انطوان رعد… عاشق الشعر ووطنه الجميل لبنان
الشاعر الملهم أنطوان رعد، يٌدهشنا دائماً، تارة من خلال قصيدة جميلة، وطوراً من خلال أحد ابتكاراته الفنية. هو يعرف جيداً، ان القصيدة متعة للروح، وان الصورة متعة للعين، وان الانسان يحلو له التمتع بكل ما هو جميل وجذّاب. وفي اعتقادي، من هنا انبثقت فكرة كتابه الجديد، او بالاحرى، تحفته الشعرية الفنية المبتكرة والفاخرة «لبنان صورة وشعراَ» التي زاوج فيها بين القصيدة والصورة، وكأنهما عاشقان لحبيب واحد اسمه لبنان! فلكل قرية او بلدة او مدينة، قصيدة صغيرة بحجمها، كبيرة بمحتواها، مع مجموعة من الصور… وكذلك لكل موقع او منظر او حالة… وفي لغات اربع. وكلها تحكي للعالم قصة هذا الوطن الصغير بمساحته، الكبير بتاريخه وبطموح شعبه، والمدهش بجماله. من ناحيتي، لم استغرب ان ينجز انطوان رعد مثل هذا العمل الشعري الفني الضخم الذي تنوء تحت ثقله المؤسسات الكبيرة، لأنني أعرف، كم ان مؤلفه يحب الشعر، وكم انه يعشق وطنه، وكم عانى من ابتعاده عنه… ولا يعرف الشوق الا من يكابده! وبهذه المناسبة، عقدت «الحركة الثقافية – انطلياس» و«رابطة خرّيجي معهد الرسل – جونيه» ندوة حاشدة في دير مار الياس – انطلياس، تليق بهذا العمل البديع.
قدّم الندوة وأدارها الدكتور عصام خليفة، معتبراً ان أنطوان رعد، هذا الشاعر الاستثنائي الكبير، ينتمي الى عمالقة الأدب اللبناني والعربي المعاصر. ومن ثم، فان ابن الكورة الخضراء، نقابي ومربٍ من طراز ندر مثيله. عنيد في الدفاع عن حقوق المعلّم، وعن قيم الحرية والاستقلال. لا يساوم في الفن، او الوطنية، او السياسة او في العمل النقابي. هامته العالية لم تنحن لترغيب او ترهيب، الامر الذي دفعه لمغادرة الوطن خمس عشرة سنة الى اوروبا، رافضاً تقديم اوراق الطاعة للمماليك وغلمانهم في الازمنة الصعبة.
عطاء نوعي
في موعد انطوان رعد، استحضر المحامي والوزير الاسبق ادمون رزق، درّهُ السخيّ: نبض حياة،سيرة نضال، وعشق جمال، الى عقود تعليم، وقفات ومواقف، في ساحٍ وعلى منابر، من لبنان الى عواصم العرب وعكاظاتهم. شعره تجسيد أحاسيس، قيثارة حب، تطريب وإهابة… فللتفعيلة، على أوتاره، إيقاع وإرنان. المعاني نضارة وإثارة، والحميم المكتوم من قصائده ينقل المتقصّي الى مراتع الوجدان، ومراقي العنفوان، من دون تقيّة!
معتبراً، ان انطوان رعد شاعر لبناني، نقابي ملتزم، حلّق في الاجواء، استشرف مواقع التاريخ ومواضيع الوجد، في مدن وقرى، تملّى جمالاتها واستلّ خصوصياتها، سكبها في وصفٍ جمّل الموصوف.
ولفت ادمون رزق، الى ان انطوان رعد اغنى المكتبات باصدارات جمعت نضارة الكلمة وروعة الفن، فمن «السندباد» الى «تقاسيم على مقام العشق» حتى «لبنان شعراً وصورة»، في لوحاته الأخّاذة وترجماته الثلاث، بعد مجموعات من العطاء النوعي، شعراً ونثراً، مسيرة متميزة بالفرادة، كتابة واخراجاً.
محاكاة نشيد الأناشيد
بدوره، رأى القاضي الدكتور غالب غانم، ان هذا الكتاب، ليس صورة وشعراً عن لبنان وحسب، بل كذلك دندنة اجراس واحقاق عطر، تُسمع وتُشمّ، وتُستطاب، وتحاكي ما جاء في نشيد الأناشيد:
هلمّي معي من لبنان
شفتاكِ تقطران شهداً أيتها العروس
تحت لسانِكِ عسَل ولبن
ورائحة ثيابِكِ كرائحة لبنان
واعتبر غالب غانم، كل لوحة في الكتاب دعوة الى التسبيح، وكل قصيدة صلاة. لقد اجتنب الشاعر، في سبيل الوصول الى مُؤدّاه، الكلام الكثير وما قد يواكبه من نوافل، وقصائد عصماوات، وطنّان رنّان. ذهب الى المبسّط دون المعقد والمصنّع، وآثر الأيقونة على المعلّقة. الكتاب قِطع قِطع، ولمع لمع، وشهقات شهقات، وجوهرة جوهرة. يدخل الى التاريخ بلفتة، والى الجغرافيا بطرفة عين، ويمرّ بالمدن والقرى مرور باعة الورد وحساسين الجَُرد والعشاق القدامى الذين يزورون مساكن حبيباتهم خِفافاً يستطلعون ولا يقتحمون.
أعلى الجبال
ورأى غالب غانم، انه لأجل الحرية، حبيبة اللبنانيين، آخى أجدادنا الصعب والصخر والوعر، واستبسلوا، وبالعرق والدماء روّوا أرضهم… واستشهدوا واقفين في أيديهم أقلام وأسياف، وظلّت جباهم مرتفعة كجبالهم:
تحت عنوان: «جبالنا» يقول أنطوان رعد:
جبالنا تتحدّى الدّهر صامدة
عصيّة عن ذراها الطرف ينحسر
إن تسألوني عن أعلى الجبال أجب:
أعلى الجبال جباه ليس تَنكسِرُ.
ورأى ايضاً، ان هذا كتاب يطفح بالشاعرية طفحاً.
حكاية عمر
المهندس إسبر زوين (رئيس رابطة خرّيجي معهد الرسل – جونيه) لفت في كلامه، الى ان بين الشاعر أنطوان رعد ومعهد الرسل حكاية عمر، وعلاقة هي باختصار شبيهة بعلاقة المتنبي بسيف الدولة، فاذا ذكر أحدهما حضر الآخر تلقائياً في البال. وهذا ما عبّر عنه الشاعر في قصيدة «العودة» التي ألقاها في المعهد الذي درس فيه ودرّس، إثر عودته من سنوات المنفى.
ولذلك – كما يقول زوين -وتقديراً لدوره كشافاً وبطلاً رياضياً يوم كان تلميذاً، ودوره بالتالي معلّماً ومربياً، ونقيباً للمعلّمين، ورئيساً للنادي العربي في بريطانيا، ورئيساً للمجلس الثقافي في بلاد جبيل مؤخراً، رأت الرابطة ان تحتفل معه بمولوده الجديد: «لبنان صورة وشعراً»، باللغات العربية والفرنسية والاسبانية والانكليزية… وهو كتاب شعري، يضم صوراً رائعة عن مناطق لبنانية، ويمتاز بعفويته الأنيقة، وبساطته العميقة، الى كونه فعل إيمان بجمال هذا الوطن الصغير، ووهجه الحضاري، وامجاده التاريخية عبر العصور.
وطن في كتاب
الدكتورة زهيدة درويش جبور (الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو) اعتبرت ان ليس من المبالغة القول، ان الشاعر انطوان رعد، يقدّم لنا من خلال «لبنان صورة وشعراً» تحفة فنية بكل معنى الكلمة، في كتاب يحتضن بين دفتيه الوطن بكامله، أرضاً وروحاً، ساحلاً وجبلاً، تاريخاً وعراقة. انه لبنان يرسمه بالكلمات، ينسج له من سحر الخيال صوراً تتراقص في القصيدة على ايقاعات احساس مرهف بالجمال، وتحاور في تناغم رائع صوراً من نوع آخر تخاطب العين بلغة اللون والضوء ولا تقل عنها سحراً وروعة واندهاشاً… ذلك ان الشاعر اراد لكتابه ان يكون حواراً بين القصيدة والصورة الفوتوغرافية التي ارتقت الى ذروة الابداع الفني، كما اراده ان يكون حواراً بين اللغات التي تتقابل او تكر كحبات سبحة على الصفحات… كأنه يهديه الى مواطنيه الكثر في بلدان الانتشار، يريده جسر عبور الى الوطن المهاجر… مما لا شك فيه ان اعتماد التعددية اللغوية من خلال توسل الترجمة يضفي على الكتاب طابع الفرادة، ويفتح أمامه آفاق العالمية.
سفيرنا الى العالم
وخلصت الدكتورة زهيدة درويش جبور الى القول، ان هذا الكتاب هو خير ترجمان للبنان، ارضاً وتاريخاً وشعباً، لذلك فهو جدير بأن يكون هدية قيّمة يفخر بتقديمها المسؤولون في هذا البلد لزوارهم من كبار الشخصيات في العالم، كما يفرح بها كل صديق مؤمن مثلنا بأن خير جليس في الأنام كتاب.
ترابك عنبر
الأديب جورج مغامس، رأى، ان انطوان رعد اعلن صراحة، باسم الاصالة واخلاص المخلصين:
ترابك يا وطني عنبر
بقلبي يُشم
يُقبّل يُعشق يُعبد
هذا التراب بأهداب عيني يُلَمّ!
مشيراً، الى انه فعل ذلك كلّه: من «الأرز جار السماء»، الى جبيل التي «صدّرت الحضارة ولم تزل تحتل بين المدن الصدارة»، الى صور «تاريخها احداثه في قلبنا محفورة»، الى صيدا التي «من مقلع الفداء والعز والإباء قدّت»، الى قانا التي ارضها مسك بخور وصلاه»، الى بعلبك التي «يتكىء الدهر على أكتافها»، الى عنجر «سيمفونيا الهديل والزئير»، الى طرابلس التي «تاريخها قارورة دهرية اذا فَضَضْت ختمها تَضوّع الأرج»، الى دير القمر التي فيها «خطّ المعنيّ أول حرف في كتاب استقلالنا اللبناني»، الى بيت الدين التي لم تزل في قصرها «الحجارة ترصد في صمت ومهابة وقع خطى الأمير»، الى نهر الكلب حيث «جمع الزمان ظلالاً في نقوش وفي بقايا سطور»، الى «معبدٍ أسطوره أقيم فوق الماء في مغارة مسحوره «اسمها جعيتا»، الى «سفارة في الأرض للسماء» هي سيدة لبنان، وشلال بليغ بجزين «يروي فيُروي ظمأ المعجبين»، الى اهدن التي الدهر يخاف أن يدنو من عرينها»، الى بشري التي «لم تزل منابع الإلهام تنهل من نبي جبرانها»، الى دُوما التي الشمس «صاغت لها عقداً وإكليلاً»، الى جونيه التي «شاءها الحسن له عاصمة»، الى زحلة حيث «أقام الشعر مملكة الخيال»… الى ما شاء اللّه قرىً لنا زمرّدات لازورديات الجباه والشرفات… منائر نُحتت بالبخور المصلّي، عن ذراها الطرف ينحسر…
وفي ختام الندوة أحلى الكلام، وأعذب الشعر، من انطوان رعد.
اسكندر داغر