الأسبوع الثقافي

محمود درويش… بحثاً عن عالم لا يكتمل إلا بالشعر

في الذكرى الخامسة على رحيله تذكرته بيروت في ندوة أدبية

قبل خمس سنوات، أي في سنة 2008، رحل الشاعر محمود درويش، بعدما خضع لعملية ثالثة في القلب، في الولايات المتحدة الأميركية، تاركاً الكثير من الكتب الشعرية والنثرية… فهو الشاعر الذي عاش تجارب كثيرة في حياته، وهو ابن الوطن السليب، الوطن الضائع في غفلة من غفلات الزمن، وفي غياب الضمير العالمي. باكراً تذوق محمود درويش طعم الرماد، باكراً عرف المأساة، وباكراً عرف المنفى… وإستطاع أن يحفر إسمه الى جانب الشعراء العرب الكبار.
وفي الذكرى الخامسة لغيابه، نظّمت «دار نلسن» ندوة بعنوان «تحية الى الشاعر الفلسطيني محمود درويش».

قدّم الندوة الكاتب سليمان بختي، معتبراً ان محمود درويش بحث في شعره عن الهوية، عن الإنسان، عن الحب، عن الحياة، عن الجلاد، عن الضحية، عن التلاعب بالتاريخ، عن تزييف الوعي، وعن عالم لا يكتمل إلا بالشعر. بحث عن معجزة جديدة تمحو كل ما سبقها من الآثام والخطايا والأوهام والأضاليل. وساهم في الحركة الشعرية العربية والجدل حول تناقضات الحياة والموت، الوطن والمنفى، العابر والثابت.
وخلص الى القول، هو الآن في غيابه أقل موتاً منّا، وأكثر منّا حياة.

مزج بين الحبيبة والوطن
الدكتور ميشال جحا رأى، أن محمود درويش يمتاز في أنه يوازن بين «الموسيقى الخارجية» و «الموسيقى الداخلية» في القصيدة. وهو يبتعد عن التغيير المباشر الى الإيحاء، ويعتمد الرمز والأساطير والقصة الشعرية للتعبير عن تجاربه، ويحافظ رغم ذلك، في أكثر الأحيان، على الوضوح، وهو مرتبط بالجماهير العربية في الأرض المحتلة، يعبّر عن همومها وطموحاتها وواقعها، معتمداً الرمز لكي يتخطى الرقابة الإسرائيلية. والرموز المختلفة في شعره تساعده على التأثير الوجداني والفني من دون أن تجعل من شعره عالماً معتماً غامضاً، بعيداً عن الفهم.
ولفت، الى ان شعره يعكس نبضاً صادقاً لهموم الناس وآلامهم. أيقظ محمود درويش في الناس روح المقاوة وأطل بهم على عوالم ومفاهيم جديدة. جعل للشعر قضية وجعله يخترق آفاقاً جديدة. همّ الشاعر الدفاع عن وطنه وحقوق شعبه، لذلك فهو يؤمن بالإنسان. في شعره خيط من الصوفية، فهو متصوف من أجل قضيته ومأساة شعبه. ولقد إستطاع أن يرتفع بالقضية من الآني والمحدودية الى الآفاق الواسعة. شعره ينضح بالعاطفة والحب، غالباً ما يمزج بين الحبيبة والوطن.
  
تجربة إنسانية شاملة
 اعتبر ميشال جحا، ان محمود درويش صاحب ميسم بارز في حركة الشعر العربي المعاصر، يجمع في شعره رونق الأداء بعمق الفكر… اختزل وطنه وبات رمزاً من رموزه. نادراً ما حظي شاعر عربي بالإهتمام الذي حظي به محمود درويش. كما عمل على تحرير القصيدة العربية من النمطية التي غرقت فيها، وتطويرها… ارتفع محمود درويش في المرحلة الأخيرة من مراحل شعره الى مرتبة الإنسانية ولم يعد مجرد مدافع عن حقوق وطنه وداعية لتحريره من نير إسرائيل فحسب، بل أصبح ينطق بإسم التجربة الإنسانية الشاملة. لم يعد يحمل القضية الفلسطينية وحدها، بل أصبح يحمل قضية الإنسان في كل مكان وزمان.

ظاهرة شعرية
بدوره، اعتبر الباحث صقر أبو فخر، أنه لا يجازف في الوصف، إذا قال أن الفلسطينيين لم يجمعوا، طوال تاريخهم المعاصر، على أمر أو شأن أو فكرة أو زعيم، مثلما أجمعوا على محمود درويش وعلى قصائده المدهشة… أحبوه لأنه صنع في هذا السديم العربي أملاً، وأبدع في هذا العماء المروّع وعوداً خلابة، وحوّل أغاني التيه الفلسطيني الى ملحمة مدهشة للعودة المؤجلة.
وأكد صقر أبو فخر، أن محمود درويش برهن ان القصيدة ربما تكون، في كثير من الحالات، أقوى وأوفى وأشد أثراً من البندقية. وكانت قصائده تشير دوماً، الى انتصار الشعر على السياسة، أي هزيمة الواقع أمام الحلم… ولعل الشعر العربي المعاصر، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يعرف شاعراً احتل تلك المكانة الرفيعة في قلوب الناس مثل محمود درويش… بهذا المعنى، كان محمود درويش ظاهرة شعرية ذات فرادة، ظاهرة لا يمكن تفسيرها ببساطة…

حالة مختلفة
يعتقد صقر أبو فخر، ان معظم الشعراء العرب كان إبداعهم الشعري يتوقف قبل الستين، وتعيش أشعارهم اللاحقة على وهج أشعارهم السابقة، لكن محمود درويش حالة مختلفة وطراز مختلف، كانت لغته تصفو وترقّ وتصبح أكثر إدهاشاً كلما أمعن في السنين. ومحمود درويش ربما هو الشاعر العربي الوحيد الذي كان كل ديوان جديد له يمثل قمة جديدة في مسيرته الشعرية المخضبة بالألم والقلق ووجيف القلب وخفقات الفؤاد.

شعراء في بيروت
لفت صقر أبو فخر، الى ان محمود درويش جاء الى لبنان في زمنين متنافرين… ولم تصنع بيروت من درويش شاعراً كبيراً، تماماً، مثلما لم تصنع من نزار قباني أو محمد الماغوط أو عمر أبو ريشة شعراء كباراً، هؤلاء جاءوا الى بيروت شعراء حقيقيين، وكانوا قطعوا شوطاً طويلاً في الشعر، غير أن بيروت منحتهم جميعاً مناخاً أدبياً ونقدياً أثرى العملية الإبداعية لديهم، وحفزتهم المدينة بقوة الإحتكاك والنقد والسجال والمنافسة على التجريب والتجاوز، وهذا هو معنى أن تكون بيروت مدينة للإبداع والحرية… وقد هيأت له بيروت متنفساً لبعض ما يقلقه، ومنحته ألقاً يليق بواحد من أعظم شعراء العربية، لكن الحياة أخلفت وعودها معه، فأورثته قلقاً متمادياً وعلة في القلب وظل الموت يلاعبه وهو يلعب به بمهارة «لاعب النرد» حتى أراح ركابه أخيراً، وأدار لنا ظهره، وغادرنا الى حيث يزار ولا يزور، وتركنا ذاهلين نلوّح له بالمناديل.

شاهد على حقبة
تمحورت كلمة الكاتب محمود شريح حول عنوان «محمود درويش يغنّي بيروت»، واعتبر فيها، أن قصيدة درويش تطفو على سطح الذاكرة، فهي عن ماض بعيد ناء لا يرسخ إلا في ذهن يقظ ورؤيا حالمة، ردّ الى القصيدة إعتبارها، فأرّخ لمرحلة جديدة ومختلفة في حياة الشعر الفلسطيني الحديث، وأعاد الى الشعر دوره في رصد الحدث وتدوينه، الى شاهد على حقبة إنتهت وأخرى بدأت، فجاءت قصيدة «أحمد الزعتر» نشيداً «لأحمد المنسيّ بين فراشتين» وهو نشيد موجّه «ليدين من حجر وزعتر»، لثبات شعب وإستمراره.

في الزمن الصعب
الشاعر لامع الحرّ استهل كلمته بوصف محمود درويش، شاعراً يأتي من الإختلاف، من الرؤية الناضجة، الى التاريخ. من سبيكة الحضارة التي تتأجج على نار الجياد التي لا تعرف غير الصهيل، وعلى نار الصعود الى مملكة الحب والجمال… شاعر في الزمن الصعب… شاعر لم يأت من فراغ… محمود درويش تلك النبتة التي اخضرت وأزهرت وأعطت ما أعطت من ثمار، تظل على وهجها وعلى بريقها ولن يفقدها الزمن أريجها.
واعتبر لامع الحرّ، انه مشروع شعري اكتمل ولم يكتمل، لكنه ما يزال يتفاعل مع المشهد الشعري العربي، تفاعلاً يحرّك السكون، يؤجج الجنون، يخرّب المكان، ويصعد نحو فضائه الإبداعي مكللاً أرجواناً، كأنه نقطة الإرتكاز لذلك البناء الشعري الذي لم يحصد أريجه بعد… محمود درويش ربما هو من الشعراء القلائل الذين إستطاعوا أن يوازنوا بين الوصول الى الجمهور الواسع والرؤية الحداثوية اللافتة.

شاهد على العصر
وتوجّه لامع الحرّ الى محمود درويش قائلاً: أيها الصديق الخفي… لا تخش براثن النقد العربي، فالعروبة هنا تعيش خارج أسوار النقد… وربما نحتاج الى مئات السنين كي تولد مملكة نقدية عربية خالصة، مملكة نقدية عربية الأصول وعربية الفروع، مملكة تستفيد من الحداثة والمعاصرة، دون أن تفقد نكهتها وأجنحتها التي تجيد الطيران في آفاق الله الواسعة. أنت شاعر كبير شاء من شاء وأبى من أبى، وسيبقى اسمك شاهداً على العصر وشاهداً على المتغيرات وشاهداً على حداثة تجاوزت رحيقها الأول، وشاهداً على الإبداع… شاعراً تجاوز التنظيرات الجاهزة والمقولات المعلّبة والآراء النقدية المشبوهة… شاعراً سيبقى له وقاره وصولجانه، وسيبقى شاعر القضية، شاعر فلسطين، شاعر الحس الإنساني الصافي، وشاعر الحساسية التي تصعد شوقها براكين غضب تغتني بنارها وبحجمها الجهنمي العظيم.

علامة فارقة
ورأى لامع الحرّ، ان محمود درويش علامة فارقة في الشعر العربي. شعر درويش بخير، إذاً الشعر العربي بخير. شعر مشغول بعناية صائغ محترف… بعد درويش وبعد نزار فقد الشعر صباه، أمسى يتيماً، بلا معيل، لا جمهور ولا من يحزنون. لا متعة ولا فائدة ولا طائل، كأن أرضنا أقفرت أو كأنها لم تعرف الخصوبة يوماً. درويش شاعر التجاوز بإمتياز، شاعر الحب، وشاعر اللغة المتجددة، النابعة من عبقر، يعرف كيف يغيّر جلده ليبقى الأجمل، والأشف والأعمق.

رؤية جديدة
وخلص الشاعر والناقد لامع الحرّ الى القول، ان خمس سنوات مرّت والمسرح الشعري يستذكر محمود درويش بشيء من الحرقة، وشيء من الوفاء، لشاعر تمكّن من أن يعطي المنبر رؤية جديدة تتنافى مع الموروث، وتتصالح مع الحداثة، لتروي أرضه رقة وعذوبة وشوقاً كبيراً الى شاعرية لا تستعاد. انه باق بيننا عنواناً لزمن شعري لا يتكرر، ورحلة الى عالم الإبداع لا تنتهي، وزورقاً يعرف كيف يسبر الأغوار وكيف يسبح في متاهات المدى. سيبقى بيننا حلماً جميلاً، وشاعراً يصبو الى الجمال الخالص…
وفي الختام ، قدّم المؤلف والعازف والمخرج المسرحي سليمان زيدان، قصائد مغناة لمحمود درويش، مع عزف على العود.

اسكندر داغر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق