فنان

بيار صادق رسم تاريخاً كلما حكى

كان لديه الكثير بعد ليقوله بريشته، وربما أكثر مما كنا نتوقعه. كيف لا وهو من قال يوماً «من السهل دائماً ايجاد فكرة، خصوصاً في لبنان». استاذ في رسم الفكرة التي تعبر عن موقف أو رأي حر، رفض ان يساوم عليها ولو كلف الأمر غيابه عن زاويته في صحيفة النهار أو كل الزوايا التي حفر فيها بريشته اسمه، 50 عاماً كان يمكن أن تطول أكثر مع ريشة بيار صادق، لو لم يحضر هذا الزائر «الخبيث» ليوقف مسار عمر عند المحطة 76. فكان ختام النشرة يوم الأربعاء 23 نيسان (ابريل) من دون بيار صادق…

ليس سهلاً أن يكتب عن بيار صادق بلغة الغائب، وهو الذي حفر في الذاكرة ملامح لبنان على مدى 50 عاماً وأدمن على الريشة حتى اللحظة الأخيرة، فكان أن نقل العدوى إلى كل من أتقن فعل الحرية. بجرأة اختصر الخبر بصورة وضحكة مضرجة بدمعة اللبناني المحكوم على امره منذ أكثر من 60 عاماً. وفي أقل من دقيقتين كان يختصر شريط احداث اليوم وغالباً ما كان يبكيه الحدث، لكنه كان يتعالى على حزنه ويمسح دمعته ليقول ما يريد وما يشعر به اللبناني بريشة بيار صادق. وعندما تتزامن الأحداث كان يقوم بمزج أفكار عدة. «ففي لبنان ثروة من مجريات الأحداث» على ما كان يردد، ويوم غافله «الخبيث» قرر ألا يستسلم. ففعلها، قاومه وهو على فراش المرض وحتى النهاية، فرسم على دفتر كل ما كان يحيكه قلبه وإحساسه بصدق كما العادة. وهذا ما روته رفيقة دربه وعمره وأم أولاده الثلاثة في كلمة العائلة في ختام مراسم الجنازة: «كان بيار صادقاً وصخرة مليئة بالعاطفة مسند الجميع. وكان صادقاً في دقة قلبه، في وفائه لسر الزواج، في ريشته على الورق وفي علاقته مع الله، في عشقه للبنان وفي احترامه لكل المؤسسات».

عنفوان
عندما بدأ بيار صادق في بيع لوحاته كان لا يزال بعد طالباً. وكان رسامو الكاريكاتور في لبنان حينذاك ثلاثة: عزت خورشيد وخليل أشقر وديران عجميان. في بداية مشواره عمل في «دار الصياد» التي أسسها الصحافي الراحل سعيد فريحة الذي كان من المعجبين بشخصية الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، فكان يستاء من الأسلوب الذي يصوره به بيار صادق،  لكن الأخير لم يغير قط شكل رسومه لعبد الناصر على رغم شكاوى رئيسه في العمل وتذمره منها. ومما رواه الراحل عن هذه المرحلة: «كان يقول لي  فريحة أنني أجعل من الرئيس عبد الناصر قبيحاً في رسومي. وكنت أجيبه بأنني رسام كاريكاتور ولست مصوراً فوتوغرافياً».
زميله وصديقه الرسام الكاريكاتوري ستافرو جبرا يعترف بأن بيار صادق حفر في مجال الكاريكاتور «وهو الذي عمل في مجلات عدة قبل أن يطرق باب صحيفة «النهار» في العام 1958، على أثر لقاء مع مدير تحرير جريدة «النهار» غسان تويني الذي عرض عليه العمل معه. يومها لم يتردد بيار صادق في إغتنام الفرصة. وأسس مع ميشال أبو جودة «ديو» نتج عنه ما وصفه جبرا بـ «العنفوان» لهوية الكاريكاتور اللبناني. لكنه غادر الجريدة في العام 1978 وبدأ العمل في صحيفة «العمل»، حيث أصر على الإحتفاظ بحريته في التعبير على رغم إنتماء تلك الصحيفة إلى خط حزب الكتائب المسيحي. وفي أواخر عقد الثمانينيات الماضي، ترك صحيفة  «العمل» ليلتحق بصحيفة «الجمهورية» لمدة سنة واحدة كما عمل في صحيفة «الديار».

 

في النهار
كان بيار صادق أول من ابتكر فكرة رسوم الكاريكاتور على ثماني أعمدة في غلاف الجريدة الأخير والتي حافظت على شكلها بلا تغيير منذ ظهورها في العام 1963. وكان يفاخر بعرض صحيفة النهار في اكشاك الصحف في مركز بيروت قبل إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان (ابريل) من العام 1975 من غلافها الأخير بدلاً من صفحتها الأولى، لكن ذلك لم يرق لأصحاب بعض الصحف. ولما عادت نسائم السلام إلى ربوع لبنان في سنة 1992، إتصل مدير تحرير «النهار» آنذاك، غسان تويني ببيار، الذي كان قد غادر الصحيفة بسبب ظروف الحرب، ليعهد إليه بالعمل في الصفحة الأخيرة من جديد.
وتروي شريكة عمره حنان في إحدى المقابلات أن «جريدة «النهار» كانت جامعة بيار وبيته، كيف لا وهو الذي قضى فيها 40 عاماً، وصارت تربطه بالراحل غسان تويني صداقة اخوية عميقة». ويروى أن بيار أغضب مرة في إحدى رسوماته المكتب الثاني ايام الرئيس فؤاد شهاب فزاره عناصر من جهاز المخابرات في منزله واستجوبوه لساعات عدة، وهو واقف على قدميه من دون ان يسمحوا له بالجلوس، ما حدا بتويني إلى الاتصال بالمخابرات وابلاغهم انه اذا ارادوا مرة اخرى استجواب صادق فـ «ليأخذوني معه». ويوم سمع الراحل تويني برحيل صديق عمره عن صحيفة النهار بكى على ما روت زوجته حنان في إحدى المقابلات «بعد فصله من صحيفة «النهار» تلقى بيار اتصالاً من عقيلة الراحل غسان تويني اشارت فيه انه ولدى علم غسان بقرار صرفه بكى بحسرة من بنى معه صرحاً حضارياً».

اول كاريكاتور متحرك متلفز
برز اسم بيار صادق كناقد سياسي وتعرض من خلال رسمه الى مشاكل مع السياسيين، الا انه تخطاها، ولم يكل. وينقل مقربون من الراحل بيار صادق أنه لم تكن تربطه صداقات عميقة مع السياسيين، إنما علاقات جيدة، وهذا ما سمح له في أن ينتقدهم بحرية مطلقة من دون ان يؤثروا عليه. وعلى رغم المشاكل التي تعرض لها  إلا أنه استطاع تداركها لأنه كان مقتنعاً بما تقوله ريشته.
في العام 1985، دخل بيار صادق ميدان العمل التلفزيوني بفكرة مبتكرة عرضها على المؤسسة اللبنانية للإرسال: رسوم كاريكاتور سياسية متحركة.  فعين مسؤولاً عن المشروع، ودشن أولى شخصياته المتحركة في أيار (مايو) من العام 1986 وواصل عمله في التلفزيون المذكور حتى العام 2002. وما إن غادره حتى استدعته محطة تلفزيون «المستقبل» ووعدته بالعمل لديها في إستقلالية تامة. ويروى ان محطة CNN زارته مرة واعترفت بأنه «الرسام الوحيد في العالم الذي خلق كاريكاتوراً متحركاً تلفزيونياً يعرض يومياً من دون تكرار».

حرّ لا يساوم
تميز بيار صادق بجرأته، وكان يرفض أن يساوم على شحطة ريشة أو الإستسلام لفكرة الرقابة كما يقول عنه صديق عمره الفنان الياس الرحباني. وكان يردد: «عندما أرسم لا أفكر في خوف أو تهديدات، بل أعيش لحظتي مع رسومي وشخوصي. لا أركز فكري وانتباهي في نفسي أو في عائلتي وإنما في ما أرسم فقط. وبصفتي رساماً حراً للكاريكاتور، يجب أن أكون جريئاً. فاذا وقع في يديك عدد من صحيفة «النهار» لا يحتوي على رسوم كاريكاتورية فلتعلم إن ذلك بسبب رفضي لإدخال أي تغيير عليها». ويضيف صديقه الياس الرحباني، «كان بيار مؤمناً بهامش الحرية التي يتمتع بها لبنان وكان يقول إن لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي انفتح فيه الباب على الحرية، ومن مسؤوليتنا أن نستفيد من ذلك. لقد أعطى الأشخاص حياة أخرى ، وهو يحمل زمناً مثقلاً بالفكر والفن الرائع وهو باق في الزمن الآتي عملاقاً يدرس للأجيال الباقية».
لم يستسلم بيار للخبيث، وأصر على ضحكته التي كانت تختصر الكثير الكثير. وعن هذه الإرادة التي أدهشت زواره في مرحلة مرضه الأخيرة كتب صديقه الشاعر قزحيا ساسين:«إنتصر بيار على السرطان بأنه لم يتقاعد. كان يرسم كاريكاتوره اليومي في المستشفى،(…) وللريشة محلها الذي لا تصادره رهبة وإن تكن رهبة السرطان. بقي بيار أنيق النظرة والوقفة بعد علمه بزائر رئتيه المفاجىء.  بقي خطوه ذا رنين. بقي لأبيض كأسه هيبة، وهو يقول: «كاسك» (…)شجاع هو بيار صادق، أما السرطان فجبان، والسرطان غدار أما بيار فوفي، وفاء الصفصاف للحزن، ووفاء فقراء الارض للجوع… رحل بيار صادق. لكنه بقي أستاذاً في الشجاعة والأبوة والايمان». ويختم ساسين: «أحسدك لأنك كتبت لنفسك بريشتك عمراً لا يدركه عنكبوت النسيان، وأعرف أنك مثلما امتحنت هامش الحرية بالكاريكاتور في الارض، ستمتحن هامش الحرية في السماء».

ج. ن

 

بيار صادق… ريشة في مهب الريح
باكراً حمل بيار صادق أقلامه وأدواته، في أواخر العقد الخامس من القرن العشرين، وذهب الى شارع المنقذين – الصيفي، في بيروت، حيث كانت تقع مكاتب مجلة «الخواطر»، التي كانت بحاجة الى خطّاط، وذلك بعدما أخبره صديقه الصحافي الناشىء – يومئذٍ – سليم مكرزل، ان اميل الحايك يبحث عمن يكتب له عناوين مجلته.
يومها، لاحظ صاحب «الخواطر»، ان العناوين التي نفّذها بيار صادق، فيها من الرسم أكثر مما فيها من الخط، فبادره قائلاً:
يا بيار، هل أنت تجيد الرسم؟
فأجابه: أحاول أحياناً.
فقال له: هل تستطيع ان ترسم لنا شخصية الرئيس حسين العويني؟
نجح بيار صادق في الامتحان.
وهكذا بدأ خطواته الاولى في عالم الرسم الكاريكاتوري، في مجلة «الخواطر».
في ذلك الحين، انتسب الى الاكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وبعد تخرجه تنقل في مجلات لبنانية عدة، في الصياد، والنهار، والعمل، والجمهورية، والدبور.
بدأ فن الكاريكاتور في لبنان، في زمن الانتداب الفرنسي، مع مجلة «الدبور» لمؤسسها يوسف المكرزل، ومع مجلة «الصياد» في زمن الاستقلال، لمؤسسها سعيد فريحه. ومن رواد هذا الفن في ذلك الزمن البعيد: عزت خورشيد، وصاورخان، وديران، وخليل الاشقر… وعندما امتد هذا الفن الى الجرائد اليومية، ظهر الجيل الجديد الذي اخذ يتابع المسيرة، من بينهم: ملحم عماد، وبيار صادق وستافرو جبرا، وجان مشعلاني، ونبيل قدوح وغيرهم…
في جريدة «النهار» سطع نجم بيار صادق، وصارت رسومه حديث القاصي والداني، تساهم الى جانب المقالة الصحافية، واحياناً كثيرة، اكثر من المقالة، في التعبير عن الحدث السياسي، ومما ساهم في بلورة الفكر السياسي عند الرسام بيار صادق، المناخ الذي كان يسود في جريدة «النهار» في ذلك الزمن، ومشاركة اركان الجريدة واصدقائها في صنع «الحدث الكاريكاتوري» – اذا جاز التعبير – واذكر منهم: غسان تويني، وميشال ابو جودة، وريمون اده، وعلياء الصلح، وسواهم… وبعد هذه المرحلة الذهبية، فقدت ريشته الى حد ما، بريقها وصدقيتها.
على مدى اكثر من نصف قرن، رسم بيار صادق الكثير الكثير، واقام معارض عدة، في لبنان والخارج، واصدر اربعة كتب، هي: كاريكاتور صادق – اضحك مع بيار صادق على السياسيين – كلنا عالوطن – بشير. ورحل عن 76 سنة، تاركاً بصمته الخاصة في فن الكاريكاتور اللبناني.

ا. د
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق