من مشروع الأكاديمية اللبنانية التابعة لمؤسسة الإنتشار الماروني، تكريماً لعطاءاته في مجال العلم والثقافة. واقيم للطلاب حفل عشاء بعد توزيع الشهادات عليهم من قبل رئيس المؤسسة ميشال إده.
ومن الثغرات التي سيتجنبها القيمون على مشروع الأكاديمية في الدورة الثانية التي بدأ التحضير لها منذ اليوم، عدم تحديد اللغة الإنكليزية كشرط أساسي في الدورات التحضيرية التي تجرى عن طريق الإنترنت. وستضاف إليها اللغة الإسبانية لأن النسبة الأعلى من المهاجرين اللبنانيين تقطن في أميركا اللاتينية. ويبقى الهدف الذي من اجله كانت الأكاديمية ومشروع التواصل: التسجيل في سفارات الإغتراب. وتؤكد بستاني أن الحملة التي بدأتها مؤسسة الإنتشار منذ 3 أعوام مع اللجان النيابية ليصار إلى إصدار قانون استعادة الجنسية كونه يسهل معاملات التسجيل للمغتربين المتحدرين من الجيلين الثالث والرابع وما فوق، ستستكمل ولن نتراجع خطوة واحدة حتى يصدر القانون».
وفي اليوم الثلاثين انتهى المشوار الحلم. لكن الزوادة التي حملها الشباب المغتربون في زيارتهم التثقيفية والسياحية قد تكفيهم لسنوات، والأهم أن الرسالة وصلت. فالمتفوقون في الدورة نالوا فرصة الحصول على وظائف في مكاتب المؤسسة المارونية للإنتشار في عالم الإغتراب. والكل صار سفيراً ورسولاً للمؤسسة التي ساعدته على القيام بالخطوة الأولى. والباقي يأتي لاحقا، شرط ان يكون الوطن مهيأ لاستيعاب هذه الطاقات التي تشكل قاعدة للبقاء والعودة إلى أرض الجذور والإستمرارية.

جومانا نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق