صحة

هل نحن «دوائياً» في أمان؟

اذا كان لكل بلد خصوصيته، فان لكلِ انسانٍ هويته ولكلِ نجاحٍ أساساته ولكلِ علاجٍ هيكليته ولكلِ دواءٍ قصته! ليست طبعاً فلسفة ولا «تفلسف» بل توغل استثنائي في قدراتِ البيئة والانسان على انتاجِ دواء وتحقيق شفاء! وتبقى فاعلية الدواء اذاً نسبية الى حين يقطع الدواء الدرب الصعب الذي يعطيه علمياً صفة: الدواء الناجع! وعلامات الاستفهام التي تُرافق مسار انتاج الدواء استعرضتها «أم أس دي» في هواجس تُسأل بينها: هل نحن دوائياً في أمان؟ هل معادلة التعاطي مع مفهوم الدواء على قاعدة: هذا رخيص الثمن وذاك باهظ السعر صحيحة؟ هل نحن قادرون على الاحاطة الشاملة بالصورة الكاملة لخريطة الكلفة الصحية؟ وماذا يضمن أن يكون الدواء الذي نلتهمه صبحاً ومساء لتحسين حياتنا هو الدواء الذي يفترض ألا نلتهم سواه؟

الإجابات تُليت في المغرب. المغرب منطقة غنية بالأعشاب الطبية. زيت الأرغان يُعبأ هناك في قناني، والزيت مليء بالفوائد. الفتيات تجذبهنّ عادة كل أنواع المراهم والأعشاب وحتى الأدوية القادرة على إحداث الفرق فيهن. والزيت الطبيعي المغربي المستخرج من شجرة الأرغان النادرة التي لا تولد وتعيش إلا هناك، في المغرب، تُشبّه بالذهب. العلاج إذاً، سواء أكان كيميائياً أم طبيعياً، ذهبي. وفي الحالات الصعبة يُصبح ماسياً.

بحثاً عن زيت الأرغان
الفتيات انتشرنّ في أسواق مراكش وكازابلانكا بحثاً عن زيت الأرغان الذي يسمعنّ عنه كثيراً، ودخلن حوانيت تدق حباته أمام العيون، تغليه، تُصفيه، تضعه في قناني فيصبح غب الطلب. مسار الأرغان يُشبه الى حد معين مسار الأدوية الكيميائية مع فارق أن الأول يُصنع عفوياً بأياد معجونة بالخبرات الطبيعية بينما الثاني يُبنى سياقه بالعلم والتجارب والتحاليل الطويلة. مساران اكتشفناهما هناك، في المغرب، التي قررت «أم أس دي» أن تكون انطلاقة شرارة أكاديميتها العلمية – الإعلامية منها.
نحن عدنا إذاً طلاباً أكاديميين. والدروس التي تلقيناها جميل أن نتشارك كلنا فيها. والدرس الأول، في أول صفٍ أكاديمي، قدمته معلمة وأستاذ: شيرين سابا وسامر العلي، هو مدير طبي في «أم أس دي» في الشرق الأوسط وهي سُلمت دفة إدارة الشركة في الشرق الأوسط…  فماذا في التفاصيل؟
البداية بدأت بسؤال على شكل مثال: هل دخلتم في المقلب الثاني من العمر؟ لا بدّ أن تكونوا إذاً تتذكرون ذاك الدواء المهدىء «ثاليدوميد» الذي كان يُعطى في ستينيات القرن الماضي الى النساء الحوامل وأدى الى تشوهات الأجنة والى ولادة أطفال بلا يدين وبلا قدمين ناهز عددهم 12 ألفاً في 46 دولة حول العالم! ويومها قامت القيامة وهبّ الإعلام، وطبيعي أن يفعل، وتقرر عام 1962 حظر استخدام هذا العقار بعد أن أيقن العلماء حتمية تسببه بظهور هذه التشوهات حتى ولو تعاطت الحامل هذا العقار مرة واحدة فقط!

صانعو الأدوية يُخطئون!
صانعو الأدوية إذاً يُخطئون! ومن تجاربهم، للأسف، يتعلمون! فالدواء الذي قد يفشل في مكان ما قد يعود ويمنح آمالاً في مكان آخر مختلف تماماً. صانعو الأدوية إذاً، نكرر، يتعلمون من تجاربهم. لهذا قررت منظمة الصحة العالمية «أف دي آي» عدم منح السماح لترويج أي عقار إلا بعد سنين طويلة من التجارب والأبحاث. وسنة بعد سنة تزيد الشروط. علاقة الطبيب بالمريض يفترض أيضاً أن تتغير. يجب أن تكون العلاقة أكثر متانة. وعلى الطبيب أن يُتابع كل التطورات التي قد تؤثر على مريض يُعالج بدواء ما.
في كل حال لا تكون المشكلة غالباً في الدواء وحده بل في طريقة استخدام هذا الدواء… والسؤال (أو الأسئلة): هل تأخذون أدويتكم بانتظام؟ شبابٌ؟ مرضى ضغط وكوليستيرول؟ هل تأخذون بصدق أدويتكم يومياً؟
ثمة مشكلة حقيقية في طريقة أخذ الدواء. وعدد من يأخذون العلاج بانتظام يتضاءل، علماً بأن الانتظام في هذا يفيد المنظومة الصحية كلها. والدواء يُعد بالنسبة الى الكثيرين بمثابة قصاص على قاعدة: تريد أن تُقاصصه فاعطهِ دواء طويل الأمد!! ثمة من يتدخل هنا ليسأل: صانعو الأدوية سفاحون! نعم، ان همهم الأهم هو كسب المال! شيرين سابا لا تنفي طبعاً أن المال مهم من أجل المتابعة في الأبحاث لكن ليس الهمّ الوحيد وتزيد: التوعية على أخذ الدواء لا تزيد الكلفة المادية بل تجعلها تنقص. فكلما صرفنا على الدواء أكثر نصرف على الاستشفاء والعمل الجراحي أقل. فلو أخذ والدي، تستطرد سابا، دواء السكري قبل عشرين عاماً كما كان يُفترض به أن يفعل، لما أنهكتنا كل تطورات السكري التي أنهكته من فشل كلوي وسواه. وثمة معادلة تقول: كلما صرفنا على الدواء دولاراً واحداً قللنا الكلفة الاستشفائية سبعة دولارات.

مخاض ولادة الدواء
صانعو الأدوية قد يعملون في آن على البحث والتنقيب والتشكيل على عشرة أدوية في آن واحد وقد ينجحون في واحد أو اثنين فقط. وقد تستغرق الأبحاث عشر سنوات وأكثر. والمهم في كل هذا ليس انتاج دواء تجاري آخر جديد بقدر الإسهام في نجاة مريض ينتظر قشة يعبر بها الى الصحة! في كل حال، لا تدخل مفاهيم صناعة الأدوية في مفكرة منظمة الصحة العالمية ذات تركيبة المفاهيم الإدارية في بلادنا، فهناك، عكس عندنا، بعض السرعة في استدراك كل الإشكاليات الروتينية في حال لاحظت، في مكان ما، أن دواء ما قد يُحدث فرقاً كبيراً في حياة مرضى يتنامى فيهم مرض عضال، وقد تُسارع، بعد أن تتأكد من نظافته، الى إطلاقه.
هذا في الحالات الاستثنائية وهي نادرة، أما في الحالات العامة فكلفة تصنيع الدواء ترتفع. وشركات التصنيع تتضاءل. والأرباح في القطاع تتقلص بسبب زيادة شروط الأبحاث المطلوبة في سياق مخاض ولادة الدواء الطويل.
يتدخل هنا الدكتور سامر العلي ليقول: سنصل في وقت قريب، خلال هذا القرن، الواحد والعشرين، الى مرحلة يُصبح فيها العلاج بحسب الجين الوراثي، الذي إن تغير تغيرت طبيعة العلاج. فلكلِ حمضٍ نووي خصائصه وأمراضه وعلاجاته. فحساسية الأنف في العالم العربي تختلف عنها في المجتمعات البعيدة وطبيعي أن يختلف العلاج.
  نعود لنسأل: ماذا عن كلفة الدواء؟ ماذا عن قدرة الحكومات النامية على السداد؟
  يتحدث العلي هنا عن علاقة ثلاثية تتكون بين الطبيب والمريض والدوائر الحكومية، وهي تشبه تلك الثلاثية التي يأتي فيها من يطلب أولاً ثم يتبعه من يأخذ ثم يصل من يدفع الفاتورة. ومن يدفع، أي الدوائر الحكومية، يُفترض أن يعي تماماً وجوب أن يختار من يختار الدواء الأنسب، وأن يصل الطلب الى كل من يحتاج. وأن كل دولار يُصرف على الدواء يعود بمكاسب صحية تعادل ثلاثة دولارات، هذا مادياً أما المكاسب المعنوية – النفسية فحدّث بلا حرج. ومن هذه المكاسب أن حالات الوفيات بين كبار السن، ممن تجاوزوا الخامسة والستين، تدنت بنسبة 25 في المئة. وطالت معدلات طول العمر نحو سنتين وثلاثة أشهر. وتدنت أيام المكوث في المستشفيات بمعدل 56 في المئة.

الكلام في المال وفي المعادلات الاقتصادية الربحية قد يُزعج من ينظرون الى القطاع الصحي إنسانياً، لكن المقارنة واجبة، لأنه حيث لا مال لا علاج! وفي هذا الإطار يعطي العلي مثالاً: إذا كان لدينا دواءان لهما الكفاءة والأمان عيناهما، الأول ثمنه 10 دولارات والآخر عشرون فماذا تختارون؟ كلنا سنختار طبعاً العقار الأول. لكن، لنتمكن من تحديد الكلفة علينا أن ننظر الى الصورة الكاملة، يعني أن نعرف كم نحتاج أن نأخذ من العقار الأول لنحصل على الحماية التي تؤمنها علبتان من العقار الثاني. علينا أن نحوط بالصورة الصحية الكاملة وألا نحكم من أول نظرة.
التوازن بين الكلفة والنوعية ضروري. التوازن في الحياة طبعاً ليس دائماً سهلاً لكن الإصرار على الاقتراب منه دائماً يفيد.
سؤال آخر يلوح في البال: إذا كانت المنظمات الصحية العالمية تُشدد على الأبحاث ما قبل إطلاق الدواء فماذا عنها بعد إطلاقه؟ وهل هناك ما يُجبر على إجراء دراسات جديدة على الدواء بعد طرحه؟ هل تتدخل الدوائر الحكومية من أجل حث شركات الأدوية على هذا الإجراء أم أن الشركات نفسها هي التي تعتمده؟
لا شيء يُجبر الشركة على استكمال الأبحاث الدورية بعد إطلاق العقار لكن، قد يتبين من أبحاث تجريها الشركات المنافسة، أن عقاراً ما يتسبب بضرر ما، فيكثر حوله الكلام وتبدأ الأخبار، ما يُجبر الشركة المنتجة على إجراء دراسات حديثة. وكلنا نعلم أن أدوية كثيرة تُسحب من التداول بعد سنين مديدة من التداوي بها. هناك دواء ضغط مثلاً كان يُعطى الى الأطفال الذين يعانون من مشاكل في الكلى تبين لاحقاً أنه يجعل تكوينهم يقترب من شكل الذئب. والأبحاث الجديدة التي أجريت عليه جعلت الأطباء يصفونه في حالات أخرى مختلفة تماماً مثل الصلع. دواء الأسبرين مثلاً لم يجر عليه، والكلام الى الدكتور العلي، أي بحث مباشر علني منذ العام 1950. لكن، كما سبق وقلنا، تتكون الدراسات الحديثة من المنافسين الذين يعمدون الى مقارنة عقاقيرهم الجديدة بما هو قديم ومتداول.
الدواء قصة لا تنتهي. افتحوا خزانة العقاقير وافتحوا آذانكم. تناولوا أدويتكم في مواعيدها وتناولوا موضوع الدواء مع طبيبكم. اسألوا كل ما يجول في بالكم واحرصوا، في كل هذا، على أن تلموا دائماً بالصورة (صورة الدواء) الكاملة!

نوال نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق