دوليات

انقرة – تركيا: ثورة صامتة تزعزع العرش «الأردوغاني»

ما الذي يجري في تركيا؟ سؤال يطرح بإلحاح على مستوى الدوائر المعنية في العالم، وفي المنطقة، وسط كمّ من الإستيضاحات حول تفاصيل الحالة وما اذا كانت واحدة من تطبيقات« الربيع»، ام انها ثورة جديدة تنطلق من بعد تنظيمي داخلي، أو تنظيمات خارج إطار الحزب الحاكم.

مبررات هذه التساؤلات كثيرة، حيث التسلسل الزمني والحدثي، بدءاً من أحداث «تقسيم» التي اندلعت وتجذرت قبل ان تلجأ حكومة اردوغان الى استخدام القوة في فض تلك الأحداث التي أسفرت عن مقتل العشرات وجرح المئات.
وبالتوازي، الموقف الرسمي التركي من أحداث الربيع العربي، واصراره على تبني التيار الإسلامي، وخصوصاً جماعة الاخوان المسلمين، وما أسفرت عنه التطورات من أنظمة حكم قبل ان تتغير الصورة وتتطور الأحداث في خط معاكس.
المدققون في تفاصيل المشهد التركي يرون ان انقرة باتت مضطرة الى دفع ثمن بعض مواقفها، من خلال حراك بدا نشطاً ويمكن ان يطلق عليه وصف «الربيع التركي» في مقاربة لأحداث الربيع العربي. ويربطون بين ما يجري هناك وموقف اردوغان الذي تجاوز موقف حزبه في الكثير من التقاطعات وتبنى موقفاً أكثر تشدداً في ما يخص الملفين السوري والمصري. فعلى صعيد الملف السوري وبينما بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفاً عما كان سائداً في البدايات، اصر اردوغان على التمسك بالموقف عينه، وواصل التشبث في دعم الاخوان المسلمين رغم فشل الجماعة في تشكيل تيار مؤثر قادر على ضبط الشارع، وتوجيهه الوجهة التي تستطيع ان تحدث تأثيراً في خواتم ومجريات الأمور.
وفي مصر لم يكن موقف اردوغان أقل تشدداً مما يجري في دمشق، فعلى الرغم من تيار المعارضة الذي نجح في ترتيب هجمة مضادة أسفرت عن ترتيب الأوراق من جديد وصولاً الى مرحلة انتقالية واجراءات متقاطعة مع كل ما وضعه مرسي، فقد تشبث اردوغان بدعم مرسي، الأمر الذي دفع الى اتهامه بأنه يحاول المزايدة على المصريين انفسهم، كما زايد على السوريين من قبل.
وهي المواقف التي صنفت المشروع الاردوغاني بأنه محاولة لإحياء الحلم بإعادة الامبراطورية العثمانية بأسلوب مختلف بعض الشيء، وعلى أيدي العثمانيين الجدد الذين ينضوون تحت لواء حزب التقدم والعدالة.

إنشقاق
كل تلك المعطيات انتجت حالة من الإحتقان على نطاق واسع، داخلياً وخارجياً، الا ان ابرز ملامحه ما يمكن ان يكون انشقاقاً داخل حزب التنمية والعدالة الذي نجح في الوصول الى الحكم.
الخطورة بلغت درجة متقدمة ضمن أكثر من مسار. فمن جهة، إنحاز فتح الله غولن، زعيم احدى جمعيات الدعوة الى الطرف المضاد لأردوغان. ما يعني انه خسر مخزن اصوات كان السبب في فوز حزب «التنمية والعدالة» لأكثر من مرة. ومن جهة اخرى أعيد تنظيم معارضة مشروع ساحة تقسيم وسط العاصمة، والذين طوروا موقفهم من معارضة مشروع لمعارضة نظام اردوغان.                        المدققون في التفاصيل يعتقدون بأن ما يجري انما هو ثورة بدأت تخرج عن صمتها، لكنها حتى اللحظة ما زالت تستهدف اردوغان ولا ترفض حزب التنمية والعدالة. والذي ما زال يمتلك رصيداً يكفيه للفوز، الا انه غير كاف للتفوق. لكنهم يخلصون الى معلومات مفادها ان المعارضة اصبحت متغيرة، وان احتمال تغيرها لتصبح معارضة للحزب ككل تبقى واردة. ويتوقفون عند مجريات الأمور الراهنة والتي تكشفت اثر إفتضاح عمليات فساد حكومي، وبالتالي خروج عدد من الوزراء من الحكومة، وتحول الملف الى ما يشبه «كرة الثلج» التي تدحرجت شيئاً فشيئاً، وكبرت في كل خطوة، وسط احتمالات بأن تتجذر المعارضة وصولاً الى الثورة، وبالتالي الى «ربيع تركي».
ما يعزز هذه الفرضية حدوث خلافات بين اروقة الحكم اندلعت، ودخل القضاء على الخط وتم تحييد الشرطة عن بعض الملفات وبالتالي تعمقت الأزمة التي باتت تهدد اركان الحكم الاردوغاني الذي تهاوى على ارضية قضايا فساد حكومي، ومن خلال تعديل خرج بموجبه عدد من الوزراء، وأدى الى توسيع الفجوة الخلافية داخل التكتل الحكومي. وما زال الباب مفتوحاً امام خروج آخرين. غير ان التقويم النهائي يشير الى ان التعديل كان بمثابة جراحة سطحية لم تفلح في معالجة الموقف جذرياً. وان الأزمة ما زالت تتفاعل وصولاً الى مستوى الثورة.

أخطر ازمة سياسية
فبعد مرور ستة أشهر على الحراك الشعبي غير المسبوق الذي هزّ تركيا، وقبل اربعة اشهر من موعد الانتخابات البلدية التي تعتبر مصيرية بالنسبة الى مستقبله، يجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان نفسه في مواجهة أخطر أزمة سياسية منذ وصوله إلى الحكم قبل عشر سنوات.
فبعد حراك الشارع، اندلعت فضيحة مالية غير مسبوقة يجمع المتابعون على انها تشكل تهديداً خطيراً لحكومته، حيث تطورت الازمة خلال الأسبوع الفائت بإتجاه اعتقال مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين، إضافةً إلى نجلي وزيرين، في قضية فساد متشعبة زعزعت النخبة الإسلامية المحافظة التي تقود البلاد منذ العام 2002.
وبعد اتهامه في حزيران (يونيو) الفائت، من قبل شريحة من الشباب المثقف والعلماني في البلاد بالإنحراف الإستبدادي والإسلامي، يواجه اردوغان هذه المرة انتقادات من داخل معسكره بالذات، من قبل جمعية الداعية الإسلامي فتح الله غولن، الذي اعتمد عليه كثيراً قبل الآن لإرساء دعامة سلطته وترسيخها. والذي شكل انصاره مستودعاً ضخماً من الاصوات الإنتخابية الجاهزة لحمل الحزب والمجموعة الى أي موقع في الدولة. اما الرد الاردوغاني فلم يكن مختلفاً عن رده السابق على الحركة الإحتجاجية. فبإستثناء استخدام القوة لمواجهة المحتجين، ندد رئيس الحكومة بما اسماه «مؤامرة» يقول انها دبرت من قبل «دولة داخل الدولة»، واتهمها بالسعي إلى تلويث وتدمير الانجازات التي طالما تغنى بها، خصوصاً الإقتصادية التي حققتها البلاد منذ عشر سنوات.
هنا، يعتقد محللون بأن هذا الصراع الذي يتجذر ضمن اطار الاخوة، والذي ظل كامناً لزمن طويل، ظهر إلى العلن ليغيّر المشهد السياسي الوطني قبل الدخول في النفق الإنتخابي الماراثوني، الذي سينتهي بالإنتخابات التشريعية المرتقب اجراؤها في العام 2015.
مراقبون يشيرون الى ان تركيا دخلت في ازمة ناجمة عن فضيحة سياسية ومالية غير مسبوقة تهدد رئيس الوزراء الإسلامي المحافظ رجب طيب اردوغان، بكل الوسائل القضائية ومن مناوئيه، اضافةً الى تظاهرات الشارع المتواصلة، التي بلغت حداً يصنفه متابعون بأنه «ربيع تركي»، او انه ثورة بدأت بالخروج عن دائرة الصمت وصولاً الى بصمات واضحة تتركها على الساحة.

تظاهرات معارضة
فبعد يوم حافل شهد انشقاقات داخل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم تدخلت الشرطة التركية في اسطنبول وانقرة وعشرات المدن التركية الاخرى من أجل تفريق الآف المتظاهرين المطالبين برحيل الحكومة ورئيسها.
ووفقاً للشرطة المحلية، ألقي القبض على 70 شخصاً يوم «الجمعة» في اسطنبول التي تعد من أكبر المدن التركية.
وفي اسطنبول كما هو الحال في انقرة، يقوم شبان مسيسون بإطلاق دعوات للتظاهر، وهم انفسهم كانوا قد شاركوا في تظاهرات حزيران (يونيو)، وتحدوا نظام رئيس الوزراء لثلاثة اسابيع متواصلة.
ومن أجل إعادة مواجهة هذا التحدي الجديد، اعاد رئيس الوزراء العمل بالإستراتيجية التي تم تطبيقها قبل ستة اشهر والقائمة على استخدام القوة من اجل انهاء موجة الاحتجاجات.
وعلى بعد كيلومترات من ساحة «تقسيم» في اسطنبول كان اردوغان يواصل الدفاع بقوة عن سياسته مندداً في كلمتين القاهما في مطار اسطنبول الدولي ثم في حي اوسكودار بـ « المؤامرة» التي تستهدفه.
وكان اعلن في وقت سابق في كلمة القاها في سكاريا (شمال غرب البلاد) ان هذه المؤامرة هي عملية تهدف الى منع قيام تركيا الجديدة، مهاجماً بشدة اداء بعض المحققين والقضاة الذين كشفوا هذه الفضيحة.
وانتقد اردوغان انسحاب ثلاثة من نواب حزبه بينهم وزير سابق كانوا مهددين بالطرد من الحزب بعد اعلان تأييدهم لإستقلال السلطات القضائية. ورغم انه فقد خمسة نواب خلال عشرة ايام لا يزال حزب العدالة والتنمية يملك أكثرية واسعة في البرلمان.
كما انتقد اردوغان دون ان يسميه بالإسم حركة الداعية الإسلامي فتح الله غولن متهماً اياها بالوقوف وراء التحقيقات التي جرت لكشف فساد في اوساط اردوغان ما دفع ثلاثة من وزرائه الى الإستقالة.
وبعد ان كانت لفترة طويلة تعتبر حليفة حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 2002 اعلنت هذه الجماعة حرباً على الحكومة بسبب مشروع الغاء مدارس خاصة تستمد منها قسماً من مواردها المالية. وفي هذه الأثناء، انتقدت وسائل الإعلام القريبة من المعارضة بشدة الموقف المتحدي لرئيس الوزراء، محملة اردوغان مسؤولية مباشرة عن الازمة التي تهز رأس الدولة.

مواجهة مع الشرطة
وفي اسطنبول، جرت مواجهات اطلق خلالها بعض المحتجين اسهماً نارية على الشرطة التي ردت بإستخدام خراطيم المياه والرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع، ما ادى الى جرح شخصين على الأقل قبل ان يعود الهدوء الى المدينة.
وقامت شرطة مكافحة الشغب بتفريق مئات المتظاهرين في الساحة المركزية في انقرة. وخلال هذه التظاهرة حمل المحتجون علب أحذية في اشارة الى صور التقطت لعلب كانت تضم ملايين الدولارات في منزل احد الموقوفين بشبهة الفساد، رئيس المصرف العام هالك بنك. وفي هذه الأثناء، اعلن الجيش التركي الذي سيطر أكثر من مرة سابقاً على الحكم في تركيا رفضه التدخل في هذه الازمة. وقال الجيش في بيان على موقعه الالكتروني: ان القوات المسلحة التركية لا تريد التدخل في النقاش السياسي.
وأثارت هذه الازمة السياسية ايضاً حالة قلق شديد في الأسواق، حيث تراجعت الليرة التركية الى 2،1661 امام الدولار مسجلة مستوى ادنى تاريخي جديد بالرغم من تدخل البنك المركزي. في حين تجمع التقارير على ان الازمة ما زالت مرشحة للتطور.

احمد الحسبان
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق