رئيسيملف

اللبنانيون سياحاً في وطنهم

أن تقنع لبنانياً بالعيش في ظل نظام تقشف أسهل من أن تحرمه فرصة التمتع بصيفية مميزة، فهو بطبعه مدمن على حب الحياة حتى لو كلفه الأمر أن يتحول سائحاً في وطنه. مش غلط. وعلى هذه القاعدة مشى اللبنانيون هذه السنة بعدما تأكدوا من أن السياحة خارج الوطن باتت شبه مستحيلة لأسباب ترتبط مباشرة بالوضع الأمني، والإقتصادي ثانياً وهذا هو الأهم والأكثر وجعاً. لكن هل تكون السياحة الداخلية أقل كلفة؟ وهل يمكن لمطلق أي لبناني أن يمضي يوماً سياحياً في أحد  المنتجعات السياحية خارج منطقة بيروت؟ طالما أننا في البلد، فهذا يعني أن إمكانية التحكم بالكلفة والخيارات مفتوحة لإختيار الأنسب والأوفر. فهل من يتردد بعد في السياحة داخل البلد؟

على الخريطة الجغرافية معالم سياحية أشبه بالثوابت، لكن السياحة في لبنان لا تقتصر فقط عليها. وهذا ما أدركه اللبنانيون هذه السنة بعدما تأكد لهم أن الوضع الأمني والإقتصادي لا يسمح لمطلق أي فرد في توضيب الحقيبة ورصد مبلغ مالي محترم لقضاء إجازة مع العائلة خارج لبنان.
وفي وقت كانت السياحة الداخلية تعتمد على عدد من الزوار وعلى رأسهم الأتراك والأردنيون والعراقيون والخليجيون، إذا بها ترتكز هذه السنة على اللبناني الذي احتل مكاناً لا يستهان به بحسب تقارير وزارة السياحة. وتبين أن نسبة اللبنانيين الذين يمارسون هذا النوع من السياحة تتجاوز الـ4
0 في المئة وهي تختار في اغلبية الأوقات زيارة الأماكن المقدسة والأثرية.

الاكثر استقطاباً
هذا في المبدأ، لكن على الأرض وبحسب معلومات مكاتب تنظيم الرحلات الداخلية فإن الوضع يختلف، أو لنقل إنه اختلف قليلاً هذه السنة. فمناطق جبيل وجعيتا وسيدة لبنان التي يكثر عليها الطلب في العادة لا تزال في الطليعة، لكنها باتت تتوسع لتشمل مناطق جبلية مثل الشوف وأرز الباروك وأرز الرب وبحيرة القرعون.
سامي عواد سائق باص مخصص للرحلات الداخلية، أوضح: «ان الحركة هذه السنة مقبولة نسبياً مقارنة مع العام الماضي». لكننا لم نلمح أثر أي سائح عربي خصوصاً في شهر رمضان». وأكد أنه ينظم أسبوعياً ثلاث رحلات تبدأ عادةً في مغارة جعيتا التي يصر زوارها على القيام بجولة طويلة في الداخل تشمل الطبقتين العليا والسفلى ثم تستكمل الرحلة إلى مزار سيدة لبنان للصلاة والتبرك من تمثال السيدة العذراء الذي يرتفع على علو 550 متراً. ويختتم البرنامج السياحي في مدينة الحرف جبيل، وتشمل المرفأ الأثري والقلعة والأسواق. ولا تحلو الزيارة هناك إذا لم تختتم بجلسة في أحد المطاعم البحرية على المرفأ القديم وتذوق أطباق السمك والمازة اللبنانية.
ويؤكد سامي الذي يعمل على باص يملكه منذ عشرة أعوام، «وقد أؤجره أحياناً لحساب إحدى الشركات الخاصة، أن السياحة الداخلية رائجة هذه السنة من قبل اللبنانيين وهي لا تقتصر على موسم الصيف. ففي موسم الشتاء كانت الحركة أيضاً مقبولة لكننا تمتعنا برؤية بعض السياح العرب». ولفت إلى أن العروض التي يقدمها تشمل وجبة غذاء في أحد المطاعم على البحر أو الإقامة في الفندق بأسعار مدروسة، مشيراً إلى أن كلفة هذه الرحلات لا تتعدى الـ65 دولاراً للمجموعة تضاف إليها كلفة الإقامة في الفندق في حال كان الزبون سائحاً أجنبياً.

ويكمل المشوار
الأمن أولوية طبعاً. لكن اللبناني الذي بات يتقن لعبة الحياة في لبنان يدرك أن مطلق أي تفجير أمني سيبقى محصوراً في اطاره أو ضمن البقعة المسماة أمنية. إذاً نكمل المشوار، ولا شيء يحول دون زيارة صيدا على رغم كل المعارك التي شهدتها في المدة الأخيرة. المهم أنها انتهت ولو بكلفة بشرية فادحة وشهداء من الجيش اللبناني. هكذا يفكر اللبناني  وكل من يقرر أن يزور صيدا وصور وطرابلس وبعلبك.
هنا يتوقف أبو شربل الذي ينظم بدوره رحلات داخلية عن الكلام. فبعلبك التي شكلت محطة سياحية عبر التاريخ وكان لمهرجاناتها الحظ الأوفر في استقطاب عدد كبير من السياح الأجانب، أطفأت أنوارها هذه السنة، وهذا ما أثر سلباً على حركة السياحة في المنطقة التي كانت تستقطب سياحاً أجانب ولبنانيين بالآلاف، وعزز مشاعر القلق والخوف عند اللبنانيين الذين كانوا يقولون «يسوانا ما يسوى غيرنا». لكن هذه السنة الوضع يختلف. وتمنى ألا تتحول هذه السابقة إلى عُرف أياً تكن الأسباب والظروف، لأن الخوف يجر الخوف والسلاح يجر الترهيب والتخويف.


ليس أبو شربل وحده الذي يتردد عن الصعود إلى مدينة بعلبك. زميل له من منطقة الجبل اللبناني جان سعد أكد أنه كان ينظم سنوياً عشرات الرحلات إلى بعلبك. وكان السياح الأجانب من أكثر الزوار إصراراً وإلحاحاً على زيارة قلعة بعلبك في كل مرة يقصدون فيها لبنان. ويضيف: هذه السنة لم نطأ أرض طرابلس ولم نزر مواقع كسارة كما العادة. «الناس خايفي». وهذا حقها الطبيعي. وعلى رغم إصراره على أن لا شيء يعوض عن غياب السائح الأجنبي والخليجي إلا أنه يؤكد أنه لا يتعامل إلا مع السائح اللبناني والأجنبي. ولفت إلى ان الرحلات المنظمة هذه السنة توسع أطرها لتشمل مناطق ريفية وقرى نائية لم تكن مدرجة على جدول السياحة، لا سيما في الشمال اللبناني وبقاعه.

الى الريف اللبناني
تختلف آراء ومواقف منظمي الرحلات السياحية في الداخل اللبناني بين متفائل بالحركة ومتشائم أكثر من اللزوم. في النهاية الطبع يتحكم. لكن هناك حقائق مجردة لا يمكن التغاضي عنها، ومنها مشهد الحجوزات في المطاعم الجبلية والريفية لا سيما ايام عطلة نهاية الأسبوع. مدير في مطعم «ضفاف النهر» في منطقة عميق – الشوف أكد أن الحركة هذه السنة نموذجية وإن كانت تقتصر على زبائن لبنانيين «لكنهم يأتون من مختلف المناطق والمحافظات. حتى إن البعض يحجز في فنادق الجبل الشوفي للإقامة مدة أسبوع أو في عطلة نهاية الأسبوع. المهم إنو مش عم نلحق طلبيات عالطاولات ايام السبت والأحد».
خبر يفرح القلوب لكنه لا يسري في عروق كل المناطق التي تحولت من الثوابت على خريطة السياحة الداخلية. المشوار لا يزال في بداياته. فبلدات بشري وغابة أرز الرب تستقطب أكبر نسبة من السياح الأجانب. هذا في الظروف العادية. لكن هذه السنة الواضح أن الزوار هم من أهل البيت. وإذا حصل استثناء يكون على شرف بعض المغتربين الذين جاءوا لزيارة الأهل والإقامة مدة أسبوعين في ربوع أرز الرب وقضاء بشري. صاحب فندق في منطقة الأرز أكد ان الحركة في موسم الصيف اقتصرت على اللبنانيين. وللمرة الأولى نشهد حركة سياحة داخلية مماثلة علماً بأنها كانت رائجة في موسم الشتاء. ولفت إلى أن نسبة المغتربين كانت قليلة جداً مقارنة مع الأعوام السابقة لكن السياحة الداخلية عوضت إلى حد ما. وأكد أن أسعار الغرف تراوح بين 150 و300 دولار لـ «السويت»، في النهاية «تبقى أرخص من اي فندق في أوروبا أو قبرص».
لم تقتصر السياحة الداخلية هذه السنة على المعالم التقليدية. فمناطق البقاع والهرمل كانت لها حصة الأسد. ولشمولية السياحة الداخلية نظرية يشرحها الأستاذ في علم الآثار في الجامعة اللبنانية حسان بركات ويقول: «تشكل السياحة الداخلية نوعاً من مظاهر الثقافة لا سيما منها الدينية والأثرية». ويضيف: «واضح أن الضائقة الإقتصادية ساعدت اللبناني هذه السنة على التعرف عن كثب إلى وطنه، لكن هذا ما كان مطلوباً من زمان وتحديداً قبل أن تفكر مطلق أية عائلة او شخص في السفر إلى الخارج، إذ يفترض أن يملك كل منا المعلومات السياحية الكاملة عن وطنه ليعمل على نشرها في رحلاته السياحية إلى الخارج».
قد يفترض البعض أن في الكلام نزعة مواطنية، وهذا ليس خطأ. فوفق بركات التعرف الى لبنان بعيداً عن كتاب التاريخ والجغرافيا ضروري، والأهم أن نعود قليلاً إلى العادات والتقاليد فنحسس أولادنا بأننا فخورون كوننا زرنا هذه القرية وتذوقنا مأكولاتها اللبنانية، وعشنا مع أهلها عاداتهم وتراثهم اللبناني. فهذا جزء من ثقافتنا.

  وصولاً إلى الشق الإقتصادي الذي اعتبره بركات الأساس في الترويج للسياحة الداخلية، فإذا افترضنا أن الأسعار في لبنان مرتفعة إلى حد ما سواء في الفنادق أو المطاعم أو حتى الاسواق إلا أنها تبقى الأرخص مقارنة مع المحيط. والأهم أن اللبناني يتحكم بمسار الرحلة داخل بلده، بحيث لا تتجاوز قيمة الواحدة الـ150 دولاراً لعائلة مؤلفة من 5 أشخاص. وإذا قرروا الإقامة في أحد المنتجعات في مناطق البقاع فإن القيمة تراوح بين 150 دولاراً للشخص و200 دولار في الليلة الواحدة. ولا شيء يمنع من أن تنزل عائلة من 4 أفراد في غرفة مع «بانغالو» بسعر 200 دولار في الليلة وتنظم مشروعاً سياحياً في اليوم التالي للتعرف إلى مناطق البقاع وبحيرة القرعون.
 


الاعلام «مقصر» سياحياً
الفكرة حمستنا. لكن ماذا عن الوضع الأمني والخطف اليومي على الطرقات في هذه المنطقة؟ يسكت بركات قليلاً لينتقل في الحديث إلى دور وسائل الإعلام ووزارة السياحة في تفعيل السياحة الداخلية في البلد: «الإعلام لا يركز إلا على المشاكل الأمنية ولا نراه ينفرد مثلاً بريبورتاج عن منطقة سياحية أم معلم اثري في نشرات الأخبار. نحن لا ننكر أن هناك وضعاً امنياً ملتبساً، وهناك عمليات خطف وتفجير. لكن هناك أيضاً سياحة وحياة وفرح. وإذا أداروا عدسة الكاميرا لشاهدوا مظاهر السياحة الداخلية في لبنان».
هذا الوجه طبع في وزارة السياحة بشهادة وزير السياحة فادي عبود حيث نقل عنه مستشاره ميشال حبيس أن الأخير يشجع السياحة الداخلية ويعتبر أن الناس قريبة من بعضها على رغم الإصطفافات ومحاولة السياسيين تغذية الغرائز. ولفت الى ان «هناك وحدة سياحية تابعة لمجلس الوزراء تتعاطى بملف السياحة الدينية، لكن لا يمكننا وضع الخطط من دون اقرار موازنات لها. فموازنات الترويج للبنان شبه معدومة».

نصل إلى الحلول الواجب اعتمادها، وفي هذا المجال يذكّر حبيس ببرنامج خطة الصناعة السياحية التي وضعها الوزير عبود ويقول: «على الرغم من أن لبنان يتمتع بميزة طبيعية متمثلة بشاطئه الفريد الممتد من أقصى الشمال إلى الجنوب، إلا أن هذا الشاطئ لم يعد يشكل عنصر جذب بسبب التعديات على الاملاك البحرية والاهمال البيئي الكارثي. من هنا يجب العمل سريعاً على انقاذ ما تبقى من مواقع صالحة للاستثمار وتشجيع النشاطات البحرية من الغطس والمراكب الشراعية واليخوت وغيرها، والعودة إلى ما يسمى الـ cruise tourism عبر إعادة استقطاب البواخر التي تنظم الرحلات البحرية في البحرالابيض المتوسط».
نصل إلى المهرجانات التي كان لها الفضل هذه السنة في الترويج للسياحة الداخلية سواء في المهرجانات الدولية أو مهرجانات القرى. وانطلاقاً من دورها في تنمية المناطق وتفعيل الدورة الاقتصادية فيها، إضافةً إلى حث اللبنانيين ومن حضر من المغتربين والسياح على زيارة مناطق بعيدة عن العاصمة والترويج لمناطق مختلفة في لبنان، ولهذا وضعت وزارة السياحة على جدول مشاريعها المستقبلية خطة تتعلق بالمهرجانات تضمنت النقاط الاتية:
< تسهيل عمل منظمي المهرجانات عبر إعادة النظر في الضرائب والرسوم المفروضة عليها.
< التعاون مع منظمي المهرجانات لتطويرها ومؤازرتهم على المتابعة في تحويلها الى مهرجانات دولية، والترويج لها حسب الطرق الملائمة.
< تشجيع منظمي المهرجانات على اعطاء طابع ثقافي هادف للمهرجان بحسب كل منطقة، كمثل إقامة مهرجان سنوي كبير للثقافة الارمنية في عنجر مما يساعد على استقطاب السياح الارمن إلى تلك المنطقة، وتنويع المهرجانات بحسب المناطق.
تشير احصاءات وزارة السياحة إلى أن عدد الوافدين خلال النصف الاول من السنة، بلغ 623864، في مقابل 714549 زائراً في العام الماضي، اي بتراجع بلغت نسبته 12,69 في المئة. وللمرة الاولى يحتل الاوروبيون المرتبة الاولى في قائمة السياح الذين يأتون الى لبنان بـ 208030 زائراً اوروبياً، في حين احتل السياح العرب المرتبة الثانية بـ 202869 زائراً والآسيويون في المرتبة الثالثة بـ 61551 زائراً، والاميركيون في المرتبة الرابعة ب 58339 زائراً، والافارقة في المرتبة الخامسة بـ 31834 زائراً افريقياً، ثم الاوقيانيون بـ 20684 زائراً.
قد يصح أن السياحة هذه السنة هي الأسوأ، لكن المهم أن أهل البلد ما زالوا يشتغلون سياحة، ويعيشون كسياح حتى في وطنهم. إذاً لا يكفي النزول إلى شوارع العاصمة على رغم عجقة ناسها. فهل ثمة من يشكك بعد بجدوى السياحة الداخلية في لبنان؟.

جومانا نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق