افتتاحية

الواقع مر فتعالوا… نحلم

عندما تقضي الحالة ان تتقدم مصالح الكبار، تختفي مصالح الصغار، لا بل انها تصبح مهيأة لدفع الثمن، دون اي ذنب. ذلك ان العالم تحكمه شريعة الغاب. القوي يأكل الضعيف وكأننا في غابة، فيضيع الحق وتسقط الديمقراطية التي حولوها الى علكة يلهون بها الشعوب المغلوبة على امرها، وهم عنها غافلون وبعيدون. انشأوا هيئة الامم المتحدة، على ان تتولى الحكم بين الناس، ولكنهم سرعان ما عطلوها وحولوها الى جمعية، كلمتها غير نافذة وغير مسموعة. لماذا؟ لان الاقوياء لا يستطيعون التحكم بقراراتها، التي تبقى معنوية اكثر منها تنفيذية. ولكن لكي يستطيعوا السيطرة على العالم انشأوا مجلس الامن واعطوا انفسهم حق النقض الفيتو الذي انحصر بايدي خمس دول هي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين. فاي قرار لا يناسب واحدة من هذه الدول يواجه بالفيتو فيتعطل.
غير ان الدول الاخرى التي يقارب عددها المئتين فهي اشبه بالغنم يقودها هؤلاء وهم قلة قليلة ولكنهم يملكون القوة والجبروت. فهل فكرت هذه الدول ان تثور يوماً على هذا الواقع المزري وتسعى الى تبديله حتى تتساوى الدول كلها امام القوانين الدولية، فلا يبقى من نفوذ لواحدة على اخرى؟
ساقنا الى هذا الكلام ما قرأناه قبل ايام عن الازمة السورية التي يعطل الكبار الحل فيها، ويستمر تساقط البشر بالالاف، حتى فاق عدد القتلى الثلاثمئة الف قتيل والنزف مستمر، مع العلم ان الشعب السوري في اغلبيته الساحقة يرفض الحرب والقتال، ويسعى الى التهدئة والحلول السلمية. ولكن روسيا وهي احدى الدول المتحكمة بالعالم، تمنع الحل في سوريا، لان مصلحتها تقضي بان يبقى النظام الحالي مسيطراً، فهو يؤمن لها كل ما تطمح اليه في هذه المنطقة من العالم. دخلت روسيا الى سوريا تحت عنوان محاربة التكفيريين، وسرعان ما تبين انها لم تدخل الا لمساندة النظام وضرب المعارضة السورية التي تقاتله. فانكشفت اوراقها ولكنها لم تبال، واكملت خطتها وشنت اعنف الغارات الجوية فسقط مئات القتلى من المدنيين وبقي الخطر بعيداً عن التكفيريين. وبعد اشهر، وقبل ان تغرق اكثر في المستنقع السوري انسحبت، راسمة خطوط دويلات ثلاث وكأنها اوحت بأنها تريد تقسيم سوريا المخطط الذي رفضه الشعب السوري برمته.
وتداعى الجميع الى اعلان هدنة كانت لا تزال سارية المفعول رغم هشاشتها الى ان خرقتها القوات السورية فاوقعت ما يشبه المجازر. كذلك عمدت في الايام الاخيرة الى ضرب هذه الهدنة. ومرة جديدة وتحت شعار محاربة الارهابيين شنت الطائرات الروسية الغارات المدمرة على حلب الامر الذي هدد بالعودة الى الحرب الطاحنة.
وهكذا عطلت المصالح الروسية السلام في سوريا وسدت افقه، دون ان يرف لموسكو جفن. لقد اعلنت المعارضة السورية قبل ايام، وتسهيلاً لاحلال السلام في هذا البلد المنكوب، المزيد من المرونة بهدف التوصل الى حل سياسي، فابدت استعدادها للمشاركة في هيئة حكم انتقالي مع اعضاء حاليين من حكومة النظام، ولكن ليس مع الرئيس بشار الاسد الذي تحمله المعارضة مسؤولية مئات الاف القتلى الذين سقطوا في القتال، غير ان الروس قابلوا هذا الطرح بتصعيد الهجمات الجوية، حتى انهم هددوا الهدنة المستمرة منذ شهرين بالسقوط. وما همهم طالما ان مصالحهم مؤمنة. فهل صحيح ان حبهم للرئيس الاسد هو الذي يدفعهم الى اتخاذ القرار بمواصلة القتال؟ بالطبع لا ولكن مصالحهم هي التي تقضي بذلك، ويشجعهم على ذلك التقاعس الاميركي الذي بلغ حداً اثار استغراب العالم. فقبل ايام قامت طائرات حربية روسية بالتحليق فوق بارجة اميركية وعلى مسافة لم تتجاوز الامتار التسعة، ولكن الاميركيين انحنوا امام الاستفزاز الروسي وكأن شيئاً لم يكن وعاودت الكرة مرة ثانية عندما اعترضت طائرة روسية طائرة اميركية في حادث وصف بالخطر. وكذلك لم تحرك واشنطن ساكناً. وهكذا تنقلب الموازين السياسية العالمية يوماً بعد يوم.
وما يجري في سوريا يقابله سيناريو مماثل في لبنان ولكن هذه المرة تقوده ايران التي تسعى الى تمدد نفوذها في المنطقة العربية باسرها. فمنذ سنتين ولبنان بلا رئيس للجمهورية، ابدت الاوساط السياسية اللبنانية في معظمها رغبتها في سد الفراغ، ولكن الرفض الايراني عطل كل المبادرات، حتى كاد البلد ان يضيع. وما يهم هو ان المصالح الغريبة مؤمنة. فمن هي القوة الدولية التي يمكنها ان تفصل في هذا الوضع، وتعيد البلد الى حياته الطبيعية؟ هل من المعقول ان تستأثر قوة غريبة بارادة شعب ومصير بلد، فقط لأن ذلك يحقق مصالحها؟
لبنان الذي كان في يوم من الايام لؤلؤة هذا الشرق، حولته المطامع الاجنبية الى بلد منهوك القوى. اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وزرعت التفرقة بين ابنائه، واصبح مهدداً بالانهيار. ولكي تكتمل الصورة السوداء «نعم» لبنان بطقم سياسي ضعيف متخاذل مستسلم، مطاطىء الرأس، لا يفكر الا بالصفقات والسمسرات حتى ملأت فضائحه اعمدة الصحف وشاشات التلفزة، واصبحت على كل شفة ولسان. وكان يمكن ان تصطلح الامور وتتبدل الاحوال، لو كان هناك شعب يملك النخوة والحمية، فيثور بوجه هذا الواقع ويخلع هذه الطبقة السياسية ويرحلها الى اقاصي الارض ليقي لبنان شرها وفسادها. الا ان الشعب اللبناني الذي اشتهر منذ القدم بالنخوة والمروءة والذكاء، والذي جاب العالم وترك اينما حل اثاراً لا تمحى، هو اليوم في وضع مختلف تماماً، وكأن لعنة سحرية حلت به ودمرته، وقضت على ارادته الصلبة.
على كل حال ان البكاء على الاطلال لم يعد ينفع، والمطلوب قوة دولية عادلة تلغي الامتيازات التي يتمتع بها الكبار، وتساوي بين جميع الشعوب، وقوة محلية نظيفة وعادلة ايضاً تطيح الفاسدين وتؤسس لدولة تقوم على العدل والمساواة والحرية. طبعاً ما نقوله هو من الاحلام فلا الدول الكبرى ستتخلى عن امتيازاتها، ولا المتحكمين سيتخلون عن مغانهم، ويبقى لنا ان نموت يأساً او… ان نحلم.

«الاسبوع العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق