افتتاحية

الكبار يسحقون الصغار والكلمة للاقوى

هل حقاً جاءت روسيا الى سوريا لتقاتل التكفيريين، ام انها جاءت لاهداف كبيرة، ظاهرها الدفاع عن بشار الاسد ونظامه، وباطنها ابعد من ذلك بكثير؟ وهل صحيح ان الولايات المتحدة غير موافقة على السياسة الروسية في سوريا، ام ان هذه الادعاءات هي من باب اخفاء ما لا يمكن اخفاؤه؟
الاسئلة كثيرة، ولكن اجوبتها حاضرة في ذهن الناس، لانه لم يعد بمقدور احد ان يتلاعب بعقولهم. فهم خبروا النيات وكشفوا الخبايا، واصبح كل شيء واضحاً امامهم. فليكف الروس والاميركيون عن اللعب على الحبال، وقد بات واضحاً ان هناك مخططاً اتفقوا عليه في ما بينهم وهم سائرون في تنفيذه. ولو كانت الولايات المتحدة حقاً غير موافقة على ما يقوم به الروس لكانت الامور كلها تبدلت. غير ان الاعتراضات هي ذر للرماد في العيون.. الا ان اتفاق الجبارين لم يمنعهما من ان يحاول كل منهما تحقيق كسب على حساب الاخر، خصوصاً وان العمل العسكري الروسي مرفوض جملة وتفصيلاً في المنطقة كلها، فتلقفت الولايات المتحدة الفرصة واستثمرتها. غير ان اصابع الاتهام موجهة الى اميركا فهي اما ضعيفة وتلتزم الصمت، واما متآمرة وفي كلتا الحالتين موقفها مرفوض.
الخارجية الاميركية قالت ان الغارات الروسية استهدفت بشكل شبه كامل معارضين للاسد، بدلاً من التركيز على مقاتلي داعش. وهي مسؤولة عن تعليق محادثات جنيف الرامية الى تحقيق السلام في سوريا.
الموقف الروسي فيه الكثير من الغرابة. لان موسكو استخفت بعقول الناس، فاوهمت الجميع بأنها جاءت الى سوريا لتقاتل داعش والنصرة والتكفيريين كلهم، الا ان الوقائع على الارض اثبتت عكس ذلك. فغارات الطيران الروسي المدمرة التي وصفتها الاوساط الدولية بالمجنونة، لم توجه الى التكفيريين الا بنسبة 5 بالمئة. هذا في بداية الغارات، وفي ما بعد انخفضت النسبة الى واحد او اثنين بالمئة، لان الهدف ليس محاربة داعش، بل دعم النظام السوري والتخطيط لاقامة دويلة له، تضم القاعدة الروسية في اللاذقية، وبذلك تؤمن بقاءها في المياه الدافئة، وهو حلم راودها منذ ايام القياصرة، وهي تعمل لحماية مصالحها. ومن هنا ركزت ضرباتها على معارضي الاسد فسقط المزيد والمزيد من المدنيين الابرياء وبينهم الاطفال والنساء وتشرد مئات الالوف وتم تدمير الطرق التي كانت تؤمن الامدادات الانسانية، كما اصابت السجون والمستشفيات، ولم تترك زاوية الا والحقت بها الاضرار. باختصار لقد اتبعت موسكو سياسة الارض المحروقة. فهل حقاً هي تريد حلاً سلمياً في سوريا؟ وهل صحيح انها جاءت لتدافع عن الشعب السوري وتحميه، وقد اصبح بحاجة الى من يحميه منها.
ولم تكتف الغارات الروسية بما الحقته بالشعب السوري من اضرار بل انها ساهمت في تعليق مفاوضات السلام. فهل هذا هو الحل السياسي الذي تريده في سوريا؟
على كل حال لقد كان وزير خارجية موسكو سيرغي لافروف واضحاً، فاعلن امام الملأ قائلاً: «لن نوقف القصف حتى نقضي على الارهابيين. فهل اطفال سوريا ونساؤها اصبحوا هم الارهابيين في عيني لافروف؟ وهل حقاً هو يدافع عن الشعب السوري وقد قتل وشرد مئات الالاف منه منذ ان وطئت قدماه الارض السورية، فكان واضحاً انه يسعى الى حل عسكري يسهل له مخطط يتجاوز سوريا وصولاً الى العراق وبعض دول المنطقة؟
ونشير في هذا المجال الى ان دول العالم كله استقبلت اعداداً من السوريين الهاربين من النار الروسية فتوزعوا في اوروبا واميركا وكندا. وحدها روسيا لم تستقبل احداً منهم. فهل هكذا تريد الدفاع عن الشعب السوري؟
ما هدف روسيا من كل هذه السياسة التي هي موضع تنديد في العالم كله، بعدما اصبح واضحاً انها تسد طريق السلام؟
يقول المراقبون والعالمون بالنوايا الروسية ان موسكو تسعى الى المحافظة على قواعدها التي عززتها في سوريا، وانها في تنفيذ مخططها هذا تضمن بقاءها. فروسيا كانت قد انهارت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق، واصبحت الولايات المتحدة زعيمة العالم بلا منازع، غير ان تقاعس الاميركيين سهل للروس اعادة لملمة صفوفهم، وبناء قوة بات يحسب لها حساب، حتى انها تفوقت على الولايات المتحدة التي انكفأت عن قضايا كثيرة في المنطقة. فاستغل الروس الفرصة وتقدموا، دخلوا الحرب في سوريا بعد ان انتزعوا القرم من اوكرانيا، وحرضوا جزءاً كبيراً منها على الحكم القائم، وزرعوا الفوضى والبلبلة هناك، بحثاً عن مكاسب جديدة وتحدوا الاميركيين. ولكن الموقف الاميركي المتخاذل والمريب بقي على حاله.
نعود الى المنطقة. فالعلاقات الاميركية – العربية قديمة وعريقة ولها ايجابياتها وسلبياتها وكانت مهمة روسيا شاقة في مواجهة هذا الواقع. ونجاح روسيا الكامل اليوم متوقف على مواقف الدول العربية، ذلك ان هذه الدول لا تزال مترددة في التعاون مع روسيا وفك ارتباطها مع الولايات المتحدة، وهي تفضل ان تبقى العلاقات متوازنة بين الجبارين. كما ان التعاون مرتبط بتصرفات كل من اميركا وروسيا تجاه هذه الدول، لان اي اساءة من هذه الدولة او تلك تعيد العلاقات اميالاً الى الوراء.
لقد تراجع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الاوسط، وخصوصاً بعد احداث ليبيا. فشنت روسيا هجوماً معاكساً واستعادت مركزها وهيبتها، وهي تطمح اليوم الى تغيير قواعد اللعبة.
قد يتساءل البعض عن سر الاتفاق غير الظاهر بين الولايات المتحدة وروسيا. والجواب بسيط وهو ان بين الدولتين التقاء مصالح. فكلاهما يريدان بقاء الاسد. الروس من اجل مصالح خاصة، والاميركيون يعتقدون ان القوى على الارض غير مؤهلة لاستلام الحكم. وتستغل روسيا انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية المتوقعة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لتنطلق بزخم اكبر في تنافسها مع واشنطن على المكاسب، الهدف واحد والمكاسب وفق ما تستطيع كل دولة ان تجني. ولذلك لوحظ شبه غياب للاميركيين عن محادثات جنيف وتبعه غياب اوروبي فخلت الساحة للروس الذين نسفوها بقصفهم العنيف على حلب.
وكان مستغرباً ان تبدو روسيا متحكمة بكل شيء وكأنها صاحبة القضية وصاحبة القرار الوحيدة. فكانت تقول نقبل بمشاركة هذا الفريق ونرفض ذاك، ولا من يقول لها اعرفي حدودك. ولم يعد يهم الروس ما يمكن ان تحققه محادثات جنيف طالما انهم تيقنوا من بقاء النظام الذي يسهل لهم كل امورهم، وفي هذا خطأ فادح ترتكبه الولايات المتحدة بتركها الساحة خالية امام الروس، يثبتون اقدامهم فيها ويخططون للبقاء الى امد طويل، وهذا من شأنه ان يؤدي الى حروب طائفية اذ انه يفتح الطريق امام داعش لزيادة تحركه مستقطباً تنظيمات ارهابية جديدة.
هذا هو الواقع، الكبار يسحقون الصغار والكلمة تبقى للاقوى.

«الاسبوع العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق