سياسة عربية

عباس محاصر بين الغرب… وحماس

دخلت الساحة الفلسطينية مرحلة ما بعد حكومة سلام فياض التي استقالت اخيراً، وبدأت مكونات هذه الساحة تبحث جدياً في الشخصية التي يمكن لها ان تخلف فياض، وما يمكن ان يترتب على ذلك. ولا ريب في ان الساحة الفلسطينية اخذت حدث استقالة فياض بمزيد من الاهتمام واعتبرته حدثاً كبيراً.

حركة «فتح» التي كان موقفها المتشدد والمعادي لفياض، سبباً اساسياً في قبول رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس استقالة هذا الرجل والضغط عليه، وتركه وحيداً لدفعه الى التنحي، سارعت الى الاعراب عن ارتياحها لحدث الاستقالة، واتهمت حكومته بـ «الاخفاق الذريع في ادارة الدفة الاقتصادية وتحميل السلطة الفلسطينية ديوناً هائلة، اضافة الى فشلها في توفير رواتب الموظفين على مدى اشهر طويلة».
وبمعنى آخر، حملت الحركة التي تشكل العمود الفقري للسلطة الفلسطينية فياض المتنحي حديثاً، كل المسؤولية عما تعانيه السلطة الفلسطينية حالياً من ازمات مالية.
وفي موازاة ذلك، لم تقصر حركة «حماس» في تحميل رئيس الحكومة المستقيل كل تبعات المرحلة الماضية واخفاقاتها، خصوصاً ان بينها وبينه ثأراً قديماً فهو من تولى رئاسة الحكومة في اعقاب عزل احد ابرز قيادييها اسماعيل هنية عن المنصب نفسه.
بدورها، اعتبرت «حركة الجهاد الاسلامي» في فلسطين ان قرار فياض بالاستقالة، قرار حكيم. وعزا احد ابرز قياديي الحركة في الداخل خالد البطش الاستقالة الى شعور فياض بأن «فريقه بدا وكأنه لا بد من ان تتساقط اوراقه».
وفي غزة، عقد ممثلو 12 فصيلاً فلسطينياً، غابت عنه حركتا «فتح» و«حماس»، اجتماعاً تدارسوا خلاله ما اسموه الاستحقاقات المترتبة على استقالة حكومة سلام فياض، ووصفوا الاستقالة بأنها «فرصة لاطلاق عملية المصالحة الفلسطينية على اساس اتفاق القاهرة».

اعتبارات وحسابات
ولا شك ايضاً في ان ثمة اعتبارات وحسابات عدة تجعل من حدث عادي بمستوى حدث استقالة رئيس حكومة، حدثاً استثنائياً مدوياً في الساحة الفلسطينية، تعقد من اجله الاجتماعات، وتنفتح من اجله ابواب «بازار» سياسي ومناورات واسعة. ويأتي في مقدم هذه الاعتبارات والحسابات:
– المعروف ان الساحة الفلسطينية هي منذ زمن بعيد ساحة التناقضات والانقسامات الداخلية بين فصائلها ومكوناتها، حتى يكاد اي مراقب سياسي موضوعي ان يصفها بأنها ساحة الازمات والصراعات المستديمة.
وعليه، فإن حدثاً بحجم استقالة فياض، من شأنه ان يحدث «استنفاراً» من جانب كل فصائل هذه الساحة ومكوناتها، اذ تتجدد فيه الرهانات وتختلط الاوراق وكل الحسابات من جديد.
– ان موضوع استقالة فياض، اعاد «احياء» موضوع المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية مجدداً، لا سيما وان التطورات الاخيرة جعلت مصير هذا الموضوع ملتبساً او ضائعاً، فلم يعد المراقبون يعرفون اذا كان قطار هذه المصالحة قد تعطل في محطاته الاولى، ام ان اندفاعاته مجدداً صارت رهن قضايا وحسابات اخرى غير تلك التي فرضته اولاً.
لم يعد خافياً ان حركتي «فتح» و«حماس» بادرت كل منهما فور استقالة فياض الى اثارة هذا الموضوع وكل منهما من وجهة نظرها الخاصة، اذ اعتبرت «فتح» انه بعد استقالته، بات على «حماس» ان تتقدم خطوات جدية نحو المصالحة.
في حين ان «حماس» نفسها اعلنت في بيان ان استقالة فياض ينبغي ان تعطي فرصة جديدة لدفع جهود المصالحة. واعتبر البيان، ان سبب جمود «جهود تنفيذ اتفاق المصالحة هو سياسة الانتقائية التي تمارسها حركة «فتح» في التعامل مع اتفاق المصالحة».
– ان لدى «فتح» و«حماس» حساسية مفرطة ومزمنة حيال موضوع المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، فهما حصراً في نظر كل شرائح الشعب الفلسطيني مسؤولتان عن تقدم ملف المصالحة او تعثره، وكلاهما تدركان ان انجاز موضوع المصالحة مطلب اساسي بالنسبة الى الشعب الفلسطيني، وبالنسبة الى كل المهتمين بالموضوع الفلسطيني، اذا فإن كلا منهما تسعى جاهدة وفي كل المناسبات الى ابعاد مسؤولية تعثر هذه المصالحة عن نفسها واظهار جديتها في انجاز المصالحة حتى لا تكون في اي يوم من الايام موضع شبهة او تهمة.
لذا، كان من الطبيعي ان يستغل كل طرف من هذين الطرفين مسألة استقالة فياض، ليسارع الى الحديث عن موضوع المصالحة مجدداً ويربط موضوع تأليف حكومة جديدة تخلف حكومة فياض بموضوع تقدم المصالحة نفسه.

عودة مشعل
– لا شك في ان ثمة سبباً اخر يجعل من حدث استقالة فياض حدثاً «استثنائياً» في الساحة المشتبكة والمثقلة بالتعقيدات، وهو ان حركة «حماس» انجزت خلال الايام القليلة الماضية، اعادة ترتيب اوضاعها التنظيمية الداخلية، اذ اعادت كما هو معلوم، انتخاب احد قيادييها خالد مشعل رئيساً لمكتبها السياسي لولاية ثالثة على التوالي، وسمت القيادي اسماعيل هنية نائباً له، فرسمت معادلة توازن دقيقة بين قيادة الداخل وقيادة الخارج، منهية بذلك تجاذباً صامتاً ظل يعتمل لفترة طويلة في داخلها، خصوصاً بعدما اعلن مشعل عزمه على ترك منصبه عملاً بمبدأ تداول السلطة.
هذا الحدث وضع «حماس» امام مهمة اخرى هي مهمة اعطاء الاجابات الجازمة حيال موضوع المصالحة الفلسطينية وحيال انجازها، اذ لم يعد لديها عذر ولا سيما بعدما كانت حسمت الكثير من خياراتها وعلاقاتها السياسية بعدما صار طلاقها السياسي مع دمشق ونظامها بائناً، وصارت علاقاتها مع القاهرة وسواها اكثر وضوحاً وحسماً.
ومن البديهي ان ثمة اهمية اخرى لحدث استقالة فياض تتصل في من يخلف هذا الرجل الذي تولى رئاسة السلطة التنفيذية في السلطة الفلسطينية منذ نحو ثلاثة اعوام بدعم اميركي وغربي قوي، نظراً لثقتهما الكبرى بشخصه وبخبراته وقدراته على ادارة الشأن المالي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية المهيضة الجناح التي تقوم اصلاً على اقتصاد شبه ريعي او اقتصاد يعتمد بنسبة 80 بالمئة منه على المساعدات والهبات الخارجية، وصدرت اكثر من اشارة من واشنطن توحي بأن الادارة الاميركية التي مارست خلال الايام التي سبقت استقالة فياض، ضغوطاً جبارة وعلانية للحيلولة دون تنحيه عن منصبه، اذ اعلنت واشنطن انها تقبلت فكرة خروج «رجلها» فياض من الحكومة، وانها تأمل بناء ثقة مع من يخلفه، وقد اتى ذلك على لسان وزير الخارجية الاميركية جون كيري اذ قال: «ان هناك اكثر من شخص يمكن ان نتعامل معه»، وامل من «الرئيس الفلسطيني محمود عباس ان يجد الشخص المناسب للعمل معه في المرحلة الانتقالية معنا لبناء الثقة».

اي شخصية؟
واذا كان ذلك يعني بشكل او بآخر ان واشنطن تكيفت اخيراً وبعد جهد جهيد مع فكرة رحيل فياض، فإن السؤال المطروح بإلحاح في الوسط الفلسطيني هو: اي شخصية يمكن ان تخلف فياض، وبالتالي تكون موضع ثقة الادارة الاميركية وتحظى بموافقتها وبدعمها؟
ولا شك في ان الاجابة على هذا السؤال هي التي  تقض مضاجع اركان السلطة الفلسطينية التي تعرف ان مستوى هذه الثقة تتوقف عند مستقبل المساعدات المالية والاقتصادية للسلطة، لا سيما ان هذه المساعدات والهبات الغربية هي الشريان الحيوي لاقتصاد هذه السلطة.
والواضح ان الجانب الفلسطيني ادرك مبكراً هذه المسألة وسعى الى معالجة هذا الموضوع واعطاء تطمينات مسبقة للادارة الاميركية، اذ سارع مسؤول رفيع في منظمة التحرير الفلسطينية الى التأكيد صراحة على أن الرئيس الفلسطيني والفريق الذي يختاره هو من سيتولى متابعة تنفيذ المبادرة الاميركية في ما يتعلق بالموضوع الاقتصادي.
وذكرت القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي ان «استقالة فياض تتعلق بالسياسات الداخلية، وينبغي الا يكون لها تأثير على الجهود الغربية لدعم الاقتصاد الفلسطيني».
وبناء على هذا الموضوع البالغ الحساسية، فإن ثمة من يرى ان فترة البحث عن بديل ليخلف فياض قد تطول لاعتبارات عدة ابرزها:
– ان ثمة شخصيات عدة يمكن لها ان تحل في مكان فياض، ولكن المشكلة هي في ايجاد شخصية ترضى عنها واشنطن والعواصم الغربية من جهة، وتحظى بقبول حركة «حماس» ولا تشكل لها حساسية من جهة اخرى، في وقت واحد.
فإذا كان عباس قد فرض قبل اعوام فياض انفاذاً لرغبة اميركية – غربية، فإنه كان في ذلك الحين في حالة قطيعة وعداء مع حركة «حماس»، اما الان وهو في مرحلة اعادة بناء جسور العلاقة والثقة معها، فإنه لا يريد ان يتهم في يوم من الايام بأنه هو الذي عرقل مسار المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية المهمة لدى الشعب الفلسطيني، وانه لا ريب في انه يحتاج الى الوقوف على خاطر الحركة الاسلامية التي قويت شوكتها وصارت بعد «الربيع العربي» رقماً صعباً بعد نجاح «الاخوان المسلمين» في الصعود الى رأس هرم السلطة في مصر.
وقد زادت مهمة عباس صعوبة بعدما نجحت حركة «حماس» في عقد ربط محكم بين عملية استكمال خطوات المصالحة وشكل الحكومة الفلسطينية المقبلة.

اربعة اسماء
وحسب المعلومات المتوافرة، فإن عباس يراوح بين اربع قيادات، الخيار الاول اسم مستشاره الاقتصادي والذي يشغل ايضاً رئيس صندوق الاستثمار محمد مصطفى، والثاني اسم وزير الاقتصاد السابق في السلطة مازن سنقراط وهو شخص على صلة جيدة مع حركة «حماس». اما الثالث فهو اعادة تسمية فياض مجدداً لرئاسة الحكومة الفلسطينية الجديدة. اما الخيار الرابع، فهو ان يتولى هو شخصياً منصب رئاسة الحكومة الفلسطينية.
ولكل من هذه الخيارات الاربعة ايجابياتها وسلبياتها. فهو يحتاج الى شخصية ترضي الغرب لكي يضمن استمرار المساعدات، وشخصية تقبل بها «حماس» وباقي الفصائل الفلسطينية لتستمر عملية المصالحة، ولكي يحظى بثقة حركة «فتح» والشعب الفلسطيني. فهل ينجح بإيجاد الوصفة السحرية؟.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق