آدب

ذكرى: الفنان الرائد رشيد وهبي ان حكى…

عشرون سنة مرت على رحيل الفنان التشكيلي الرائد رشيد وهبي، ومنذ ذلك الحين لم يتذكره احد، وهو الذي يعتبر من رواد الفن التشكيلي المعاصر في لبنان ودنيا العرب، وواحد من عمالقة الرعيل الثاني في الحركة الفنية اللبنانية، وهم: مصطفى فروخ – قيصر الجميل – عمر الانسي – صليبا الدويهي… رحل رشيد وهبي، بعدما كرس حياته للفن، تاركاً الروائع الفنية المدهشة التي تحكي حكاية الارض والانسان والامل المنشود. صحيح ان الحياة تتجدد، وان لكل حقبة في التاريخ عمالقة ورموزاً، مدارس ومذاهب وروائع… ولكن هناك علامات مضيئة في تاريخ الاوطان والشعوب لن تتكرر، ومن المفترض ان تتذكرها في كل حين من الاحيان، لانها تشكل ثروة ثقافية وحضارية ووطنية، ينبغي ان نقتدي بها ونحافظ على تاريخها المجيد. كتبت كثيراً عن رشيد وهبي، وفي كل مرة كنت اشعر بأنني ما وفيته حقه من العطاء… واليوم، اعود من جديد لأكتب عنه في ذكرى رحيله، لعل هذه اللفتة تحرّك الضمائر المتحجرة!

في اواخر سنة 1962 عرفت الفنان الذائع الصيت رشيد وهبي، ورافقت مسيرته الفنية والحياتية بشكل دائم ودقيق. عرفت رشيد وهبي الفنان والانسان، الملهم والصديق، الاول يدهشنا والثاني يأسرنا.
في منزله، في مرسمه، كان يبدو لنا رشيد وهبي على حقيقته… نعرف مدى حبه للألوان، ومدى حبه للانسان، ومدى حبه للبنان. من فرشاته تشرق الشمس، على قماشة لوحته تنام الغابات، تئن البحار، يكبر المدى، تحلم العيون… على قماشة لوحته لا تحترق الاوطان.

اول لقاء معه في السفارة اليوغوسلافية
ذات يوم، من ايام سنة 1962، اتصل بي الملحق الصحافي في السفارة اليوغوسلافية في بيروت، الرجل المميز، بلاجو كوسوفاتس، الذي كان يهتم بالشؤون الثقافية المختلفة، اكثر من اهتمامه بالشؤون السياسية، وسألني: هل تعرف الفنان رشيد وهبي؟
قلت له: أعرفه كفنان، واحترمه جداً. ولكن ليس هناك معرفة شخصية بيني وبينه.
قال: إذاً، ما رأيك في ان تتعرف عليه عندنا في دار السفارة؟
قلت: بكل سرور.
يومها، كان رشيد وهبي عائداً من بلغراد، حيث مثّل الفن اللبناني في معرض خاص اقامه هناك، موفداً من قِبَل وزارة التربية الوطنية، وتلبية لدعوة لجنة العلاقات الثقافية مع الخارج في يوغوسلافيا… وقد تمحور لقائي معه حول الفن في كلا البلدين.

الصورة الاولى والاستاذ الاول
من خلال معرفتي القديمة به، عرفت قصته الطويلة مع الفن والحياة.
كان لا يزال طفلاً يوم رسم صورة عصفور، كانت جميلة، فأنّبه والده لاعتقاده انه اضاع وقته، وأمره بتمزيقها، فمزقها. ولكنه جلس حيالها يبكي.
هذا الحادث أثرّ كثيراً في نفسه، وجعله يختبىء في سقيفة منزله، ويرسم سراً، فلا يراه والده. وكان يشعر بسعادة غامرة كلما انصرف عن الالعاب اليومية، التي لا فائدة منها، الى الرسم. ما اقتنع من العمل بالاشياء السهلة، بل كان يبحث عن الاشياء الصعبة، فاذا رسم شجرة لا يعود الى رسمها ثانية، بل يبحث عن شجرة اصعب.
وذات يوم، كان استاذه في كلية المقاصد يتفرس في وجوه تلامذته، ويجتهد في التنبؤ بالمهنة التي يختارها كل منهم في مستقبل ايامه. فنظر اليه وقال: «أما انت فستكون محامياً». فأجابه: «اني اميل الى ان اكون طبيباً». وقد خدعه، فلم يقل له: «سأكون فناناً»، لئلا يخبر اهله، فيعظم عليهم الامر.
قصاصات الورق المتناثرة كانت استاذه الاول، فكان يقطعها من بعض الكتب او الصحف، ويضعها في «ألبوم» ثم يعكف على دراستها، ذلك انه لم يكن هناك استاذ يدرّبه، ويعلّمه كيف يمسك بالقلم. وفي السينما كان يراقب الصور، فاذا شاهد رساماً انصرف الى ملاحظة طريقته في العمل، ووقفته امام اللوحة، ثم يعود الى البيت فيقلده، كان يومئذٍ، لا يزال طفلاً، فلا يزيد عمره عن 12 سنة.
وظل هذا شأنه حتى اهتدى الى بعض المكتبات الفرنسية، فصار يبحث فيها عن بعض الكتب الفنية المعروفة في لبنان،يدفع ثمنها مما يوفره من مصروفه الخاص. وبدأ يفرض على نفسه قراءة تلك الكتب، ويجلس في المنزل يتمرن على رسومها.

حزن كثيراً على حلم تبدّد
في احد الايام زارهم جار لهم، ورأى لوحاته، قال له: «شيء عظيم! يجب ان تذهب الى فرنسا للتخصص»، فغمره الفرح، وقال له: «أتكلّم والدي؟» قال: «طبعاً». فحدث والده في أمره وأقنعه، ثم رافقه في اليوم التالي الى منزل شخصية رسمية وتوسط له لديها، ولكن الرجل الرسمي نظر اليه قليلاً، ثم قال لمرافقه: «لماذا تريد ارساله الى فرنسا؟ ألتفسد أخلاقه وهو في مثل هذه السن؟» وكان في السادسة عشرة تقريباً، فحزن كثيراً اذ رأى حلمه يتبدّد.

اربع سنوات مع المعلّم حبيب سرور
ولكنه لم ييأس، وطفق يبحث عن معلّم، حتى اهتدى الى حبيب سرور الذي كان فناناً كبيراً بموهبته واخلاقه، وقد جعله يفهم ان الفن ليس بالشيء السهل، بل يحتاج الى تضحيات مرّة، اذ ابتدره بقوله: «اذا اردت ان تكون فناناً فعليك ان تحسب نفسك ملاكاً، لانه يستحيل عليك ان تعيش من الفن»… فأجابه: «اني لا احفل بالصعاب، واريد ان ارسم، وان ارسم فقط».
فأحبه، وشجعه، وقال له: «ان مثابرتك على العمل تعوّض عن السفر الى اوروبا».
فلبث يتردد على مرسمه اربع سنوات. كان خلالها يلتقي الفنانين، مصطفى فروخ وصليبا الدويهي اللذين كانا من تلامذته.
وكان حبيب سرور يود كثيراً ان يساعده تلميذه في ما يرسم، وقد وثق به وسلّمه جانباً من اعماله. وهناك لوحات عديدة له ساعده فيها، كلوحة جبران خليل جبران، ولوحة البطريرك الحويك.
وفي هذه الفترة من تلمذته عليه (سنة 1934) اشترك في معرض اقيم في فندق سان جورج، باشراف بعض الفنانين، ويذكر ان حبيب سرور اشار عليه بالعرض في هذا المعرض قائلاً له بالعامية: «اذا كان ع بالك، لا تحرم حالك». فعاد الى المنزل ورسم لوحتين خاصتين بالمعرض: الاولى «الأمومة» أم تحنو على وليدها وترضعه، والثانية «طبيعة صامتة». وكان هذا المعرض الحافز الاول في طريقه الى العطاء.
لما توفي حبيب سرور ذات يوم في سنة 1938، تلقى نبأ وفاته بألم شديد، فقد كان بمقام والده، وبقيت ذاكرته تصوره له فناناً وانساناً كبيراً.
طوال تلك الفترة كان يرفض ان يبيع لوحاته لانها غالية على قلبه، وكان يريد ان تظل بعيدة عن سوق البيع والشراء، ولكي يعيش، كان يرسم صور الاعلان السينمائي، وصور التزيين والديكور.

نحو القاهرة و«شهرزاد سيدة السحر والدلال»
بعد رحيل حبيب سرور، عادت فكرة السفر الى اوروبا تراوده. ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية اقفل باب اوروبا في وجهه، فسافر الى القاهرة سنة 1941، والتحق بالمدرسة العليا للفنون الجميلة حيث تابع الدرس طوال خمس سنوات. وانه يذكر من تلامذة هذه المدرسة المثّال العالمي مختار، والمثّال جمال السجيني، والرسام احمد صبري، والرسام يوسف كامل.
وبانتهاء دراسته كان موضوع أطروحته «شهرزاد سيدة السحر والدلال». ولكنه اتبع دراسته هذه بدراسة ثانية لها صلة وثيقة بدراسته الفنية وثقافته العامة، اذ التحق بالمعهد العالي لفن التمثيل العربي.
واشترك في معارض عدة في «صالون القاهرة»، وسنة 1946 اقام معرضاً خاصاً في المفوضية اللبنانية في القاهرة، فاعتبر اول معرض فني لبناني اقيم في مصر.

مرحلة العطاء في بيروت
وسنة 1947، عاد الى بيروت للمساهمة في الحركة الفنية مع نفر محدود من الفنانين كانوا عُدّة لبنان المستقبل. وهم: مصطفى فروخ، قيصر الجميل، صليبا ادويهي، عمر الانسي.
وتعتبر هذه المرحلة، مرحلة الانتاج، والاشتراك في المعارض في الداخل والخارج، مساهماً مع زملائه في تعزيز الحركة الفنية واحيائها.
وكانت الحاجة ملحة الى انشاء جمعية الفنانين اللبنانيين لتكاثر عددهم، وكان اول رئيس لها قيصر الجميل، وكان رشيد وهبي من المشتركين في تأسيسها، ثم أمين سرها ست سنوات متتابعة، ثم رئيسها قبل ان بيسلّم هذه الامانة الى زملائه الذين يتابعون العمل من اجل استمرارها.
في هذه الاثناء التفت الى التعليم الفني، الى جانب عمله الفني ليكمل احدهما الآخر، وليتسنى له خلق جيل جديد متذوق للفن، ومكتمل الثقافة.

قصة حب بين بيروت وبلغراد
في اوائل الستينيات، دعته الحكومة اليوغوسلافية لاقامة معرض خاص في بلغراد، فعرض بصفة كونه موفد الحكومة اللبنانية عملاً باتفاق التبادل الثقافي بين البلدين، واعتبر عمله بمستوى زعماء المدرسة الفنية اليوغوسلافية الواقعية الانطباعية.
وانطلق في تلك الاثناء، في رحلات متعددة استهدف فيها دراسات اطلاعية على اعمال فناني العالم، فقصد ايطاليا وفرنسا واسبانيا. وكان قبلاً قد زار الاتحاد السوفياتي (سابقاً) والنمسا، وغيرهما من البلدان العريقة في الفنون…
وفي بلغراد، لم يكتف بعرض اعماله الفنية، بل انه رسم لوحة لاحدى فتيات يوغوسلافيا تحمل اسم «سونيا»، وكانت تربطه بها علاقة عاطفية قوية استمرت سنوات طويلة عبر المراسلة بين بيروت وبلغراد. واستطاع من خلال هذه اللوحة، التي كان يحرص عليها كحرص البخيل على كنوزه، ان يعبّر افضل تعبير عن العاطفة الجياشة والانتظار الطويل.

الانسان هو المحور وشغف كبير بالطبيعة
ان عمله الفني يُعنى بالتعبير عن الحياة، وما تثيره من معان وانفعالات نتيجة الاتصال المباشر بها، مع الحرص على البحث عن علاقات الخطوط والمساحات والالون والاشكال في وحدة جمالية تعبّر عن قيمة دائمة كامنة وراء مظاهر الاشياء.
ان عمله الفني لا يقف عند تمثيل الاشياء تمثيلاً موضوعياً فحسب، بل انه يجمع بينه وبيت العنصر المجرد في آن واحد.
اما ما يتجه اليه في موضوعاته لخلق اللوحة الفنية فهو كل ما يقرّبه من فهم الحياة والتعبير عنها. والانسان احد عناصرها المهمة بلا جدال.
فانه امام هذا الانسان لا تعنيه هويته بقدر ما يؤخذ بما تطلعه عليه دراسته من جمالات نفسانية معبّرة، وحقائق ثابتة بعيدة الغور، واما الطبيعة فقد شغف بها الى حد بعيد، انها تمنحه احاسيس جديدة هي بالفعل اثر من هذه الحياة النابضة.
اما اللون عنده، فانه يمثل دور الحس تجاه العقل والمنطق… واللون في لوحته ميلوديا دافئة النغم، لا تعرف الصخب ولا النشاز… هذا اللون له عنده اكثر من دور وكل الاهمية. ولكنه يظل ابداً على وفائه للشكل وحرصه على التعايش معه.
اما عدد اللوحات التي رسمها فهي كثيرة، وكثيرة جداً… فهو لم يكن يذكر عددها بالضبط… كل ما في الامر، انه كان كلما تهيأ لرسم لوحة جديدة، يشعر كأنه يبدأ من جديد، ويضع نفسه كلها في عالم اللوحة.
كان رشيد وهبي واحداً من عشاق الفن الكبار، لم يعرف اليأس ولا القنوط، من اجل الوصول الى الهدف الذي كان ينشده، وذلك بالرغم من جميع الحواجز التي اعترضت طريقه.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق