افتتاحية

الحكم للناس وللعالم وللتاريخ

واخيراً حزمت الحكومة امرها واقرت خطة جديدة قديمة لرفع النفايات من الشوارع وبدأت بالتنفيذ فوراً، وهي سائرة بخطى ثابتة وجدية على ما يبدو رغم بعض المطبات والمعارضات التي تعترضها. فالكيل طفح والوضع لم يعد يحتمل التأجيل.
المواطنون طبعاً رحبوا رغم عدم رضاهم عن الخطة. ولكن كما يقول المثل «الكحل افضل من العمى». فهم ارادوا ان يبعدوا الخطر الصحي الداهم عنهم وعن اولادهم.
علامات استفهام كثيرة ترافق هذه الخطة وستتكشف الثغرات قريباً بعد ان يرتاح الناس من المناظر البشعة التي رافقتهم على مر حوالي ثمانية اشهر. ذلك ان الخطة مؤقتة ومدتها اربع سنوات ولكن ماذا بعد؟
نحن نقول بصراحة اننا لم نعد نثق بوعود اي من هولاء السياسيين الذين قال عنهم الجميع انهم فاسدون. فاي حل هو بعد اربع سنوات وفي حال وجد من يضمن التنفيذ. وبتاريخ اقرب فان مطمر الناعمة فتح لشهرين وماذا بعد ذلك؟
كيف تم احياء الخطة بعدما كانت رفضت منذ اليوم الاول للازمة وكيف انقلبت المواقف المعارضة الى مؤيدة؟ وما هي الاثمان التي دفعت؟ اسئلة كثيرة قد لا تجد من يجيب عليها ولكنها تبقى في بال المواطنين.
فكيف تطورت الاوضاع في الايام الاخيرة التي سبقت الموافقة على الخطة؟
كانت الحكومة طوال الاسبوع الماضي في سباق ماراتوني مع الحراك الشعبي. فهو حدد يوم السبت كاخر مهلة، يبدأ بعدها التحرك بشكل تصعيدي، حتى يتم الوصول الى حل لازمة النفايات المتفاقمة، والتي باتت تهدد حياة اللبنانيين، كل اللبنانيين، بخطر داهم. اما الحكومة فحاولت جاهدة الوصول الى حل قبل انتهاء المهلة، تجنباً للغضبة الشعبية التي بدا انها جدية هذه المرة، لا كما سبقها من تحرك سرعان ما توقف، واستطاع السياسيون ان يخنقوه في المهد. فهم من كثرة تمرسهم في الالاعيب المافياوية تكونت لديهم مناعة ضد كل الاحتجاجات والانتقادات. فكيف تم التوصل الى حل؟
الحكومة بدت مربكة بعد جلسة اللجنة المولجة معالجة قضية النفايات، مساء الجمعة 11 اذار وبدت وكأنها تسرق الحل وينتابها الخجل من الاعلان عنه، وكل التصريحات التي عقبت الاجتماع كانت توحي بذلك. البعض قال ان الحل قطع 99 بالمئة من الرحلة الطويلة، والبعض الاخر استمهل لاجراء المشاورات واعطاء الحكومة رده على اعتماد هذا المطمر او ذاك. وباختصار كانت المواقف غامضة وغير واضحة كما كان يأمل اللبنانيون بان تكون.
وفي اليوم التالي اي يوم السبت عقدت جلسة لمجلس الوزراء، وكانت النتيجة مخيبة اذ طلعت بحل، سبق ان طرح ورفض. وعلى الفور كثرت الاحتجاجات والتحركات من هنا وهناك وكلها ترفض اقامة مطامر، وبدت الحكومة مربكة فهي على ضعفها غير قادرة على وضع خطتها موضع التنفيذ. طبعاً المراوحة قائمة والنفايات في اماكنها والناس يدخلون المستشفيات بالمئات حتى انها ضاقت بهم على كثرتها ورحابتها. فكان لا بد من الحسم.
الناس من كثرة الخيبات التي اصابتهم لم يعودوا يصدقون، وهم ينتظرون مرور الوقت في الايام المقبلة لمعرفة مدى صدقية الحكومة، ومدى سلامة الحلول. والحراك الشعبي هو الاخر لم يصدق، وتابع تحركه فنظم مسيرة احتجاج واستنكار، انطلقت من ساحة ساسين في الاشرفية، ووصلت الى ساحة رياض الصلح تعبيراً عن رفضه لما صدر من كلام لا يوحي بالثقة، وكالعادة استطاع السياسيون ان يفرقوا بين الحركات الشعبية فتوقفت.
واذا كانت الحكومة قد توصلت الى حلول ناجعة وكانت صادقة في ما تقول، فان ما عرضته حالياً كان مطروحاً منذ اليوم الاول للازمة، فلماذا انتظرت كل هذه المدة والحقت الاذى بالناس؟
الجواب حتماً ليس عند الحكومة وحدها. فمسؤوليتها الاولى انها عاجزة تتحكم فيها الخلافات، وتنسف كل ما يمكن ان يفيد البلد، وهذا امر طبيعي اذ كيف يمكن لاربعة وعشرين «رئيساً»، وهم وزراء هذه الحكومة التعيسة، ان يكونوا على كلمة واحدة، واللبنانيون يعرفون جيداً عمق الخلافات المستفحلة في ما بينهم؟ ان المسؤولية يتقاسمها الطقم السياسي كله، الذي رفض ان يسير بأي حل الا اذا استطاع ان يحصل على حصته من الغنيمة. ولذلك نراهم، يرضى هذا ويغضب ذاك. ولا يكتفي الطقم السياسي بالفضائح التي يرتكبها بحق الشعب اللبناني، بل انه يمننه لانه باق على كراسيه. وعندما تضيق الامور بهم يهددون بالاستقالة، وكأن الشعب يهمه ان يبقوا في الحكم. الا يعلم هؤلاء ان افضل هدية يقدمونها الى المواطنين هي رحيلهم واختفاؤهم من حياتهم السياسية الى الابد، علّ الايام تنسيهم مساوىء هذا الطقم السياسي؟ فرئيس الحكومة هدد انه في حال لم يتم التوصل الى حل لازمة النفايات فانه سيستقيل، والتيار الوطني الحر هدد بانه اذا لم يتم انتخاب مرشحه للرئاسة فان وزراءه ونوابه سيستقيلون. فحبذا لو تتحقق امنية الناس ويرحل السياسيون كلهم، نعم كلهم دون استثناء.
ماذا يقدمون للناس خلال تربعهم على كراسيهم. لقد فشلوا بعد مرور حوالي السنتين في انتخاب رئيس للجمهورية، فعم الفراغ القاتل في قصر بعبدا، وانسحب على كل مؤسسات الدولة. فمجلس النواب غائب نهائياً، واذا صودف واجتمع يكون ذلك غريباً واستثنائياً. ومع ذلك النواب يقبضون رواتبهم في نهاية كل شهر بدل عمل لا يقومون به. ومجلس الوزراء الذي هدد الرئيس تمام سلام بوقف جلساته، لم يحقق امنية واحدة من اماني الشعب، والمؤسسات تعمها الفوضى والرشوة والسمسرة، وهيهات ان يتمكن مواطن من انجاز معاملة ما، بصورة طبيعية، بل عليه ان يدفع الرشاوى الباهظة ليصل الى مبتغاه.
ووصل الانهيار الى علاقات لبنان بالدول العربية فاساء السياسيون الى لبنان اكثر مما اساءوا اليها. فلبنان هو الذي بحاجة الى الدعم العربي في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والسياحية والامنية وغيرها. وهم بدل ان يدركوا ما صنعت ايديهم مستمرون في حملاتهم التي تعقد الامور وتزيدها سوءاً، دون ان يجنوا مكسباً واحداً من هذه الحملات. فهلا استخدموا لغة العقل لاصلاح ما تهدم؟ الا اذا كانوا يتعمدون ضرب علاقات لبنان بهذه الدول لتحقيق مآرب بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية.
وسط هذه العتمة السياسية التي تلف الوطن، هناك نافذة نور تبعث الامل والبهجة في نفوس اللبنانيين، وهي القوى الامنية وفي طليعتها الجيش اللبناني الذي رفع اسم لبنان عالياً، واثبت انه رغم ضآلة امكاناته، اقدر من جميع جيوش الدول العربية في الحرب على الارهاب. وهنا لا بد من السؤال هل يستحق هذا الجيش ان تفرض عليه عقوبات؟
هذا ما فعله الجيش وهذا ما فعله السياسيون بلبنان والحكم للناس وللعالم وللتاريخ.

«الاسبوع العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق