تحقيق

اسطنبول تبكي صيفها

ثورات الربيع العربي المتنقلة من تونس الى مصر وصولاً الى سوريا وما تمدد من شراراتها الى لبنان، احيت ربيع السياحة في تركيا وتحولت اسطنبول لسنوات خلت الوجهة السياحية الاكثر استقطاباً للبنانيين وللرعايا العرب، لكن فجأة انقلب السيناريو، اسطنبول لم تنج من تسونامي ثورات الربيع، واولى ضحاياه ذاك الربيع السياحي، والسؤال اليوم: من يخلف تركيا على العرش السياحي، الى اين سيتوجه السياح اللبنانيون والعرب هذا الصيف، واي بديل سيكون لاسطنبول؟

الى أين يذهب اللبنانيون بعد أزمة تركيا وتصاعد التظاهرات والاحتجاجات هناك؟ سؤال يطرحه كثير من المسافرين خلال هذه الأيام على مكاتب السياحة والسفر وشركات الطيران، التي بدورها، وتجنباً لخسائر فادحة، جندت كل طاقاتها وإمكاناتها لإيجاد بدائل للوجهة السياحية الأولى والرئيسية التي كانت على خريطة السائح اللبناني منذ حوالي خمس سنوات.

الغاء وبدائل
نعم لن يذهب اللبنانيون إلى اسطنبول هذا الصيف، فالاحتجاجات الشعبية المتنقلة في تركيا دفعت قسماً كبيراً منهم إلى إلغاء حجوزاتهم هناك، حيث اجمع ممثلو وكالات سفر وسياحة في لبنان على ان حجوزات سفر اللبنانيين الى اسطنبول على المدى القريب ألغيت كلياً، لكن الحجوزات البعيدة لم تلغ حتى الساعة، وضمنها الحجوزات اثناء وما بعد شهر رمضان الكريم. ووفق مسؤول في احدى هذه الوكالات فان اللبنانيين يتابعون الاحداث التركية، متأملين ان تهدأ الاوضاع ويتريثون في اتخاذ قرارهم بالالغاء او عدم الالغاء حتى الدقيقة الاخيرة. واشار الى أن معظم الالغاءات تتركز على الحجوزات التي كانت مقررة خلال الفترة التي تسبق حلول شهر رمضان المبارك، وان هذه الالغاءات طاولت حجوزات اسطنبول وليس المناطق والمدن الاخرى من تركيا، لا بل ان بعض هذه الحجوزات حولت نحو تلك المناطق (انطاليا، مرمريس، بودروم) تدفعهم الى ذلك عوامل عدة. فالمسافرون الى تركيا هم عادة من الطبقات المتوسطة ومن اصحاب الموازنة الضعيفة، كما ان رحلات الصيف تكون عادة مخصصة لـ «غروبات» ما يجعل اسعارها ارخص من اسعار الرحلات العادية (500 الى 600 دولار) اضافة الى ذلك هناك تسهيلات السفر الى تركيا مع الغاء تأشيرة الدخول اليها، وبالتالي استبدال اسطنبول بمناطق اخرى في تركيا سيتيح للبناني المضي بمشروع سفره بكلفة مماثلة وبعيداً عن عناء اجراءات «تأشيرة الدخول» الى بلد آخر، خصوصاً الى اوروبا، والتي قد تستلزم منه وقتاً طويلاً  لاجرائها وهذا لا يتلاءم مع ايام اجازته. ومع ذلك ثمة من فضل الابتعاد كلياً عن تركيا خوفاً من انتقال الاحتجاجات الى مناطق اخرى، وبدا هناك توجه قوي نحو اليونان وفق المصدر عينه.

الى اليونان
كاتيا سلامة المسؤولة في القسم السياحي في  شركة «نخال» للسياحة والسفر، شرحت بدورها لـ «الاسبوع العربي» ان خوفاً كبيراً تملك اللبنانيين الذين كانوا يخططون للسفر الى اسطنبول تحديداً، لكن رغم هذا الخوف، لم يتخل اللبنانيون عن مخططاتهم للسفر والاستمتاع باجازاتهم الصيفية، الامر الذي دفعهم الى الغاء جزئي لرحلاتهم تلك، ذلك ان الحجوزات لم تلغ كلياً بل حولت الى وجهات سياحية بديلة، ونسبة قليلة تمسكت باسطنبول لكنها ابتعدت عن وسط المدينة  وساحة «تقسيم» حيث التظاهرات والاحتجاجات، وتحولت الى مناطق اخرى فيها ما زالت آمنة كمثل منطقة المدينة القديمة، وقسم كبير الغى حجوزاته الى اسطنبول تحديداً، واستبدلها بمناطق سياحية اخرى في تركيا لم تصل اليها شرارات الاحداث، ومنهم من فضل الابتعاد كلياً عن تركيا و«وجعة الرأس» خوفاً من مفاجآت امنية غير سارة، مفضلاً
بلداناً اخرى، وراوحت اختياراتهم بين: اليونان اولاً او قبرص، كما برزت ماليزيا كوجهة بديلة خصوصاً انها لا تحتاج الى تأشيرة دخول للسفر اليها تماماً كما تركيا، وان كان بعد مسافتها يشكل عائقاً للبعض.
وبدا كأن اليونان ستكون الوجهة الابرز للبنانيين خلال هذا الصيف بديلاً من تركيا التي تصدرت منذ سنوات المرتبة الاولى بين وجهات اللبنانيين السياحية منذ الغاء تأشيرة الدخول «الفيزا» بين لبنان وتركيا، ما شجع اللبنانيين على السفر اليها بكثافة للاستمتاع باستكشاف مواقعها السياحية وايضاً للتسوق في اسواقها الغنية والمزدهرة.
وحيال اقدام عدد كبير من اللبنانيين على الغاء حجوزاتهم هذا الصيف الى تركيا عمدت وكالات السفر إلى تقديم وجهات سفر بديلة لانقاذ موسمها الصيفي من حصول خسائر فادحة جراء الغاء الحجوزات الى اسطنبول حيث وصلت نسبة الالغاءات وفق كاتيا سلامة خلال الاسبوعين الاولين من شهر حزيران (يونيو) الى ما بين 40 و50% .
من هنا عمدت شركات السفر الى اسداء النصح وتوجيه زبائنها نحو وجهات بديلة لا تكلفهم الكثير، وبدا هناك تركيز على اليونان وجزر رودوس ونيكولوس، كما ظهر توجه قوي نحو قبرص، وخصوصاً الى «بافوس»، فضلاً عن مناطق تركية آمنة كمثل انطاليا التي تصفها سلامة بـ «الجنة» الحقيقية وهي تشكل مقصداً سياحياً راقياً جداً بمنتجعاته ويجتذب عادة الطبقات الراقية والمقتدرة مادياً، او الى مرمريس او بودروم. فيما فضل آخرون التوجه نحو دول اوروبية اخرى مثل ايطاليا وفرنسا واسبانيا.

 


35 مليون سائح
وطبعاً ان الغاءات السفر الى تركيا لم تقتصر على اللبنانيين فقط، بل طاولت جميع السياح بكل اطيافهم، حيث ألقت الاحتجاجات في اسطنبول بظلالها الثقيلة على القطاع السياحي، وقدر قائمون على مكاتب السياحة والسفر، نسبة إلغاء حجوزات السفر إلى تركيا خلال فترة ما قبل شهر رمضان من الحجوزات المسبقة ما بين 50 الى  60٪ خلال الاسابيع الاولى لاندلاع الاحتجاجات. اما رحلات ما بعد شهر رمضان والعيد، فحتى الآن لم تشهد نسب إلغاء كبيرة، فكثير من المسافرين ينتظرون الى حين اتضاح الرؤية آملين ان تتحسن الأوضاع هناك. وطبعاً إذا استمرت الأحداث والتظاهرات فنسب الإلغاء سترتفع وتزيد وربما تصل الى مستوى الالغاء الكلي على المديين القريب والبعيد.
وكانت السلطات التركية تتوقع أن تبلغ العائدات السياحية لعام 2013، 25 مليار دولار، لكن المفارقة أن خسائر القطاع السياحي التركي بلغت خلال شهر حزيران (يونيو) فقط 238 مليون دولار قابلة للزيادة، اذ تسببت تظاهرات الأتراك المحتجين في إسطنبول، المدينة السياحية الأولى والمحببة إلى العرب، في إلغاء الكثير من السياح من كل أنحاء العالم حجوزاتهم، خصوصاً من منطقة الخليج العربي، وكانت وجهتهم إلى تركيا خلال صيف 2013، بعد أن أكدت التوقعات أن تركيا ستستقبل 35 مليون سائح هذا العام، وخلال الصيف وحده ما يقارب 13 مليون سائح، ونحو مليوني سائح عربي، أغلبهم من دول الخليج والسعودية.
وكانت اسطنبول قد تصدرت وجهات سفر السياح الخليجيين للموسم الذي يسبق شهر رمضان المقبل، حيث نمت الحجوزات إلى تركيا خلال العام الحالي بنسبة تزيد عن15٪ مقارنة بالعام الماضي. ورأى مسؤولون سياحيون اتراك ان السياحة التجارية هي الاكثر تأثراً بالحوادث التركية. وبينما تضرر قطاع السياحة الترفيهية بشكل كبير في المدينة، فإن الكثير من المؤتمرات والاجتماعات الدولية  التي كان مقرراً عقدها في الصيف يبدو أنها قد تأثرت بشدة أيضاً، رغم سعي السلطات التركية لتخفيف قلق منظمي الاجتماعات الكبيرة التي من المقرر عقدها في شهري آب (أغسطس) وايلول (سبتمبر) المقبلين. فيما اشارت معلومات الى الغاء معظم الاجتماعات متوسطة المستوى. وافادت مصادر سياحية الى ان التظاهرات أقلقت العديد من السياح الأجانب على الأخص حول منتزه جيزي وفي ميدان «تقسيم» في اسطنبول التي تجذب العدد الاكبر من السياح، على الأخص الزوار في قطاع الأعمال والسياح الذين يزورن المواقع الثقافية أكثر من المدن الأخرى.
وبدأ السياح وعلى الأخص الذين يأتون بهدف الأعمال، في إلغاء رحلاتهم أو اختيار فنادق بعيدة عن وسط اسطنبول، وفي المقابل لم يسجل إلغاء رحلات أو حجوزات في مدن أخرى، وقال رئيس وكالات السياحة في الأناضول: لم نشهد أية آثار سلبية للتظاهرات على قطاع السياحة في الأناضول، من ضمنها المدن الساحلية مثل أنطاليا وبودروم ومرمريس.

 

 

البدائل
واشارت تقارير الى ان الاحداث التي تمر بها تركيا تسببت في الغاء حجوزات غالبية السياح من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي ما قبل وأثناء شهر رمضان المبارك بنسبة 90٪، فيما حوّل معظمهم وجهتهم السياحية الى شرق آسيا ما بين ماليزيا واندونيسيا وسريلانكا وسنغافورة وهونغ كونغ، وفضل بعضهم الآخر التوجه نحو أوروبا وبالدرجة الاولى الى لندن والمانيا والنمسا.
وذكرت معلومات ان تظاهرات ساحة «تقسيم» دفعت نحو 30 في المئة من السياح السعوديين إلى إلغاء حجوزاتهم، وسط توقعات عاملين في قطاع السياحة بارتفاع هذه النسبة، في حال استمرار التظاهرات، وعدم استقرار الأوضاع الأمنية هناك.
وقال عاملون في قطاع السياحة: إن ماليزيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا ستكون وجهات بديلة للسعوديين الذين ألغوا حجوزاتهم الى تركيا أو الذين يفكرون في إلغائها إذا لم تستقر الأوضاع الأمنية هناك.
ويذكر أن تركيا شكلت وجهة مرغوبة لدى السعوديين منذ خمسة أعوام. وبلغ عدد السياح السعوديين الذين زاروا تركيا خلال الربع الأول من هذا العام 53 ألفاً، وكان متوقعاً ارتفاع إجمالي عدد السياح السعوديين الى تركيا إلى 400 ألف سائح هذا العام. ويذكر أن عدد السياح السعوديين الذين زاروا تركيا خلال العام الماضي بلغ 200 ألف سائح، بزيادة 51 في المئة، مقارنة مع العام 2011.

 


 

دبي الاكثر اماناً
وفي المقابل أكد عدد من مديري شركات السفر والسياحة العاملة في دبي أن  35% من الحجوزات الملغية  في تركيا قررت اختيار دبي كوجهتهم المفضلة البديلة، شارحين انه بعد ان كانت تركيا في المركز الأول كوجهة مفضلة لدى السياح العرب، متبوعة بدبي، ثم بيروت، أما اليوم، وبعد الاضطرابات السياسية التي حدثت في لبنان، وما يحدث حالياً في اسطنبول التي تعد القلب النابض للسياحة التركية، اصبحت دبي الملاذ الآمن لسياح المنطقة.
وأشاروا إلى أن تركيا كانت خلال السنوات الماضية، الوجهة الأولى للخليجيين عموماً ومن الامارات والسعودية بصفة خاصة، لكن الأحداث التي تشهدها ساحة جيزي وسط ميدان «تقسيم» بإسطنبول وانتشارها لتشمل أزمير وأنقرة وعدداً من المدن الرئيسية الأخرى، ترجح احتمال تخلي تركيا عن المركز الأول لصالح دبي والإمارات، خصوصاً أنها الوجهة الأكثر أماناً واستقراراً في المنطقة خلال الوقت الراهن.

مجد على المحك
ويذكر اخيراً انه منذ حوالي الخمس سنوات تشهد اسطنبول المدينة المطلة على بحر البوسفور، تلك البلاد التي تجمع ما بين الاسلام والنظام العلماني والحداثة والتطور والازدهار الاقتصادي والتجاري، إقبالاً متزايداً من السياح  العرب.
ويرجع السبب في الارتفاع السريع لأعداد الزوار العرب لتركيا خلال العامين الأخيرين إلى عاملين رئيسيين: الأول هو الاضطراب السياسي في العالم العربي والثاني والمثير للاهتمام  هو تصدير المسلسلات التركية المدبلجة الى الدول العربية والتي لاقت نجاحاً واقبالاً كبيرين من المشاهدين العرب خصوصاً انها تبث في عدد كبير من الدول العربية. واللافت ان هذه المسلسلات، الى جانب ترويجها للثقافة التركية بين الدول العربية، ساهمت الى حد كبير في الترويج للسياحة التركية لناحية استقطاب الاماكن التي صورت فيها هذه المسلسلات من قصور وبيوت وحدائق لعدد كبير من السياح العرب الذين تقصدوا زيارتها مع كل زيارة لهم الى تركيا، وعرفت السلطات السياحية التركية بشكل جيد كيف تستغل هذه المسلسلات فحولت اماكن تصويرها الى اماكن سياحية يزورها سنوياً اعداد هائلة من السياح من جميع الدول العربية، بدءاً من مسلسل مهند ونور ووصولاً الى مسلسل «محتيسم يوزيل» أي القرن العظيم والذي عرف في الدول العربية تحت اسم «حريم السلطان»، محطماً الارقام القياسية في نسبة مشاهدته في لبنان وسائر الدول العربية. وتبعاً لذلك تحولت مواقع تصوير «حريم السلطان»، وهي مواقع تاريخية حقيقية اذ تمثل قصور السلطان العثماني سليمان الأول الذي عرف بلقب «العظيم» كما عرف باسم سليمان القانوني، الى مواقع جذب تستقطب آلاف السياح العرب منذ العام 2011.
وتقول صحيفة «حريات ديلي نيوز» التي تصدر باللغة الانكليزية في تركيا إنه زار  1،3 مليون شخص من الدول العربية، خصوصاً من دول الخليج العربية ولبنان إسطنبول العام الماضي بما يمثل زيادة نسبتها نحو 54 في المئة مقارنة بالعام السابق، فيما لا يزال الألمان يمثلون القطاع الأكبر من إجمالي السائحين الأجانب الذين يزورون إسطنبول ويأتي بعدهم بفاصل ضيق الروس والبريطانيون. فهل تطيح احتجاجات ساحة «تقسيم» مجد اسطنبول السياحي هذا الصيف، ام انها غيمة صيف ثقيلة لكن عابرة؟.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق