رئيسيندوة

ألبير أديب… قصة حب ولا أحلى بين مجلة وصاحبها

تواظب «دار نلسن» في بيروت، على تنظيم اللقاءات الأدبية في «دار الندوة»، حيث يعمل الكاتب سليمان بختي على تحريك عجلة الثقافة في لبنان ودفعها خطوات الى الأمام، سواء عبر الكتب القيمة التي ينشرها، او عبر الندوات التي يقيمها من حين الى آخر، مستحضراً من خلالها اسماء اولئك الرواد الكبار الذين تركوا بصماتهم في سجلات الأدب والفكر والابداع، وساهموا مساهمة فعالة في ايجاد الادب المعافى، واللغة المتطورة، والفكر الانساني. وليس استحضار اسم ألبير أديب (1908 – 1985)، مؤسس مجلة «الأديب» الرائدة، بمناسبة مرور «ثلاثون سنة على غياب مجلة الأديب» التي استمرت في الصدور منذ 1941 حتى 1983، سوى تحية اكبار لهذا الانسان النبيل، الذي سبق لي ان كتبت – قبل مدة قصيرة – ذكرياتي معه، على صفحات هذه المجلة.

في البدء، تحدث الكاتب سليمان بختي، معتبراً ان هذه المناسبة تذكرنا بالينابيع الثقافية الحقيقية والمبادرات والمشاريع الثقافية التي انطلقت قبل استقلال الجمهورية وصنعت صورة للبنان تقوم على الفكر والثقافة والابداع، لتصبح تالياً، معلماً من معالم الثقافة في لبنان. اعطى ألبير أديب لمجلة «الأديب» جذوة روحه وضوء عينيه، فانتشرت ونجحت وتخطت الحدود وكانت سجلاً للحياة الادبية للبنان والعالم العربي لقرابة نصف قرن. ومن خلالها عزز ألبير أديب مساحات التلاقي وفضاء الحرية، وهيأ مناخات الابداع. وأدار ظهره للسياسة وتقلباتها وخيباتها، وراح يرش الارض قمحاً لتعلو السنابل وتحملها العصافير الى المطارح الجديدة.

من هو ألبير أديب؟
تساءل سليمان بختي: من هو هذا الرجل؟
وأجاب: وُلد ألبير أديب (وهو في الاصل من بلدة دير القمر) في المكسيك سنة 1908 وغادرها وهو في الخامسة مع والدته الى مصر فالسودان، حيث تلقى تعليمه في مدارسها. عمل محرراً في بعض الصحف المصرية، مثل «كوكب الشرق» و«الرقيب»، ثم عاد الى لبنان حيث عمل في الصحافة، ونشط في السياسة، ولكنه آثر التفرغ لمجلة «الأديب». ورفض ان يعيّن سفيراً للبنان في الخارج، كما رفض جميع الدعوات لحضور مؤتمرات. واكتفى من حطام الدنيا بغرفة في بيته في الطبقة العليا من بناية مقابل «الطبية»، وفيها اصدر المجلة واستقبل ضيوفه. وفي الحرب اخترقت الصواريخ جدران بيته، فانتقل الى رأس بيروت في سنة 1982. وراحت صحته تتدهور حتى رحيله في 26 ايلول (سبتمبر) 1985. وكان قد قطع وعداً على نفسه ان يظل يصدرها ما دام فيه نبض ينبض.
وخلص الى القول، ان قصة ألبير أديب مع مجلة «الأديب» قصة حب وعطاء وتضحية ونبل لأجل الانسان والثقافة والمجتمع في لبنان المتفاعل مع دنيا العرب. وأولى بنا اليوم، وهذا الكلام برسمنا جميعاً، وزارة الثقافة والجامعات والمؤسسات الثقافية ودُور النشر، ان نستعيد المجلة ونوثّقها ونعيد طباعتها لتعود من زمانها الجميل وتفعل في زماننا. وإذ نفعل، فانما نكمل الطريق ونؤكد ان الثقافة كانت وستبقى عهد خلاص للبنان.


علم من لبنان
الدكتورة نور سلمان اعتبرت ان هذا العَلَم اللبناني كان من اولئك الرؤيويين الذين تصدّوا بشجاعة مرهفة للسواكن الجامدة في فكرنا وواقعنا وابداعنا. اقدم على التجديد في جسد الشعر العربي وأصرّ قلمه على ان تحمل كلمته الشعرية مساحة أوسع من مساحة حروفها. ديوانه «لمن؟» ولا شك، مرجع مهم من مراجع الشعر العربي الحديث.
واكدت نور سلمان، ان تاريخ لبنان لا يكتمل من غير ذكر أعلامه ومفكريه، وليس هذا التاريخ سجل الحروب والمذابح والخلافات الحزبية والطائفية التي تتكرر بسبب التخلف السياسي والوطني الذي يعصف ببلادنا.

أثمن ميراث
وكانت شهادة من مصر، من الأديب وديع فلسطين، قرأها سليمان بختي، ومما جاء فيها، ان مجلة «الأديب» انفتحت امامها جميع الحواجز الى كل البلدان العربية، ولم تتعرض في جميع العهود لأي مصادرة او تعطيل في أي قطر عربي… لافتاً، الى ان «الأديب» كانت أوسع نافذة أطل منها نجيب محفوظ على الحركات الادبية في العالم العربي كله، اذ كانت اهتماماته – يومئذٍ – منحصرة في الدائرة المحلية.
وكشف وديع فلسطين، ان ألبير أديب كان يريد ان يجعل من «الأديب» نواة لدار نشر كبرى، فأقدم على نشر طائفة من الكتب، منها ديوان عمر أبو ريشة (1908 – 1990)، والملحمة الشعرية «عشتروت وأدونيس» للدكتور حبيب ثابت (1892 – 1953)، و«المعري ذلك المجهول» للشيخ عبداللّه العلايلي (1914 – 1996)، و«لا هوادة» لعمر فاخوري (1896 – 1946)، وديوان «الواحة» لصلاح الأسير (1917 – 1971)، ومسرحية «سارق النار» لخليل هنداوي (1906 – 1976)، و«بنت الساحرة» للدكتور عبد السلام العجيلي، ولكنه اكتشف بعد اصداره هذه الكتب استحالة المضي في هذا المضمار، فتوقف.
وختم وديع فلسطين كلامه بالقول، ان هذه المجلة هي أثمن ميراث لنا جميعاً.

همزة وصل
الدكتور ميشال جحا اعتبر ان مجلة «الأديب» بدأت شبابها مع شباب ألبير أديب، وانتقلت الى شيخوختها مع شيخوخته، اعطاها من ضوء عينيه ومن نبضات قلبه واكلت احرفها من ناظريه.
ورأى، ان «الأديب» كانت عند صدورها اهم مجلة في لبنان، ومن اهم المجلات في العالم العربي. وقد أرادها صاحبها همزة وصل بين اقطاب الفكر الحرّ في الاقطار العربية جمعاء. واستقطبت كبار الادباء والشعراء والكتّاب في لبنان والعالم العربي من اقصاه الى اقصاه، فكانت جامعة دول عربية على صعيد الأدب والفكر… ففي كنف «الأديب» نشأ وترعرع اكثر من جيل من الادباء والشعراء. ومن معين «الأديب» نهل العديد من الادباء والمتأدبين.

من القاهرة الى بيروت
الصحافي والاديب ابرهيم عبده الخوري ذكر في كلامه، ان في سنة 1930 أل
قى ألبير أديب عصا الترحال في بيروت قادماً من القاهرة حيث عمل في صحافتها مدة من الزمن وصادق أدباءها وشعراءها. فأخذ يمارس الصحافة في «العاصفة» لكرم ملحم كرم و«البرق» لبشارة الخوري (الاخطل الصغير)، و«المعرض» لميشال زكور، و«الشعب» لأمين نخلة. وسنة 1931 حصل على رخصة لاصدار جريدة يومية تحمل اسم «البدائع». لكن الاخطل الصغير – بعدما اعلن عنها في جريدته «البرق» – أقنع ألبير أديب بالعدول عن اصدارها، متمنياً عليه ان تصدر كملحق في «البرق» وهكذا كان. على ان فكرة اصدار جريدة ظلت تراود ألبير أديب. فبعدما تقلّب في مناصب عدة، وأنشأ سنة  1938 اذاعة «راديو الشرق» عهد الانتداب الفرنسي، اصدر سنة  1942 مجلة تعنى بالسياسة والفكر والأدب والعلم، سماها «الأديب».

صمود «الأديب»
ولفت ابرهيم عبده الخوري الى ان «الأديب» ظلت على امتداد احدى وأربعين سنة تصدر متحدية العوائق الثقافية والمالية، محافظة على كلاسيكيتها في التبويب، ومتجددة في مادتها، ومتضمنة مقالات وابحاثاً ودراسات في الفكر والادب والفلسفة والعلم، وقصصاً، ونقداً للكتب، وشعراً عمودياً ومتحرراً من الوزن والقافية، ومحتضنة كتّاباً شباباً توسم ألبير أديب بعطاءاتهم كل خير، فأصبحوا – على مرّ الأيام – كتّاباً طليعيين.
ولفت ايضاً، الى ان عوائق عديدة وقفت في وجه البير أديب والمجلة، كادت توقفها عن الصدور لولا عناده، فصرف جهده وعمره وماله لتمكينها من الصمود والصدور. واضطر الى ان يبيع قسماً من مكتبته – وهي الثمينة جداً – ليقدر ان يستمر في الاصدار. كان البير أديب صحافياً نظيف اليد في زمن صارت الايادي مفعمة بالمال. وقد عرضت عليه الاموال لتحيد مجلته عن دربها المستقل وتسلك درب الادب السياسي الموجّه. فرفض بعناد، كما رفض دعوات رسمية عديدة وجهت اليه لزيارة هذا البلد العربي او ذاك.

واسطة العقد
الباحث محمود شريح اعتبر ان البير اديب هو واسطة العقد في الحداثة بين القاهرة وبيروت، ولاحقاً بغداد. في افتتاحيته الى عدده الاول من «الأديب» ألمح على ان غرضه الجمع بين طرائف القديم ونفائس الحديث… مشيراً، الى ان ما ان صدرت مجلة «شعر» بعد خمسة عشر عاماً حتى كان لألبير أديب فيها قصيدة، فالتحق السابق باللاحق واكتمل الخلف بالسلف… هو تتمة لـ «أبولو» وتمهيد لـ «الآداب»، و«شعر»، اي نتيجة حتمية لرومنطيقيي القاهرة ومقدمة اساسية لرمزيي بيروت، وعلى هذا المدماك نشأت السريالية عندنا، وكان ألبير أديب نفسه سرى في هذا المنحى منذ تأثره بسميّه ألبير سامان، كما في ديوانه «لمن؟» عن «دار المعارف» في القاهرة.

رحلة عمر
بين «الأديب» وألبير أديب، حكاية ودّ، رسم أصولها، وكتب فصولها، فارتسمت بينهما، لطول المعايشة، قصة حب ولا أحلى…
هكذا استهل الدكتور رفيق عطوي كلامه في ذكرى ألبير اديب، وصولاً الى القول: من المكسيك الى الاسكندرية فالقاهرة فالسودان، فلبنان… رحلة عمر، عبرها مترجحاً بين اعمال وآمال… حتى استقر في بيروت، واستقرت معه صاحبته «الأديب». وحيداً كان البير اديب، في غرفة جانبية من منزله، هي مقرّه ومستقرّه، يقيم فيها منذ مطلع النهار حتى تغيب شمسه، وهي صالون الاستقبال للادباء والشعراء. ميزته الاساسية التواضع، فكان صاحب الامتياز ورئيس التحرير، اجتمعت فيه شخصية الصحافي والسياسي والشاعر والاعلامي وذوّاقة الموسيقى العربية. أنشأ مع اصدقاء من هواة الفن الموسيقي «المجمع الموسيقي الشرقي». وأنشأ راديو الشرق «الاذاعة اللبنانية اليوم» وتولى ادارتها (1938). وأسس مع كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي ومعهما جورج حنا، وفؤاد رزق، وفريد جبران، والشيخ عبداللّه العلايلي، وجان نفاع. كتب شعراً وحبسه في ديوانه «لمن؟» 1952. كانت له أمنية قبل رحيله (1985) ان تواصل «الأديب» الصدور حتى بعد رحيله، ولكن للأسف يبدو بأن للمجلات اعماراً اقصر من اعمارنا.

طليعة المنابر التجديدية
وكانت الكلمة الاخيرة شهادة من العراق، قدّمها الباحث ماجد السامرائي، معتبراً ان البير اديب لم يكن شخصية عابرة في تاريخنا الثقافي… وان مجلته «الأديب» كانت يوم صدورها، طليعة المنابر التجديدية في الوطن العربي. حملت التجديد رسالة، وبشّرت بالتجديد موقفاً ثقافياً وإبداعياً، ونشرت الجديد الذي سيصبح الوجه الابرز، والابهى لثقافة العصر… وان صاحبها، ألبير أديب، هو من بين الاوائل من المجددين على مستوى الشعر، وهو الذي وضع ديوانه الوحيد «لمن؟» سنة 1952 على عتبة الحداثة الشعرية وكأنه أراد القول: ان العبور اليها يكون من هنا!.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق