سياسة لبنانية

مخيم عين الحلوة: خارطة القوى وخطوط التماس والمحاور

شهد مخيم عين الحلوة اشتباكات عنيفة بين مقاتلي حركة «فتح» وتنظيم «جند الشام»، التي شاركت في بعضها أيضاً «عصبة الأنصار» بوجه «فتح»، واستمرت لأيام حاصدة عشرات القتلى والجرحى. استخدمت في الاشتباكات القذائف الصاروخية والقنابل اليدوية وتخللتها أعمال قنص غزير طاولت عدداً من أحياء مدينة صيدا، وطاولت المعارك منطقة تواجد وانتشار الجيش اللبناني عند مدخلي المخيم الفوقاني لجهة المستشفى الحكومي، والتحتاني لجهة التعمير.

اللافت في هذه الاشتباكات أنها بعكس سابقاتها لم تقتصر على حي واحد أو اثنين داخل المخيم وإنما توزعت على مختلف محاور التماس بين الطرفين ولامست لأول مرة منذ سنوات منطقة التعمير اللبنانية بعدما تجاوزت الخطوط التقليدية لأي اشتباكات يشهدها المخيم عادة، لا سيما على محور حي الطوارىء – البركسات، والطوارىء الشارع التحتاني وحطين – صفوري والطيري – جبل الحليب، والصفصاف – طيطبا. الأمر الثاني الذي ميّز هذه الاشتباكات أيضاً هو مشاركة عناصر تابعة للعميد محمود عيسى «اللينو» الى جانب فتح لا سيما على محور صفوري  حطين – الطيري.
المفارقة الثالثة كانت ذلك الإصرار من عناصر جند الشام على إبقاء المحاور مشتعلة حتى في ذروة مساعي التهدئة ورغم تجاوب فتح مع هذه المساعي.
وكان لافتاً أيضاً في هذه الاشتباكات أنواع الأسلحة التي استخدمت من رشاشة وأعيرة متوسطة وقذائف صاروخية على اختلاف أنواعها ومن كلا الطرفين. وقد طاول رصاص الاشتباكات والقنص للمرة الأولى منذ سنوات طويلة بعض أحياء مدينة صيدا، التي سجل انفجار عدد من القذائف الصاروخية مصدرها المخيم في أجوائها.
وفي قراءة اولية لنتائج المعركة من قبل متابعين للشأن الفلسطيني، برز استنتاج يشير الى أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها قائد الأمن الوطني الفلسطيني في منطقة صيدا العميد أبو اشرف العرموشي من قبل المتشددين في حي حطين، لم يشكل سوى ذريعة لفتح معركة مع حركة «فتح» في محاولة لإشغالها بمعارك جانبية، بهدف إجهاض المساعي القائمة لتوحيد القرار السياسي والأمني والعسكري والتنظيمي وترتيب البيت الفتحاوي القائمة حالياً كورشة عمل داخلية لحماية نفسها والإمساك بزمام المبادرة في المخيم، وقد قطعت أشواطاً بعيدة.
الاشتباكات أظهرت وقائع ميدانية جديدة لا تبعث على الارتياح، ذلك أن تبادل إطلاق النار شمل جميع أحياء المخيم، ما يعني أن الإسلاميين باتوا قوة كبيرة، والأهم منتشرة في جميع أنحاء المخيم، وهنا مكمن الخطورة.
والمعروف أن حركتي «حماس» و«عصبة الأنصار» وقفتا خارج هذا الصراع، وهما وعلى رغم عدائهما لحركة «فتح» إلا أنهما تعارضان تنامي قوة التيارات الإسلامية، أولاً لأنها تستند الى خلفية دينية تلتقي مع «داعش» و«النصرة» و«القاعدة»، وثانياً لأن هذه التيارات تأكل من صحن «حماس» و«العصبة» في المخيم. لكن وقوف «حماس» جانباً أعطى صورة مرعبة للقوة التي بات يتمتع بها الإسلاميون الساعون للسيطرة على المخيم والتمدد باتجاه صيدا والاشتباك مع المناطق الشيعية. وتملك الأجهزة الأمنية معلومات دقيقة عن حركة تسلح وبيع ذخائر داخل المخيم لصالح الإسلاميين.
لكن الإشارة الإيجابية الوحيدة هي أن هذه التيارات الإسلامية فشلت في هجومها على مواقع «فتح» رغمَ توزيعها معلومات تعلن عكس ذلك. وبدت «فتح» متماسكةً عسكرياً، لكن: إلى متى؟
كشفت الاشتباكات أن حركة «فتح» كانت أكثر قدرة على التحرك عسكرياً على الأرض رغم تكبدها قتيلين وعدداً من الجرحى، وأنها قادرة على الحسم في حال توافر القرار والغطاء السياسي لها. وأثبتت المعركة إمكانية اندماج «فتح» ضد الخطر المشترك، وإمكانية التنسيق بين قادتها العسكريين، حتى أولئك المجمدة عضويتهم كالعميد محمود عبد الحميد عيسى «اللينو». ولوحظ المشاركة اللافتة للنظر للقوات التي يشرف عليها قائد القوة الأمنية الفلسطينية المشتركة في لبنان اللواء منير المقدح، وذلك للمرة الأولى منذ فترة طويلة.
وفي هذا السياق، أشارت مصادر فلسطينية مطلعة الى أن مقاتلي «فتح» تمكنوا من الوصول الى تخوم معاقل المجموعات المسلحة في حي الطوارىء والشارع التحتاني والطيري وحتى الصفصاف – حيث يتموضع أحد مسؤولي «جند الشام» بلال بدر ومجموعته – وأنها أي «فتح» كانت قاب قوسين أو أدنى من الدخول الى الحي الأخير لكنها اصطدمت بعناصر «عصبة الأنصار» التي يعتبر هذا الحي معقلاً أساسياً لها.
وأوضحت المصادر أن «فتح» سجلت أيضاً تقدماً في حي الطوارىء من جهتي البركسات والشارع التحتاني، ولكن لم يعرف سبب عدم مضيها في حسم الوضع هناك، رغم أنه جرى الحديث عن استقدام الحركة مقاتلين لها من مخيمات أخرى. من جهة ثانية، بدا المشهد معاكساً في حي حطين، وهو الحصن الأكبر والأهم لـ «جند الشام» ومجموعات ما يسمى بـ «الشباب المسلم» حيث شوهد عناصر تلك المجموعات مستنفرين عند مدخله، حتى أنهم وصلوا الى الحاجز المقابل وبقوا هناك لبعض الوقت. وتشير المصادر الى أنه لم يكن هناك أي كسب إستراتيجي مطلق على الأرض من قبل «فتح» أو السلفيين، برغم أن «فتح» حققت بعض التقدم في الميدان. لكن سرعان ما عاد كل طرف الى مواقعه السابقة مع وقف إطلاق النار.
في المحصلة، أعادت الاشتباكات خطوط تماس كان يعرفها المخيم في بعض الأحياء في فترات سابقة ولا سيما محور حي الطوارىء البركسات الذي أزيلت منه قبل سنوات التحصينات والدشم، وأعيد بعضها إبان الاشتباكات الأخيرة التي أوجدت أيضا خطوط تماس جديدة في أحياء أخرى، مثل محور الشارع التحتاني الطوارئ والذي رأى مراقبون أنه كان أحد أسباب انطلاق شرارة الاشتباكات بمحاولة اغتيال العميد الفتحاوي سعيد العرموشي الذي استهدف – وبحسب المصادر نفسها – لكونه ومن مركزه في الشارع المذكور كان يشل حركة «جند الشام» وبقية المجموعات المسلحة ويضيق عليهم الخناق مؤلفاً مع نقطة البركسات المقابلة للطوارىء ما يشبه الكماشة الأمنية. يضاف الى هذه المحاور أيضاً محور الطيري صفوري ومحور سوق الخضار ومحور حطين درب السيم الذي يحظى فيه «جند الشام» بحرية تحرك أكبر، وضمن هذا المحور اغتيل المسؤول الفتحاوي العقيد طلال الأردني قبل أسابيع.
هل هي هدنة موقتة بانتظار جولة جديدة من العنف في مخيم عين الحلوة بين حركة «فتح» من جهة، والسلفيين المتشددين من جهة ثانية؟ على الأرجح هي كذلك، بانتظار جولة جديدة من التفجير لا يعرف كيف سيكون شكلها ولا حجمها ولا تداعياتها، ولكنها ستكون الأعنف والأشد بعدما قررت حركة «فتح» حسم الوضع الشاذ وإنهاء حالة التطرف وضرب البنية التحتية للإرهاب في المخيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق