آدب

أنسي الحاج… سقوط شاعر يجعل الحياة أقل حلاوة

يتساقطون الواحد تلو الآخر، أولئك الذين يكتبون القصيدة ويمجدون الحياة. أكثر من شاعر وفي أكثر من بلد عربي، سقط أخيراً. في فلسطين سقط محمود درويش، وفي السودان سقط تاج السر الحسن، وفي مصر سقط حلمي سالم، وفي اليمن سقط محمد الشرفي، وفي لبنان سقط جوزف حرب… وسقط ايضاً أنسي الحاج (1937 – 2014). وقبلهم سقط العديد. يتساقطون ويتركون الفراغ الكبير. أنا أعرف، وأنت تعرف، وهي تعرف، ان سقوط شاعر في هذا الكون يعني الكثير… فهو يعني ان الحياة صارت أقل حلاوة، وأن عشاق الأرض وثواره ومجانينه خسروا صديقهم الأكبر، وأن الاوطان بلا شعراء كجسم بلا روح. رحل الشاعر أنسي الحاج، تاركاً في المكتبة العربية مجموعة من المؤلفات الشعرية والنثرية.

من هنا أبدأ.
من البدهي القول، ان مسيرة أنسي الحاج في الكتابة، كانت في البداية، ترسم في الأفق علامة استفهام والكثير من الأسئلة… وذلك انطلاقاً من الخط الذي انتهجه في كتابة القصيدة، الى جانب مجموعة من الشعراء، وعلى رأسهم الشاعر يوسف الخال، في كنف مجلة «شعر» التي حملت لواء الحداثة، او بالاحرى، لواء التغيير… وكان من أركانها ايضاً: أدونيس، وشوقي أبي شقرا، وعصام محفوظ، وفؤاد رفقة، ومحمد الماغوط وغيرهم…

بداية تحطيم القصيدة
منذ البداية، كتب أنسي الحاج القصيدة المختلفة، القصيدة الحرّة التي لا تعترف بالحدود والسدود، ولا بالقوانين والأعراف الشعرية وخلخل لغتها… بل اكثر من ذلك، حطّم القصيدة المتعارف عليها، سواء في الشكل او في المحتوى، وبنى فوق أشلائها قصيدة نثرية، عبثية وهزيلة، يلفها الغموض من كل جانب. ولكنه عاد فتصالح معها!

في الطريق نحو مرحلة أخرى
سار أنسي الحاج في هذا الطريق مسافة طويلة، وذلك من خلال دواوينه الأولى، مثل «لن»، و«الرأس المقطوع»، و«ماضي الأيام الآتية». ومن ثم، انتقل الى مرحلة أخرى، فيها الكثير من الصفاء والوضوح والتوازن، عبر ديوان «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، وبعده «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، و«الوليمة»، حيث تبلورت صورته كشاعر يختزن في اعماقه موهبة شعرية كبيرة، وافكاراً ورؤى عميقة وجريئة. وكما نلاحظ. حتى عناوين كتبه تغيّرت، وصار لها طعم العافية والحياة والشعر.
وهنا، أبادر الى القول، انني لا اتخطى حدود الحقيقة عندما أكتب هذا الكلام، لأن أنسي الحاج نفسه، على ما أذكر جيّداً، قال مثل هذا الكلام، لافتاً الى ان تجربته الشعرية الأولى، غيرها في ما بعد.

أحلى كلام الحب المتفاني
كتب في «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» مثلاً، أجمل كلام الحب المتفاني، الذي يذكّرني بكنوز الشعراء القدامى، وخصوصاً بنشيد الانشاد.
يقول أنسي الحاج:
يا حبيبتي
 أُقسم أن أكون لُعبتكِ ومغلوبكِ
أُقسم أن أُحاول استحقاق نجمتكِ على كتفي
أُقسم أن أسمع نداء عينيكِ فأعصى
حكمة شفتيكِ
أُقسم أن أنسى قصائدي لأحفظكِ
أُقسم أن أركض وراء حبي وأُقسم

 أنه سيظل يسبقني.
الى أن يقول:
أُقسم ان تكون غرفة انتظاري الغيرة
ودخولي الطاعة، وإقامتي الذوبان
أُقسم أن أكون فريسة ظلّك
أُقسم أن أظل أشتهي أن أكون كتاباً
مفتوحاً على ركبتيكِ.

االى ان يقول أيضاً:
يا ليل يا ليل

 احمل صلاتي
اصغِ يا ربّ إليّ
اغرس حبيبتي ولا تقلعها
زوّدها بأعمارٍ لم تأتِ
عزّزها بأعماري الآتية
ابقِ ورقها أخضر
لا تش
تّت رياحها
ابقِ خيمتها عالية فعلوّها سهل للعصافير.

وهكذا استمر الشاعر العاشق يتدفق شعراً وحباً، في قصيدته الملحمية، حتى الينابيع.

 لولا الحب والمرأة…
كرّس أنسي الحاج كل نتاجه الشعري للحب والمرأة، وهذا جميل، أليس هو القائل: «أنا شعوب من العشاق». ويتبادر الى ذهني الآن، ما قاله شاعر العامية مارون كرم، حول هذا الموضوع: «لولا المرأة الجميلة في الأرض لكان الشعراء والمبدعون قد اشتغلوا سنكريه»!
وهذا ال
رأي الطريف  لا غرابة فيه، وهو صحيح، لأن لكل شيء في الحياة مصدره وينبوعه، فالحب هو المصدر والمرأة هي الينبوع. والحب جميل، والمرأة تستأهل، أليس كذلك؟
إذاً، فان شعر أنسي الحاج، بقي يدور في هذا الاطار، سائراً في ركاب شعراء «الفن للفن» في كل زمان ومكان، ضارباً عرض الحائط بكل القضايا والهموم الأخرى… بينما رفيقه في مجلة «شعر» أدونيس الذي كتب القصيدة الموزونة قبل ان يكتب القص
يدة الاخرى، تخطى القصيدة العاشقة الى آفاق أخرى، وكذلك فعل رفيقه الآخر في مجلة «شعر» محمد الماغوط، شيخ القصيدة النثرية، الذي صال وجال في عمق المشكلة الانسانية، مزاوجاً بين الحب والخبز، وبين المرأة والحرية، محاولاً أن يغيّر الواقع المؤلم الذي يعيش فيه ابن هذه المنطقة المحروم من الحرية والعدالة، وهو لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر.
يقول محمد الماغوط:
شَعركِ الذي كان ينب
ض على وسادتي
كشلالٍ من العصافير
يلهو على وسادات غريبه
يخونني يا ليلى
فلن اشتري له الأمشاط المذهبة بعد الآن
سامحيني أنا فقير يا جميله
حياتي حبر ومغلفات وليل بلا نجوم.

وعندما يخاطب الماغوط وطنه يقول:
… هذا الفم الذي يصنع الشعر واللذه
يجب أن يأكل يا وطني
هذه الأصابع النحيلة البيضاء
يجب ان ترتعش
أن تنسج حبالاً من الخبز والمطر.

توفيق يوسف عواد يتباهى بما كتبه عنه
أنسي الحاج لم يكتب الشعر فقط، بل انه كتب النثر أيضاً، أي انه اشتغل في الصحافة يوم كانت هذه المهنة في ذروة تألقها ومجدها، في لبنان. ومن جريدة «النهار» التي كان والده الصحافي لويس الحاج أحد أركانها الكبار – وهو أول من ترجم كتاب أدولف هتلر «كفاحي» الى العربية – انطلق أنسي الحاج انطلاقته الكبرى واشتهر، وانطلق معه العديد من الكتّاب والشعراء… وقد ساعدهم هذا المنبر على الانتشار الواسع!
كتب أنسي الحاج على صفحات «النهار» المقالات الأدبية والفنية والنقدية التي يشار اليها بالبنان، والتي كان كبار الأدباء والشعراء يتباهون بها، ويذكرون مقاطع منها في الكتب التي يؤلفونها، ومثالاً على ذلك، ما فعله الروائي توفيق يوسف عواد عندما اصدر روايته «طواحين بيروت»: «هل تذكرون «الرغيف»؟ لا يزال توفيق يوسف  عواد هو نفسه بعد ثلث قرن. بل هو اليوم أهمّ. لأنه بعد ثلث قرن، عاد يكتب لجيل اليوم وعن جيل اليوم رواية اليوم. الرواية التي لم يكتبها لهذا الجيل أحد سواه. عجيب توفيق يوسف عواد، حسبناه دخل التاريخ، فاذا هو لا يزال يصنعه».
وكذلك فعل الشاعر جوزف صايغ، عندما كتب أنسي الحاج عن ديوان «كتاب آن كولين»، وغيره من الشعراء والكتّاب…

  من الثقافة الى السياسة
وبعد رحلة طويلة من العمل في حقل الثقافة، انتقل الى السياسة، وبقي سنوات عدة يكتب افتتاحية جريدة «النهار» – في المكان نفسه الذي أعطاه اياه غسان تويني – بأسلوبه المشرق ، ولغته الجميلة، وتمرّده ورفضه للإعوجاج…
وقد نشر معظم نتاجه النثري، تحت عنوان «كلمات كلمات كلمات» الذي أخذه من كتاب «هاملت» لشكسبير، في ثلاثة اجزاء. كما نشر كتاب «خواتم» في جزءين، وفيه مزج بين النثر والشعر.
وبعدما ترك «النهار» عمل في «الأخبار» التي كان يكتب صفحتها الأخيرة، مرة في الأسبوع.
إنطلاقاً من ذلك كله، اعتبر البعض، ان أنسي الحاج كان ناثراً اكثر منه شاعراً، وقال البعض الآخر عكس ذلك.
ومهما قيل، يبقى أنسي الحاج، علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي، قديماً وحديثاً.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق