ندوة

فكتور الكك… المعلّم الاستثنائي وقاهر الجهل والأمية

باستطاعتي القول، ان تكريم الجامعة اللبنانية ورئيسها الدكتور عدنان السيّد حسين، للبروفسور الدكتور فكتور الكك، يأتي في مكانه الصحيح، ولو انه جاء متأخراً. لذلك، فان المثل الفرنسي على حق عندما قال: من الافضل ان يأتي متأخراً من ألاّ يأتي أبداً، وهذا التكريم، ان دل على شيء، فانما يدل على مدى تقدير الجامعة اللبنانية، وسائر الجامعات والمؤسسات العلمية في لبنان، وأبعد من لبنان، لمسيرة فكتور الكك الرائدة والطويلة، الاكاديمية والأدبية والفلسفية واللغوية والعلمية والصحافية… فهو  الحامل ثلاث شهادات دكتوراه، وهو الذي يتقن اكثر من عشر لغات ما بين جديدة وقديمة، وهو المعلّم الاستثنائي وقاهر الجهل والأمية، وله ما يزيد عن عشرين مؤلفاً، بالعربية والفارسية والفرنسية والانكليزية… وهو قبل كل شيء، رجل الحوار والانفتاح والتواصل بين الحضارات والثقافات والاديان، لا موتها. ولنا عودة قريبة، مع البروفسور فكتور الكك، في حديث شامل حول تجربته العلمية الشاملة.

في الندوة التي دارت حول تجربة البروفسور فكتور الكك العلمية، اعتبر الدكتور محمد بدوي الشهّال (عميد المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية) ان فكتور الكك، علم من الأعلام الذين حملوا لواء العِلم والبحث العلمي، والانفتاح في سبيل تطوير الحضارات ورقيها، انسان جمع بين جمال الخَلق والخُلق، اتسم بحب المغامرة والبحث عن حقيقة الشعوب وآدابها، متغلغلاً بأدق تفاصيلها مستخلصاً منها الناجع والشافي، ومتسلحاً بإرثها الباقي والكافي. انسان طوى المسافات بين الشعوب من جهة، وآدابها من جهة أخرى، بحيث سَبَرَ وغاص في بحر كل الحضارات، وكل مجتمع، مستخرجاً اللؤلؤ والمرجان من مكامنهما الدفينة في اعماق بحارها وفي شتى اصقاع المعمورة، فسافر الى المانيا وفرنسا واميركا وكندا وغيرها… من اجل نشر حضارة أمته العربية وحضارة بلاد فارس التي اشتركت في كتابة حضارة المشرق المجيد.

تلاقي الحضارات وتطورها
رأى الدكتور محمد بدوي الشهّال، أن الدكتور الكك بفضل حكمته ووعيه وثقافته الواسعة، وحبه لاكتشاف ما هو مجهول ومستور، استطاع ان يتبوأ مناصب راقية رفيعة في الدول العربية والفارسية والأوروبية والاميركية. فهو انسان عمل على تلاقي الحضارات وتطورها وخصوصاً العربية والفارسية، هذه الثقافة الغَنّاء التي حملها وتميّز بها وجعلته يسبر اغوار الحضارة الفارسية ويستخرج كنوزها الدفينة البعيدة التي تتلاقى مع عقول ووجدان الكثير من الكتّاب والادباء العرب والمسلمين. فهو يعتبر انسان كل حضارة، ومعجم كل أدب، هو الذي اغنى الأدب العربي وزاده بريقاً، واضفى عليه من الآداب الاخرى كالفارسية والفرنسية والالمانية والاميركية والتركية، فمزج بين هذه الآداب وحلّل مضامينها، واستكشف اسرارها وخفاياها، مُسلطاً الضوء على كل ما فيها من أمور الأدب والحياة.

سلاحه الكلمة
ولفت الدكتور الشهّال، الى ان فكتور الكك يُعدّ من الكتّاب والأدباء، الذين حملوا قضية العروبة والعربية ودافعوا عنها في المحافل الدولية، فضلاً عن الندوات والمؤتمرات التي شارك فيها حاملاً معه أوجاع الأمة ولغتها ومعاناتها. وقد وقف سنة 1972 امام رياح تدريس المواد الانسانية في اللغات الأجنبية فقط، وأصرّ على التدريس باللغة العربية والكتابة بلغة الضاد الى جانب اللغات الأجنبية. وخلال الحرب الاهلية التي عصفت بلبنان وجدناه رمزاً للتعايش والانصهار الوطني والوحدة الوطنية. فهو لم يُفرّق بين مذهب وآخر، بل جعل قلبه موطناً للديانات السماوية السامية. فخلال تلك الحرب الهدّامة والتي حُمل خلالها السلاح المدمّر الفتاك، وجدنا الدكتور فكتور الكك يحمل سلاحاً بناءً وموضوعياً، انها الكلمة التي سخّر قلبه في خدمتها، فعمل على بناء الثقة بين اللبنانيين وتوطيد جسور المحبة والتعايش بين جميع الافرقاء، بعيداً عن الطائفية والكيدية والمحسوبيات.

ارتوى وأروى
الدكتور يوحنا عقيقي (نائب رئيس جامعة الروح القدس للابحاث) استهل كلامه برباعية من رباعيات  جلال الدين الرومي:
هذا الصباح، قطفت ورداً من البستان
وكنت خائفاً من أن يراني البستاني
ولكنه خاطبني بصوته العذب قائلاً:
ما قيمة الورد؟ أعطيك كل البستان.

هذه قصتي مع فكتور وأظنها قصة كل من تعرّف اليه وقصده بمشورة علمية، برأي، بمعلومة، فنراه يَهبُ ذاته في كلّيتها لمن يدق بابه باحثاً عن الحقيقة عشطاناً.
الى ان يقول، ما الورد؟ وما الفوز إن لم يكن في هدأة الفكر ما استوى على القوس يشدّ السهم الى الأفق المعجزة وقد صوّب في الأدب واللغة بياناً وبرهانا. نعم وكل النعم حلت عليه، ليظفر مرة واثنتين، وتعود الطابة الى ملعب الجامعة الأم، حيث ارتوى وأروى، وفجّر في العلم ينابيع، كان لها من امتداد المجاري، في الجبل الأقدم، ما فاض عسلاً ولباناً.
يعتبر الأب يوحنا عقيقي، ان فكتور الكك، كاتب، استاذ، أب،باحث، اداري، صديق، للعظماء تلميذ ورفيق، مقاوم في الحق، ومرشد نبيه، مسافر، فاتح ومغامر يشق العباب طوله وعرضه، كبحّار اسحق: ما إن يغرس مرساته على شاطىء جزيرة معيّنة حتى نراه يبسط الشراع مجدداً باتجاه آخر، والقصد غوص في السرّ، في المجهول، علّه يدرك اليقين وهو لا يعطي  للتعب حسباناً.

معنى التكريم
اما البروفسور الأب سليم دكاش (رئيس جامعة القديس بوسف) فاعتبر ان تكريم الدكتور فكتور الكك، هو واجب لا لموقع تبوّأه بل لما أسهم به في ميادين الحضارة والثقافة، ومن ثم، مهما كان نوع التكريم هو دفع لنا جميعاً بأن نستمر في النضال الأدبي واللغوي والوجداني والفلسفي على خطاه، في وقت اصبح فيه الادب والعمل الادبي بمختلف نواحيه سراباً بعد ان كان ادماناً والتزاماً.

كلام البستاني
استرجع الأب سليم دكاش ما قاله في فكتور الكك منذ اثنتين وخمسين سنة استاذه مؤسس الجامعة اللبنانية واليسوعي اكثر من اليسوعيين والمعلّم في معهد الآداب الشرقية ورئيس تحرير مجلة «المشرق»، الرئيس فؤاد أفرام البستاني وذلك في تقديمه لكتاب فكتور الكك «بديعات الزمان»، بحث تاريخي تحليلي من مقامات الهمذاني، حيث قال البستاني: «يسرني ان اقدم هذا البحث التاريخي الادبي في «مقامات» بديع الزمان نموذجاً من دراسات خريجي «معهد المعلمين العالي» في الجامعة اللبنانية، وقد عرفت فيه – اي المؤلف فكتور الكك – تلميذاً جلوداً، وباحثاً طلعَة، لا يقف في نصف فهم ولا يقتنع بشرح سطحي. هذا كان شأنه طالباً في سنوات «الاجازة» في الادب العربي، وهذا شأنه باحثاً في «الكفاءة». فكانت هذه الرسالة من خيرة مثيلاتها». وكان فؤاد افرام البستاني نبويّاً في كلامه عندما ختم قائلاً: «ان المؤلف التحق بجامعة طهران مقتفياً خطى بديع الزمان، فيتمم ثقافته العربية بدراسة الحضارة الفارسية في معاهد ومواطن طالما كانت مباءات اللغة ومثابات الأدب».

مسيرة غنية
وهنا لفت الأب دكاش، الى انه، عندما يقول فيك فؤاد افرام البستاني ما استرجعناه للتو فما عساي اليوم اقول فيك ايها الامين العام للمجمع الثقافي العربي ويا ايها المحاضر الذي استمعت اليه مرتين بشغف من الألف الى الياء، ويا صاحب كرسي الدراسات الفارسية في الجامعة اللبنانية، ويا ايها الحامل الدكتوراه ولثلاث مرات في اللغة الفارسية وآدابها وفي اللغة العربية وآدابها وفي الفلسفة وتياراتها ومواضيعها، عدا المسؤوليات الاخرى التي حملتها ومنها ما تحمله حتى اليوم، كرئاسة تحرير المجلات الادبية من اكثر من صنف ولون؟ وما عساي اقول بلغتي المضطربة ولساني المشتت امام لغوي يمتلك القدرة على التمكن من نواصي اللغات العربية والفرنسية والانكليزية والالمانية والاردية والفارسية، والفارسية القديمة، والفارسية الابستاقية والفارسية الفهلوية، والفارسية الدريّة، والعبرية والسريانية واللاتينية؟

داعية الحوار
امام هذا الثراء المعنوي والادبي، توقف البروفسور الأب سليم دكاش، عند ثلاثة:
اولاً: احب تعلقك بايران وبالثقافة الفارسية. عندما تتحدث عن ايران كأنما تتحدث عن جزء من وجودك وعاطفتك وعائلتك.
ثانياً: هو الحب الذي قادك الى ان تكون رجلاً مميزاً في الحديث والكتابة والفكر والتعليم في حوار الثقافات والحضارات والاديان، ولقد اصبحت داعية لهذا الحوار في جو يكثر الدجّالون في هذا المضمار.
ثالثاً: انا مُنحسد منك يا صديقي فكتور لأنك لا تستكين ولا تعرف ما هو التقاعد وما هو سنّ التقاعد، حيث ان لديك روحاً مستعدة ومتوثبة دوماً للمساعدة وللتدريس والبحث والمحاورة وكأن عمرك توقف عند مرحلة الشباب.
وفي ختام الندوة، كلمة لرئيس الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان السيّد حسين، واخرى للبروفسور فكتور الكك.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق