سياسة عربية

عباس بين مطرقة ضغوط الخارج وسندان مطالب الداخل

آخر مهمة صعبة انجزها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس خلال الفترة الماضية، كانت تشكيله حكومة جديدة برئاسة رامي الحمدالله التي خلفت حكومة رئيس الحكومة المستقيل سلام فياض، ثم غاب عن صدارة الفعل ليواجه مجدداً سندان مطالب الداخل له ومطرقة ضغوط الخارج الشديدة الوطأة عليه، بغية الانخراط مجدداً في مفاوضات السلام مع الجانب الاسرائيلي، والشروط والمعطيات القديمة التي لم توصل الا الى الحائط المسدود بعد اعوام عدة.

الحكومة الفلسطينية الجديدة التي لم يمض على اعلانها اقل من شهر، ارضت حركة «فتح» التي جاهرت بعدائها لسلام وحكومته لاسباب متعددة، لكنها لم تستجب لمطالب حركة «حماس» وفصائل فلسطينية اخرى بتأليف حكومة وحدة وطنية تسبق اتمام المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية المنشودة والمنتظرة.
ان انجاز تأليف الحكومة سيغطي لبعض الوقت الازمات المالية والاقتصادية المتفاقمة للسلطة ويسكت الاصوات العالية المطالبة بحلول سريعة، كون الرد الجاهز عليها سيكون: عليكم اعطاء التشكيلة الحكومية الجديدة مهلة زمنية بغية الامساك بالاوراق والملفات والانطلاق في رحلتها الطويلة.
وثمة استحقاق داخلي اخر ينبغي على عباس ان يواجهه، وهو استحقاق انجاز المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية على الاقل خلال المهلة الزمنية التي حددها الفريقان الفلسطينيان، اي حركتا «فتح» و«حماس» وهي اقل من شهرين.

مسيرة المصالحة
من البديهي الاشارة الى انه رغم ان مسيرة المصالحة التي بدأت قبل اكثر من نصف عام برعاية القيادة المصرية الجديدة وتحت بصرها، قد تجاوزت المحطات الاولى الصعبة، وبالتالي خففت مسيرة الخلافات والاحتقانات بين الطرفين اللذين يحكم كل منهما غزة والضفة الغربية، لان ذلك على اهميته وبلاغته لم يسقط من اذهان الشريحة الاوسع من الشعب الفلسطيني تشاؤمه حيال القدرة على ايصال هذا الاستحقاق الى خواتيمه الاخيرة المأمولة لاعتبارات حاضرة سابقة يدركها اهل الشعاب الفلسطينية اكثر من سواهم، وفي مقدمها ان انهاء الانقسام الحاصل هو امر لا يشجع عليه الكثير من الاطراف الخارجية، ولا سيما اولئك الذين يعتبرون ان لهم يداً في الموضوع الفلسطيني، الا ان هذه الجهات ترى مصلحة في ابقاء الوضع الفلسطيني مبعثراً ومشتتاً لان ذلك يسهل فرض الشروط والضغوط الاميركية على الجانب الفلسطيني لكي يتخلى عن اي حالة تصلب وممانعة ما زال يعتصم في داخلها.
اضافة الى ذلك، يدرك الفلسطينيون اكثر من سواهم ان ثمة مصالح فئوية وفردية داخل كل من الحركتين تحول دون اتمام حلقات المصالحة المنشودة وايصال قطار هذه المصالحة الى محطتها الاخيرة. فخلال سني الانقسام الفلسطيني خصوصاً بعد احداث غزة التي ادت الى بسط حركة «حماس» سيطرتها على المدينة وقطاعها، بعدما طردت حركة «فتح» منها، نبتت مصالح وحسابات عاشت على هذا الانقسام، لذا فأصحابها باتوا غير مستعجلين لانجاز المصالحة، فضلاً عن ان حركة «حماس» لا تريد المصالحة الان لانها لا تريد الانتخابات العامة، التي هي جزء اساسي من المصالحة، خصوصاً انها تعتبر نفسها غير جاهزة لذلك، او على الاقل تعتبر ان الوضع الحالي لا يؤمن لها اكثرية المقاعد في المجلس التشريعي المقبل، كما على غرار ما حصل في الانتخابات النيابية الاخيرة.
واذا كان بالامكان القول ان عباس يعرف كيف «يتكيف» مع هذه الاستحقاقات الداخلية والضغوط الناجمة عنها، خصوصاً وانه «يتعايش» معها منذ زمن بعيد، فإن السلطة الفلسطينية باتت تعي ان عليها ان تواجه خلال الفترة المقبلة وتيرة اعلى من الضغوط الخارجية، بغية ارغام هذه السلطة على العودة للجلوس الى طاولة المفاوضات مع الاسرائيلي، ولو من دون حوافز وشروط ومعطيات جديدة تحول دون تكرار ما حصل في المفاوضات السابقة، وتحول دون بلوغ الحائط المسدود الذي بلغته في السابق والذي اجبر وفد السلطة على مغادرة طاولة المفاوضات في نهاية المطاف من دون عودة اليها خلال العامين المنصرمين.

ضغوط خارجية
لقد ابلغ عباس الى من يعنيهم الامر وخصوصاً القيادات الفلسطينية الاخرى، ان وتيرة الضغوط التي يتعرض لها للعودة الى طاولة المفاوضات بالصيغة القديمة قد ازدادت في الفترة الاخيرة.
ولعل هذه الضغوط التي تتعرض لها السلطة الفلسطينية هي التي فتحت الباب لنائب وزير الامن الاسرائيلي داني دانون ليطلق في الايام القليلة الماضية تصريحه الشهير الذي قال فيه صراحة ان الاسرائيليين لن يعطوا الفلسطينيين دولة وان كل ما يقال عن هذا الامر غير وارد.
فهذا الكلام في رأي العارفين بالشأن الفلسطيني انما هو جزء لا يتجزأ من الضغوط المعنوية والمادية على السلطة الفلسطينية، لكي تعود الى المفاوضات دون التكلم عن المستوطنات التي تتوسع يوماً بعد يوم.
وتعيش السلطة الفلسطينية منذ اشهر عدة، وبالتحديد منذ القرار الاممي الذي صدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي والقاضي بالاعتراف بفلسطين دولة وعضواً مراقباً في الامم المتحدة، تحت وطأة ازمة مالية حادة عبرت عن نفسها في خفض الكثير من المكاسب والتقديمات الاجتماعية التي كانت تعطى سابقاً للشعب الفلسطيني.
والازمة تلك لم يحلها بطبيعة الحال افراج السلطات الاسرائيلية عن بعض الحقوق المالية للفلسطينيين، التي لم تحل الازمة المالية الكبيرة للسلطة.
وبمعنى اخر، بات الجانب الفلسطيني يشعر في الآونة الاخيرة ان الجانب الاميركي، صار يتصرف وكأن ثمة فرصة سانحة بغية استيعاب الجانب الفلسطيني وتدجينه، وبالتالي اكراهه على التخلي عن شروطه ورؤاه السابقة، وحتى ما يعتبره الفلسطينيون قرارات اممية متخذة سابقاً وتشكل مرجعية دولية وحصانة اممية للحقوق الفلسطينية. وبذلك يسمح للفلسطينيين بالاستمرار في سياسة الاستيطان.

استغلال التشرذم
وبالطبع بات الجانب الفلسطيني يخشى من ان يكون هذا التشرذم والتخبط اللذان يعيشهما العالم العربي منذ نحو عامين ونصف العام، مبرراً لكي يتحلل الجانب الاسرائيلي بزعامة نتانياهو من كل التزاماته السابقة، وتحديداً تلك التي نصت عليها اتفاقية اوسلو المعقودة في العام 1993، وبالتالي يسعى الى تكريس امر واقع يضع خطاً احمر نهائياً امام امكان تحقيق الحلم الفلسطيني الكبير، وهو انشاء دولة فلسطينية مستقلة على اراضي العام 1967 على الاقل وفق ما تحدث به نائب وزير الامن الاسرائيلي، لا سيما ان الجانب الاسرائيلي ما زال يواصل كل اعمال التهويد في القدس، ولا يكف عن بناء المشاريع الاستيطانية في اراضي الضفة الغربية المحتلة.
ولقد تعزز هذا الشعور بالخوف لدى الفلسطينيين من الآتي في اعقاب زيارة وزير الخارجية الاميركية جون كيري الاخيرة وما قبلها، حيث كان واضحاً انه في مقابل الجزرة التي يسعى لتقديمها الى الجانب الفلسطيني، وهي اقامة بعض المشاريع المالية، كان ثمة عصا غليظة حاضرة تتمثل في الالحاح على ضرورة عودة الجانب الفلسطيني الى طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين من دون اية سقوف او شروط مسبقة.
كذلك يتحدث الرئيس الفلسطيني صراحة عن ضغوط مكشوفة مورست عليه في مؤتمر دافوس الذي عقد في البحر الميت في ايار (مايو) الماضي، من اجل الرضوخ لفكرة العودة الى التفاوض مع الاسرائيليين وفق الصيغة القديمة اي من دون مرجعية دولية محددة وواضحة.

… و«حماس» ايضاً
واللافت ان حدود الضغوط لا تقتصر على السلطة الفلسطينية وعمودها الفقري حركة «فتح» بل هي ايضاً امتدت منذ زمن نحو حركة «حماس» نفسها، فثمة من يرى ان هذه الحركة تعيش منذ ان خرجت قيادتها من دمشق مرحلة من التجاذبات والاغراءات لكي تنخرط بشكل نهائي في ركاب عملية السلام وتتخلى عن كل برامجها الداعية الى استمرار الكفاح المسلح.
وهكذا مع كل هذه المخاوف المتعاظمة من المستقبل لدى الجانب الفلسطيني ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح هو: ماذا بيد الجانب الفلسطيني ان يفعل؟ واستطراداً هل بمقدوره المواجهة والتمسك بما يعتبره ثوابت ومسلمات؟ وهل لديه خيارات واوراق قوة يمكن ان «يتسلح» بها لمواجهة سيل الضغوط المنهال عليه من اكثر من جهة؟
الذي لا مجال للنقاش فيه، ان الوضع الفلسطيني الداخلي هو في واحدة من اسوأ مراحله، فالخيارات محصورة وفرص المناورة ضئيلة، لكن ذلك لا يمنع من القول ان السلطة مدركة لما يخطط ويعد، وهي بالتالي ستعود الى «حصنها» الدائم وهو التمسك بالحقوق والشروط المعروفة لان لا مجال بعد للتراجع.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق