ندوة

دار صادر… قصة تطور صناعة الكتاب ومحاربة الجهل والتخلف

باكراً جداً، انساب اسم صادر الى مسامع كل من قرأ كلمة أو كتب كلمة. منذ اكثر من 150 سنة، وهذه العائلة اللبنانية العريقة، تتعاطى مع المعرفة في مختلف حقولها، في الأدب والشعر والفلسفة والقانون واللغة والتراث… منذ ذلك الزمن البعيد، وهذا الاسم يتردد على المسامع، حاملاً معه الكتاب القيّم والفكر النيّر، قديماً وحديثاً، من ابن منظور، وأبي حيّان التوحيدي، وابن الأثير الجزري، وغيرهم… الى أمين  الريحاني، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه، وكرم ملحم كرم، وايليا أبو ماضي، ومي زيادة… مروراً بالشيخ ناصيف اليازجي وبطرس البستاني، وغيرهم… فقصة عائلة صادر، قصة طويلة، هي قصة تطور صناعة الكتاب بشكل تصاعدي، قصة نشر اعمال اصحاب الأقلام المضيئة، قصة محاربة الجهل والتخلف، وبناء المجتمع الافضل والانسان المستنير. انطلاقاً من ذلك كله، عقدت «الحركة الثقافية – انطلياس» ندوة تحت عنوان: «150 عاماً: تحية الى عائلة صادر في رسالة النشر والطباعة».

في البدء، تحدث القاضي الدكتور غالب غانم، معتبراً، مَن يُنكر ان الحرف كان السبّاق الى نشر حضارتنا في المعمورة… وانه كلما حاول غازٍ اغلاق النوافذ او كَمّ الأفواه، كانت تلتمع من وراء تلالنا أشعّة او تشرق شمس او يبرق مشروع يُصرّ مطلقوه على الاستجابة لرغبة الوطن الرسالة التي لا يلويها حديد ولا تحرقها نار؟ المثابرون، منذ عهود الورّاقين حتى أوفر التقنيات تقدماً، على اعتبار الكتاب سلاحاً من أمضى الاسلحة، هم حضاريون، وقل أيضاً، انهم «صادريون».

أثمن من المال
وتابع قائلاً: «ومن ينكر ان النهضة في ديارنا وديار اللغة العربية عموماً، مدينة بمقدار كبير للمطبعة والمكتبة والكتاب، وللحرية التي تحتضن هذه جميعاً؟ ولولا هذه الحقائق، وهذه الرموز، لكانت الكنوز تقبع في المخابىء او المجاهيل، ولما ظهرت على الاطلاق في بعض الاحيان، مخافة احتجاب واختناق وعجز عن الخروج من الشرانق. الذاهبون الى اصحاب المواهب ليتعاطفوا معهم ويستخرجوا اللآلىء من خزائنهم ويقولوا لهم: أوراقكم أثمن من المال وأشفّ من المادة، هم حضاريون، وقل هم كذلك «صادريون».

ثقافة الكتاب
معتبراً ايضاً، مَن ينكر أننا في قلب معركة لا تزال مستعرة بين تأجيج الفتن ونشدان السلام. بين اللغات الخشبية والمنابض الانسانية. بين غبار خانق ورذاذ منعش. غبار الجهل ورذاذ المعرفة… أجل! لا نزال على هذه الحال. والمصممون على ردّ الأهوال بإشاعة ثقافة الكتاب، هم حضاريون و«صادريون».
ويؤكد غالب غانم، اننا، يا أبناء هذه المملكة المسوّرة بالريشات، نقف في الضفة التي عليها تقفون… ومن الكتب نبني أسواراً وأبراجاً ومدائن… وننضم معكم الى حضارة السلام.

الكتاب ثلاثة
النقيب عصام كرم استهل كلامه، بأن الكتاب ثلاثة: الكاتب، والناشر، والقارىء. على ان الناقد رابع الثالوث. لأن في شروط النقد الادبي ان يكون في مستوى السعي الى المعرفة… معرفة الذات الكبرى والذات الصغرى. وليس كثيراً القول ان الناقد هو شريك المؤلف. فبهذا هو يعيش تجربة الحسّ الأدبي. الناقد لا يُطلق نظريات في النقد، بل يسهم في عمودية الأدب. هكذا، مع بروست وكافكا، تيسّر للأدب، في بعض آثاره الفاقعة، ان يكون جامعاً بين العمودية الأدبية وأفقية اللغة.
من هنا، يشير عصام كرم، الى ان انطون صادر كان يعرف كل هذا. وبوضوح اكثر وبأمانة اكثر… هو كان يعيش كل هذا. كان يقرأ الكتاب قبل ان يوافق على نشره. «دار المعارف» في مصر كانت تستشير طه حسين، خصوصاً في منشورات سلسلة «إقرأ». كمثل ما تعمد دُور النشر في العالم الى طلب رأي أكابر الكاتبين.

هنا وهناك
بالمناسبة، اعطى النقيب كرم، صورة مختصرة عن حركة النشر في فرنسا، لافتاً الى ان في اربعينيات القرن العشرين ما كانت حركة النشر عندنا قد صارت وجوداً يستحكي الناس. في فرنسا كانت «دار غراسي» “Grasset“  في سنة 1907 على يد برنار غراسي. وكانت المجلة الفرنسية الحديثة NRF في 1908 على يد شارل لويس فيليب مع نخبة فيها مرسيل دروين واندريه جيد. في 1911 يصير غاستون غاليمار ناشر الـ NRF. السبّاقة كانت دار فلامَاريون. من 1876 تابعت خط منشئها، ارنست فلاماريون، تنشر كتب اميل زولا وغي دو موباسان. ولشيء يطيب ذكره… ان دار غراسي انتظرت 1911 حتى انطلقت. يومذاك… هي نشرت كتاباً رفضت نشره دُور عديدة، هو كتاب مرسيل بروست، وهو، مثل الدار الناشرة، كان غمراً يومذاك. «من صوب منزل سوان» كان اسم الكتاب Du Coté de chez Swan… الكتاب النهر المقسوم بين «الوقت الضائع» و«الوقت المستعاد». ووثب الكتاب يواثب الدنيوات. ومع الكتاب الكاتب. ومضت الدار في وثبتها تتخلى عن رأسمالها، في سنة 1945، لدار هاشيت ويؤول الملك الى ابن اخت برنار غراسي، برنار بريفا Privat، فيصير اسم الدار «دار غرسي وفاسكيل» تحفظ مستواها وتحيط نفسها  بأدباء من نوع اميل زولا وجان كوكتو واندريه مالرو.

أهم حدث في التاريخ
انطلاقاً من هنا، لفت عصام كرم، الى ان دُور النشر عندنا كانت قليلة في ذلك الزمان. اشهرها «مكتبة صادر». والاسم كان جديداً. سليم، ابن ابرهيم صادر من درب السّيم في جنوب لبنان، طوّر عمل «المكتبة العمومية» فنهضت شهرتها. وعمّ اسمها. وسمنت رفوفها وخزانتها… فكان الاسم علماً. وما زال. والاسم، في الاصل، لابرهيم. ظل يحمله حتى مطلع القرن العشرين. من 1863 الى 1907. فتنازل، اذ ذاك، لولديه سليم ويوسف. هذا تولّى المطبعة. وذاك المكتبة… فتيسّرت لنا، نحن، بهذا، متعة القارئين، واطلّ انطون. فصارت المكتبة التي في شارع اللنبي على يمين القادم من شارع فيغان داراً لتلاقي الادباء.
واعتبر كرم، ان انطون صادر كان راهباً في دير الكتاب وفي ايوان الكتاب. نذر ووفى نذوره. الكتاب الورقي أوجده التقدم التقني ويذهب به التقدم التقني. الكتاب الورقي من عمر المطبعة. من زمن غوتنبرغ في القرن الخامس عشر. من قبل تولّت الهندسة كتابة الفكر. كتبته بالحجر. فجاءت المطبعة تكتب الفكر بالحرف. المطبعة أهم حدث في التاريخ، لانها عرفت كيف تطوّر التعبير عن الفكر الذي يرفض ان يُوأد… كمثل نور فوق مشكاة يطلب الوجود ويطمح الى الخلود. هي الثورة الأُم، المطبعة. حدّدت آلة التعبير. وغيّرت الرمز الذي، منذ آدم، كان الذكاء.

مسيرة علمية طويلة
بدوره، استهل القاضي طارق زياده، كلامه بالقول، ان بيروت أم الشرائع ومرضعة القوانين، منارة النهضة في عالم عربي متعطش للحرية و«دار صادر» ركن من اركان النهضة الحقوقية والثقافية والادبية في لبنان ودنيا العرب.
معتبراً، انه منذ قرن ونصف ظل المشعل متقداً، يحمله عباقرة مبدعون، ابتداء من الجد ابرهيم يوسف صادر الذي أنشأ سنة 1863 «المكتبة العمومية» مروراً بالابن الاول القاضي يوسف الذي أنشأ «المطبعة العلمية» والتي تنازل عنها لولده الوحيد انطون الذي خصصها للتراث والشعر، وحملت مذ ذاك اسم «دار صادر». وبعد أن كان يوسف قد نشر مؤلفات الاديب الكبير امين الريحاني، ظهرت «المجلة القضائية» في وقت مبكر من عمر لبنان الكبير 1921، مجلة حقوقية ظلت مرجعاً لرجال القانون آماداً طويلة، وفي وقت لاحق، سنة 1924، وضع يوسف مجموعة صادر القانونية.

مواكبة العصر
لفت طارق زياده، الى ان اديب صادر لم يكتفِ بالنشر، وانما عمل نقابياً، مؤسساً «اتحاد الناشرين» في سنة 1972، وظل مشعل صادر ملتهب الجذوة مشعاً مع جوزف أديب صادر الذي تابع المسيرة النقابية لوالده، وترأس نقابة الطباعة في لبنان منذ سنة 1999. ولم يتوقف ابداع صادر عند النشر الورقي وانما واكب العصر في «صادر في المعلوماتية القانونية»، وساهم مساهمة كبيرة في المكتبة الالكترونية في وزارة العدل.

رهان على النوعية
اما الدكتور انيس مسلّم فهو يرى، ان ما يميّز«دار صادر» ليس خاصتها القانونية، على اهميتها، بل منهجية صارمة واضحة المعالم في العمل ما يجعلها، نسبياً، في مصاف كبريات دُور النشر العالمية. فقد راهن مؤسسوها، منذ انطلقوا، على النوعية، وفاقت رغبتهم في النجاح وخدمة الثقافة، خوفهم من الفشل وخيبة القراء، فكانوا في مواجهة التحديات مثالاً يقتدى به.
واخيراً، تحدث النقيب جوزف صادر، وتبعه نبيل انطون صادر ملقياً كلمة عائلة صادر، موجهاً سلسلة تحيات.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق