سياسة لبنانية

الجمود الحكومي والحراك الشعبي… ما هو المصير؟

ما شهده وسط بيروت من تظاهرات وصدامات وأعمال شغب، شكل مفاجأة لأسباب عدة أولها الحجم الشعبي لهذا التحرك الذي فاق التوقعات، ووتيرة تطوره السريع، من تحرك احتجاجي يقوم به تجمع  مغمور نشأ حديثاً (حركة «طلعت ريحتكم») بعد تفاقم أزمة النفايات، الى حالة من الفوضى تهدد بخروج الوضع الأمني عن السيطرة. وبالنسبة الى كثيرين شكلت هذه التطورات «لغزاً» وطرحت كمية من التساؤلات: هل هذا التحرك عفوي و«بريء» أم مسيّس؟! من يقف وراءه ومن الجهة المستفيدة منه ومن الاستثمار في الشارع؟! كيف سيتطور وفي أي اتجاه وما هو المدى الذي يمكن أن يصل  إليه؟! هل يكون مجرد حركة عابرة و«فشة خلق» شعبية أم كرة ثلج متدحرجة؟! هل يصيب الحكومة ويهددها ويسقطها فتكتمل حلقة الفراغ وتدخل البلاد أزمة كبيرة لا يمكن الخروج منها إلا عبر تسوية كبيرة؟! أم يحدث صدمة إيجابية يكون من نتائجها التعجيل في انتخاب رئيس للجمهورية؟!
الوضع المستجد ليس سهلاً ولا بسيطاً وإنما هو معقد وخطير وتتداخل في صنعه عناصر سياسية وطائفية واجتماعية واقتصادية، كما لا يمكن تحديد مساره ووجهته النهائية. وهذا ما يفسر الحذر الذي ساد مختلف القيادات والقوى السياسية التي تحاول فهم ما يجري وفك ألغازه وقطبه المخفية وتحديد كيفية التعاطي معه في ظل غياب الخطط الجاهزة لمثل هذا الوضع الطارئ الذي يمكن تفكيكه وتفنيده عبر الملاحظات والاستنتاجات الاتية:
1-التحرك، في المنشأ والعنوان والهدف، هو تحرك شعبي يحوي كل المتضررين من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، وكل الناقمين على النظام والحكومات المتعاقبة والطبقة السياسية الفاسدة… وهذه الشريحة الشعبية المتضررة والناقمة موجودة وعلى نطاق واسع في كل الطوائف والمناطق، ما يجعل أن هذا التحرك هو عابر للطوائف والمناطق. ولكن نقطة القوة هذه تقابلها نقطة ضعف قاتلة وتتمثل في أن هذا التحرك يفتقد الى مرجعية وقيادة وخريطة طريق وأهداف محددة، وفي أنه سيتحول هو هدفا للطبقة السياسية الحاكمة التي يسهل عليها إجهاضه واحتواؤه واستغلاله.
2- للمرة الأولى في لبنان تكون العلاقة بين الشعب والطبقة السياسية الحاكمة على هذا القدر من النفور والتباعد والطلاق… فقد انكشف الأمر عن هوة واسعة بين الطرفين وعن ضرر بالغ لحق بصورة الطبقة السياسية وهيبتها ومصداقيتها الى حد أنها، على الأقل في نظر المتظاهرين، لم تعد محترمة ولا موثوقاً بها وأضحت جزءا من المشكلة وفي أساسها… ولكن إذا كانت أيدي وأدوار القوى السياسية غير مرئية وغير مؤكدة وغير واضحة حتى الآن، فإن الأكيد أن استغلال هذه القوى للتحرك وركوب الموجة الشعبية لن يتأخر…
3- التحرك ينقل الأزمة الى الشارع الذي كان شهد تحركاً خجولاً وضيقاً قبل أسابيع (تحرك التيار الوطني الحر) ولأهداف ومطالب تخصه، ويشهد منذ أيام تحركاً شعبياً واسعاً ولأهداف ومطالب وطنية جامعة.. ومع انتقال الأزمة الى الشارع ترتفع نسبة الخطورة في الوضع وتتقلص قدرة التحكم والسيطرة. وما جرى ليل السبت نموذج أول عن «الفوضى» التي يمكن أن تحصل وتطيح «نعمة الاستقرار» التي ينعم بها لبنان وسط محيط متفجر تجتاحه حالات الفوضى والعنف والتطرف.  ووفق هذا النموذج فإن الوضع قابل للتطور وتمدد حالة التوتر والاشتعال نظراً لحجم الاحتقان الحاصل… فالتظاهرة التي بدأت سلمية تحولت الى أعمال عنف وشغب ظهر معها أن الجهة المنظمة أعجز من أن تضبطها… والضغوط على الحكومة والسرايا أنتجت ضغوطاً مقابلة وفق معادلة «شارع يقابله شارع» وحصل قطع للطرقات الدولية في السعديات (خط بيروت ـ الجنوب) وسعدنايل (خط بيروت ـ البقاع) تضامنا مع الحكومة وفي مواجهة «الغزوة» الجديدة التي تتعرض لها السرايا الحكومية.
4– المهم الآن، كيف سيتطور الوضع والى أين يتجه والمدى الذي يبلغه؟!
التطورات في الشارع سرّعت وتيرة الأزمة الحكومية و السياسية والبت في مصير الحكومة التي يسير رئيسها تمام سلام على «حافة الاستقالة»: الفريق الحكومي (بقيادة «المستقبل») سيوظف الضغط الشعبي باتجاه تفعيل الحكومة والبت بالملفات وأولها النفايات واتخاذ القرارات بالتصويت لأن الوضع لم يعد يحتمل… والفريق الآخر داخل الحكومة (بقيادة حزب الله) سيوظف الوضع الجديد لمزيد من الضغط على الحكومة ورئيسها ومن يقف وراءه، لأن هذا الوضع أوجد ميزان قوى جديد في غير مصلحة الحكومة ووضعها أمام حال فوضى وانهيار كامل ما يرتب على الجهات المتحكمة بقرارها تقديم تنازلات وتسهيلات…
الحكومة في نهاياتها والحراك الشعبي في بداياته. جلسة الحكومة في 27 آب (اغسطس)، مع أنها كانت هادئة ومنتجة، بدت كما لو أنها الجلسة الأخيرة. فوزراء حزب الله وتكتل الإصلاح والتغيير اتخذوا قراراهم بعدم حضور جلسات مجلس الوزراء إلا بعد الاتفاق على آلية عمل الحكومة واتخاذ القرارات داخلها، وعلى موضوع التعيينات العسكرية. والرئيس تمام سلام بناء على نصيحة الرئيس بري وطلبه، لن يحدد موعداً لجلسة جديدة طالما أن وزراء حزب الله وعون مقاطعون، وهو ليس في وارد المضي قدماً في تحدٍ واستفزاز. وأما جلسة الأمس التي غاب عنها الوزراء الستة، فإنها لم تكن استفزازية وإنما مررت بطريقة توافقية وإن كان «توافقاً سلبياً»، بمعنى أن غياب الوزراء أتاح تمرير قرارات ضرورية وملحة وأعفاهم من الإحراج الذي كانوا سيواجهونه فيما لو أصروا على الدخول في إشكالية الآلية وحُملوا مسؤولية وتبعات عدم تأمين رواتب الموظفين أو ضياع الهبات… ولذلك فإن الغياب لم يكن سلبياً في مردوده ولكنه مؤشر سلبي الى المرحلة المقبلة، ويعلن أن مسيرة الحكومة توقفت عند هذا الحد ولا جلسات جديدة لمجلس الوزراء تعقد بغياب مكوّنين أساسيين…
الحكومة مرتبكة جداً ومتخبطة في أدائها: فض عروض مناقصات، نفايات، والإعلان عن خاتمة سعيدة للمشكلة، ثم الإعلان عن الغاء المناقصات بسبب الأسعار الباهظة… رفع جدار اسمنتي عازل بين السرايا والشعب ثم إزالته بعد 24 ساعة وبعدما كلف الخزينة 32 ألف دولار… ورئيس الحكومة تمام سلام في وضع لا يحسد عليه ويشعر أنه متروك وأن لا أحد يساعده فعلاً، وأن الكل يحاصرونه ويضيّقون عليه الخناق بأشكال وطرق متعددة. ليس وحده العماد عون من يزعج سلام ويضغط عليه، النائب جنبلاط أيضاً عندما يقرر إقفالاً نهائياً لمطمر الناعمة بعدما كان وعد بإبقائه مفتوحا الى حين إيجاد حل لمشكلة النفايات، وأيضا عندما  يهاجم جنبلاط وزير الداخلية نهاد المشنوق ويدعوه الى الرحيل وهو يعلم أن المشنوق هو الرجل القوي في الحكومة والدعوة الى رحيله تساوي الدعوة الى رحيل الحكومة… والرئيس بري أيضاً يحرج سلام ويحشره أكثر مما يريحه عندما يسارع الى انتقاد مناقصات النفايات وعندما يلح على سلام بتجميد المراسيم العادية وعدم نشرها…
الارتباك لا يقتصر على الرئيس سلام وإنما يصل أيضاً الى قوى 14 آذار وتيار المستقبل الذي لا يعرف حتى الآن ماذا يجري بالضبط في الشارع وليس لديه تقويم واضح ونهائي للخلفيات والأبعاد، وتحليله يبدأ من نطاق محلي صرف وانتفاضة استقلال ثانية ليصل الى أفق إقليمي وربط ما يجري بتداعيات مرحلة ما بعد الاتفاق النووي… وحتى حركة الشارع لا قرار لدى المستقبل بالتعاطي معها لا سلباً ولا إيجاباً والى حد بدا الأمر كما لو أنه ترك لحلفائه حرية اتخاذ القرار. وهذا ما يفسر كيف أن اليسار الديمقراطي الذي هو جزء من 14 آذار مشارك في التظاهرات في حين أن قوى أخرى أساسية مستنكفة لا بل مشككة ومرتابة من أبعاد هذا الحراك الشعبي الذي بدأ صغيراً بسيطاً وكبر بسرعة في فترة قصيرة ليصبح «أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة».
هذا الحراك يواجه تحديات كثيرة: التوتر الطائفي، الاستغلال السياسي، الشغب والتخريب المفتعل، والتداخل الحاصل  بين الأزمة السياسية التي عنوانها الرئيس الشغور الرئاسي، والذي يختزل عناوين وعوامل لا تحصى، والحراك الشبابي الاحتجاجي على أزمة النفايات، والذي تدحرج وكبر مثل كرة الثلج ليشكل تعبيراً عن سخط المواطن اللبناني العادي على فساد الطبقة السياسية وعجزها واستئثارها بمقدرات البلاد. والخيط الرفيع الذي يحتم التداخل بين تلك الحركة الاحتجاجية المستقلة وعوامل الأزمة السياسية التي يلخصها الشغور الرئاسي وما استتبعه من شلل في المؤسسات، يبقى قائماً لأن بإمكان الفرقاء الذين ينوون ركوب الموجة أن يجعلوا من انضمامهم إليها ومصادرة شعاراتها، على رغم أن بعضها كان موجهاً ضدهم، منصّة تحرفها عن أصولها.
الأزمة في لبنان دخلت مرحلة شديدة التعقيد ويمكن اختصارها في النقاط الاتية:
– من الصعب أن تعود الحكومة الى الوضع السابق من «التعايش والتوافق»… الحكومة في دائرة «التأزم والتعطيل وتصريف الأعمال» ورئيسها تمام سلام إما مستقيل… أو على حافة الاستقالة.
– الحالة الشعبية لا تستكين: إما تنفجر… أو على حافة الانفجار.
– الأزمة السياسية تتفاقم: الرقص على حافة الهاوية… أو السقوط في الهاوية.
– العماد عون يخوض آخر معاركه السياسية… لا يتراجع ولا يحتمل الخسارة.
– المستقبل لا يرغب في أن يعطيه لا جائزة كبرى (الرئاسة) ولا جائزة ترضية (قيادة الجيش).
– الرئيس بري يلعبها بشكل مكشوف وصريح ضد عون، ويقف عملياً على رأس تحالف ثلاثي يضمه مع الحريري وجنبلاط ويتصرف على أساس أن اصطفاف 8 و14 آذار انتهى وأن هامش تحركه اتسع.
– حزب الله ملتزم بعون ولا يقبل بخسارته أو كسره وعزله. هذا الالتزام ليس فقط أخلاقياً وأدبياً وإنما هو أيضاً التزام سياسي بحليف استراتيجي لا بديل عنه لا مسيحياً ولا وطنياً…
إنها أزمة استثنائية والخروج منها لن يكون بطرق عادية… في العام 1988 حصل فراغ رئاسي للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية أنتج أزمة كبيرة انتهت الى اتفاق الطائف… في العام 2007 حصل فراغ رئاسي للمرة الأولى في جمهورية الطائف أنتج أزمة حادة انتهت الى تسوية الدوحة… هذا هو الفراغ الرئاسي الثالث الذي أنتج أزمة مستحكمة ستكبر وتتدحرج حتى الوصول الى ما هو «أكثر من تسوية وأقل من اتفاق»، «أكثر من دوحة وأقل من طائف»…
سادت في لبنان قبل شهرين أجواء «تفاؤل حذر» بإمكان حصول انفراجات في أزمته السياسية تفضي في وقت ليس ببعيد وقبل نهاية العام الى انتخاب رئيس للجمهورية. وهذا التفاؤل ارتبط بتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى، الذي نُظر إليه على أنه نقطة تحوّل في المنطقة وسينقلها من حال الحروب والمواجهات الى مرحلة الحلول والتسويات. ولكن هذه التوقعات انحسرت بعدما تبيّن أن معركة الاتفاق النووي لم تنتهِ بتوقيعه وأن التحدي يكمن في تسويقه داخل إيران والولايات المتحدة وفي نقله الى مرحلة التنفيذ. ولعل المعركة التي تدور رحاها في واشنطن بين الرئيس أوباما والكونغرس هي التي تحدد في نتائجها، ليس فقط المسار التنفيذي للاتفاق النووي الذي أصبح اتفاقاً دولياً مع مصادقة مجلس الأمن عليه، وإنما أيضاً وخصوصاً مسار العلاقات الأميركية – الإيرانية أقله في الفترة المتبقية من ولاية أوباما، ومسار الأوضاع في المنطقة. ذلك أن تصويتاً للكونغرس ضد الاتفاق سيجعل إيران أكثر حذراً وتشدداً وأقل انخراطاً في التسويات وأقل استعداداً لتقديم تنازلات أو تسهيلات.
كما تبيّن أن سلوك أزمات المنطقة طريق التسويات يتوقف الى درجة كبيرة على العلاقات الإيرانية – السعودية التي لم تدخل بعد في مرحلة حوار وتفاهم وانفراج، وإنما ما زالت «سيئة» وفي حال مواجهة تمتد على ساحة عربية مترامية الأطراف من اليمن والخليج الى العراق وسوريا الى لبنان وفلسطين. والمؤشر الأول على هذه العلاقة في المدى المنظور سيظهر في النصف الثاني من أيلول (سبتمبر) إذا حصل لقاء بين وزيري خارجية البلدين ظريف والجبير على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك.
ولأن الرؤية الإقليمية ما زالت ضبابية والعلاقة الأميركية – الإيرانية غير مستقرة بعد، حيث يجد أوباما صعوبة في تسويق إيران كشريكة في الحلول وجزء منها، والعلاقة الإيرانية – السعودية متوترة وفي حال اهتزاز قوي، فإن الملف اللبناني الذي يقع في أسفل الترتيب الإقليمي للملفات والأزمات يظل معلقا في فترة انتظار ستطول، الجديد فيها أنها ستتحول من «البارد» الى «الساخن» عبر سلسلة أزمات متدافعة. فالأزمة لم تعد فراغاً رئاسياً وإنما أصبحت شللاً حكومياً. ولم تعد أزمة تترجم فقط بطرق سياسية وإنما تترجم بأساليب ووسائل شعبية وربما لاحقاً بأشكال أمنية… والوضع اللبناني دخل مرحلة «تسخين وتحمية». هذا ما يحصل في وسط بيروت مع تظاهرات ظاهرها «اجتماعي» ضد الفساد، وعمقها سياسي ضد الحكومة المحاصرة بضغوط وأزمات متعددة الأشكال والمصادر… وما يجري في صيدا لا يمكن فصله عن هذا المسار التوتيري للأوضاع، والاشتباكات الفلسطينية داخل مخيم عين الحلوة والتي تطاول بشظاياها أمن صيدا لا تخلو من خيوط وامتدادات لبنانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق