آدب

لطيف زيتوني: الكلمة كالبذرة تحتاج الى أرض صالحة لتنبت

يعتبر الدكتور لطيف زيتوني من ابرز الاكاديميين في لبنان والعالم العربي، الذي يمارس البحث العلمي عبر كتابة دراسات النقد الادبي، وانكبابه على تحليل النصوص والقضايا ومناقشتها بشكل دقيق وشامل، وبمعرفة وصدق ومسؤولية. وله في هذا المجال مؤلفات عدة، كان آخرها كتاب «الرواية العربية: البنية وتحولات السرد» الذي يسعى المؤلف من خلاله، «الى البحث عن البنية وعن مدلولاتها في النصوص الروائية العربية». بالاضافة الى البحوث المتنوعة والكثيرة التي يقدّمها في الندوات التي يشارك فيها، سواء في لبنان او في دنيا العرب، مضيئاً على ما غاب عن بال النقاد والباحثين. ويأتي هذا الحوار مع الدكتور لطيف زيتوني بعد ما يقارب العشرين سنة على آخر حوار أجريته معه، وذلك بعد صدور كتابه الثالث بعنوان «حركة الترجمة في عصر النهضة» الفريد من نوعه.

منذ زمن بعيد لم نلتق… اين أنت اليوم؟
انا اليوم منشغل بالبحث عن بعض قضايا الرواية النظرية، وهذا ما تعكسه كتاباتي، ولا سيما الكتاب الاخير الذي صدر وعنوانه «الرواية العربية: البنية وتحولات السرد». وهو ايضاً، ينعكس في الكتاب الذي اعدّه الآن والذي لم يأخذ بعد عنوانه النهائي، ولكنه يدور حول الرواية والتمرّد، او تمرّد السرد، نظرياً واجتماعياً.

إنشغالات أخرى
عدا ذلك، ما الذي يشغلك على صعيد آخر؟
عدا ذلك، انا منشغل كالعادة بالتدريس في الجامعة اللبنانية الاميركية، ومنشغل كالعادة ايضاً، في مسائل الشأن العام التي أكرس لها بعض الكتابات القصيرة وانشرها من حين لآخر في المجلات العربية الواسعة الانتشار.
والشأن العام الذي يشغلني ليس الشأن المحلي، لان خصوصية المشكلة اللبنانية واضحة ومرتبطة بخصوصية هذا البلد الذي نسي زعماؤه، عبر الزمن، ان يؤسسوا دولة ينضوون تحتها وفضّلوا ان يؤسسوا شركة يشرفون عليها ويستغلون خيراتها، ومن اجل ذلك، أسسوا أحزاباً وراثية وصارت لهم نوعاً من الميليشيات التي تحمي مصالحهم.
اما الشأن العربي الذي يهمني، فهو المتعلق بالتقدم، وهذا يعني التشديد على خلق مؤسسات رسمية عصرية وعلى تطوير البنى السياسية باتجاه اقامة دول ومجتمعات تعتمد على القانون بدل اعتمادها على الطائفة والقبيلة. وسبق لأمين الريحاني ان اعتبر ان علّة التخلف العربي كامنة في الطائفية والقبلية، ولو كان حيّاً اليوم لزاد على ذلك، انها كامنة ايضاً، في اعطاء الدين حيّزاً اكبر بكثير ممّا ينبغي.

كتابات اولى
ما الذي دفعك الى ميدان الكتابة؟

هذا السؤال قد تكون الاجابة عنه صعبة عند الكتّاب الابداعيين، كالشعراء والروائيين، اما الاكاديميون فيدخلون مجال الكتابة عند بدء التحضير لشهاداتهم العليا.
اول كتاب نشرته، كان إذاً، كتاباً اكاديمياً، وهذه هي الحال في الكتب الاخرى. اما الكتابات التي لم تنشر في كتاب فتعود الى زمن المراهقة حين كنا نكتب القصائد عندما يتحرك القلب بهوى حبيبة. وهذه القصائد بقيت محفوظة في الدفاتر ولم أنشر منها سوى واحدة في ملحق «النهار» في ذلك الزمن.
بقيت المقالات الثقافية او المحاضرات التي تجمع بين الثقافة والسياسة والتي كنت أكتبها في اطار الندوات الكثيرة التي اشارك فيها او تلبية لرغبة في ابداء رأي في قضايا الشعر، ان السكوت عنها هو كالسكوت عن الشر. هذه المقالات ما زلت اكتبها وانشرها، قاصداً منها، إبداء الرأي، لعلّها تجد لدى بعض القراء صدى يشجعهم على استكمال التفكير فيها.

دفاتر قديمة
ما سبب امتناعك عن نشر ما كتبته في دفاترك القديمة؟

ربما يعود السبب الى ان الشعر غالباً ما يعبّر عن الحاضر، حاضر الشعور والقلب، فاذا تغيّر الحاضر صار للقلب هوى آخر. وربما يعود ايضاً الى نوع من الجدّية التي يكتسبها المرء حين يغرق في كتاباته الاكاديمية، فلا يعود يقبل بكل ما يعبّر عن المشاعر والعواطف التي عبّرت عنها قصائد الشباب. واعتقد ان هذه التجربة يعرفها كثيرون.

بين العقل والخيال
كيف تختصر تجربتك الأدبية؟

لا اعرف ان كان يمكن ان نطلق على دراسات النقد الادبي مصطلح كتابات أدبية، فهناك في الحقيقة اختلاف كبير بين من يكتب النصّ الابداعي ومَن يقرأ النصّ. فالناقد قارىء في الاساس ومن قراءاته للنصوص يصبح قادراً على الخروج بأفكار ونظريات تنطبق على الأدب وتصلح لتحليله والحكم عليه، لكن هذا الجهد هو اقرب الى العلم منه الى الأدب، لأن الاعتماد فيه هو على العقل اكثر منه على الخيال، بينما الأدب يسلك طريقاً معاكساً، فغالباً ما ينطلق الأديب من ذاكرته وخياله وهمومه ليبني عالماً او صوراً تتخذ شكل قصيدة او رواية او اقصوصة، بينما الناقد يفصل بين حياته وعمله ولا دور للعاطفة والذاكرة الشخصية في نقده.

  آفاق جديدة!
ما هو تفسيرك لتحوّل النقد الى انواع، وبالتالي الى مذاهب مختلفة؟

هناك فرق لم يكن موجوداً في الماضي بين النقد والنظرية النقدية، فالنقد يهتم بالنصّ الواحد، يقرأ الكتاب ويبدي رأيه فيه استحساناً حيث يصحّ الاستحسان، وهذا هو النقد الذي كان يكتبه الأدباء عندنا عموماً. اليوم، دخلت الفلسفة الى النقد، فجعلت من النقد نوعين.
هذا النوع الجديد المتفلسف هو نقد لا ينظر الى النصّ الواحد بل الى النوع الادبي، فيضع قواعد للنوع وأصولاً لتحليله ومبادىء لمق
اربته، هذه الاصول تحتلف باختلاف المنطلقات الفلسفية، فمنها ما هو اقرب الى العلم كالبنيوية ومنها ما هو اقرب الى الفلسفة كالتفكيكية. وفي كل الحالات، لا تسعى هذه المقاربات الى تحسين تذوق النصّ بل الى تحسين فهمه والى المساهمة في فتح آفاق جديدة لتطويره.

مشكلة قديمة – جديدة
في الزمن الغابر، اطلق امين الريحاني صرخته المدوية، قائلاً: «انا الشرق عندي فلسفات وعندي ديانات فمن يبيعني بها طيارات؟!
❊❊❊
انطلاقاً من هنا، كيف تحدد الازمة المستفحلة التي يعيشها اليوم العالم العربي في زمن «الربيع العربي»، هل هي ازمة فكرية؟

جميل انطلاقك من قصيدة الريحاني، بل من الخطبة التي كان ألقاها في مصر بمناسبة تكريمه. لقد وضع الريحاني يده على المشكلة الاساسية التي عانى منها العالم العربي قديماً، وما يزال يعاني منها اليوم.
عندنا فلسفات وديانات فمن يبيعنا بها طيارات… كان امين الريحاني يصف الواقع العربي المنشغل بالمسائل الميتافيزيكية من دون اي التفات للواقع المادي الحقيقي الذي يعيش فيه. اهمال الواقع والعيش في الماضي، او في ما بعد الطبيعة، جعل العرب يتخلفون عن مسيرة الشعوب التي ساهموا في الماضي بتقدمها، ولعلّ في ما يسمى «الربيع العربي» المثال الحيّ على نظرة الريحاني الثاقبة. فالثورات العربية التي رفعت شعارات عظيمة وعصرية وأدّت الى أول خطوة في اتجاه الديمقراطية، أفضت الى نتائج عكسية، اذ هربت من نظام القائد الواحد وحزبه الى نظام الحزب الواحد الذي لا يؤمن لا بالديمقراطية ولا بتداول السلطة ولا بالدساتير العصرية، بل يريد تطبيق عقيدة جامدة على فئات الشعب العربي بأكمله.
لهذا، لم أجد في «الربيع العربي» سوى حسنة واحدة، وهو تغلب الشعوب العربية على الخوف من السلطة، وهذا هو كوة الأمل الوحيدة المفتوحة اليوم امام شعوبنا.

دور الكاتب العربي!
هل ان الكاتب العربي اليوم، هو في مستوى ما يجري حولنا من ازمات كبيرة ومستعصية؟

في ظل هذه الازمة الكبيرة، يمكننا ان نتساءل ما المطلوب من الكاتب العربي، وللكاتب العربي ايضاً، ان يتساءل عن عدد الذين يقرأونه وعن مدى تأثيره فيهم في ظل هذه الاموال الكبيرة التي تدفع والمصالح الكبيرة التي تتضارب والدول الكثيرة التي تشارك في ثورته فتحرفها الى اتجاهات لا علاقة لها بالشعارات العظيمة المرفوعة.
لقد لعب الكتّاب دوراً كبيراً في شرح الافكار التي يثور من اجلها الناس وفي اقناعهم بها، اما بعد ذلك، فلا يعود للكاتب دور، ثم ان الكاتب يتوجه الى عقول قرائه ولكن عندما تثور الغرائز لا يعود للعقول دور. لهذا، تراجع دور الكاتب العربي وتراجعت حماسته للمشاركة في هذه الثورة، بعدما وجد نفسه غريباً عن افكار حملها وتعب في نشرها، وسيبقى هذا حاله الى ان تهدأ الغرائز ويعود للكلمة دورها وقيمتها.

الكلمة لا تموت
متى يكون للكلمة قيمة؟

أريد التمييز بين القيمة والتأثير. فالتأثير غالباً ما يرتبط بالكلمات الاقل قيمة من سواها. الكلمة تحمل قيمة حين يكون لها هدف ايجابي لمنفعة الناس وتقدمهم. الكلمة الادبية لها قيمة ادبية حين تحمل صورة جميلة في قصيدة، وتعبّر عن حالٍ سلبية في رواية، او تطرح طريقاً جديداً نحو العصرية.
القيمة، اذاً، لا تنحصر في النص بل لا بدّ لها من قارىء. وقد عرف التاريخ الكثير من الادباء والكتّاب الذين لم يجدوا قراءً يقدرون افكارهم، ثم حالفهم الحظ بعد عشرات السنين حين وقعت كتاباتهم في يد ناقد بصير يقدّر قيمة الافكار، وهكذا عادوا على اقلام هؤلاء النقاد المتنورين ليحتلوا مكانتهم ولو بعد حين.
الكلمة اذاً، لا تموت، لكنها كالبذرة تحتاج الى أرض صالحة لتنبت، او الى عصفور ينقلها من فوق صخرة ويرميها في التراب الصالح.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق