إيمان حمصي في آخر نوتة… وداعاً
بخفر الكبار أحنت رأسها لآلة القانون ولم ترفعه الا عندما أودعتها أمانة في يد من يستحقونها. لم يكن اسم إيمان حمصي مطبوعاً في ذاكرة جيل بكامله، لكن الكل يتذكر صورة تلك المرأة الجالسة أمام القانون وهي تعزف بأصابعها العشرة كاسرة قاعدة العزف بالإصبعين، ولم يكن احد ليدرك أن وراء صمت «سيدة القانون» تلك سمفونيات من الوجع تحاملت عليه وحاولت أن تقهره بصمت حتى أسلمت الروح في 17 نيسان (ابريل). وقبل أن تعبر «من غرفة إلى أخرى» كتبت رسالتها الوداعية مناشدة كل من احبها ورافقها الاستمرار في الضحك، و«اذكروني دائماً وكأنني حاضرة بينكم»، ومن قال ان الكبار ينتهون يوم يرحلون؟
الخبر صعق أصدقاءها ومحبيها وكل من حمل في مخزون الذاكرة مشاهد من سيدة القانون وهي تجلس على المسرح لتعزف بموسيقاها أروع المقطوعات وأصعبها. لكن للخبر مبتدأ. إنه «الخبيث» الذي تسلل إلى عظامها لينهش منها الحركة والعطاء اللامحدودين. لكن إيمان حمصي أصرت على أن تواجهه بإيمانها وإرادتها وحبها للحياة، ولم تتوقف عن المشاركة في الحفلات حتى في مراحل العلاج.
في آخر حفل مع غادة شبير… عزفت وابدعت
في كلمات وداعها تروي صديقتها غادة شبير: «إيمان حمصي من الأشخاص النادرين الذين كانوا يعملون في الفن وللفن فقط. وكنت أعشق العمل معها. وكلما أعطيتها عملاً أحسست أنه في أيد أمينة لأنها فنانة تعمل بشغف ولا توفر طاقة أو مجهوداً. وفي آخر حفلة قدمناها معاً في بيروت قبل أشهر، كانت إيمان تعاني آلاماً في ظهرها وكتفها، إلا أنها لم تتلكأ عن حضور أي تمرين، وكانت حاضرة في خمس عشرة بروفة من غير أن تظهر لأحد حقيقة وجعها. وفي يوم الحفلة أسرّت لي بأنها لا تعرف كيف ستقضي ساعة ونصف الساعة وهي جالسة على الكرسي، إلا أنها دخلت المسرح وعزفت وأبدعت».
رونزا: ابتدعت طريقة جديدة في العزف
من بدايات تخصصها اختارت إيمان حمصي فن القانون، فدرست وتخرجت من المعهد الموسيقي الوطني العالي في العام 1999. لكن شغفها بالموسيقى لم يحل دون تعميق ثقافتها بتخصص آخر، فاختارت الهندسة ونالت إجازة الديبلوم. لكن القانون كان محور حياتها فكان لها ما أرادت بفضل ثقافتها ورهافة حسها. ويروي مقربون منها أن القطع الموسيقية التي ألفتها وتفردت في عزفها على القانون، كسرت كل التقاليد المتعارف عليها لجهة اعتبار هذه الآلة مجرد «تتمة» في الفرقة الموسيقية. وتقول زميلتها الفنانة رونزا التي رافقتها في غالبية حفلاتها في لبنان والخارج أنها ابتدعت طريقة جديدة في العزف على القانون مستخدمة الأصابع العشرة، مع حفاظها على تقنية الأصبعين الخاصة بهذه الآلة الوترية، بهدف منح القانون قدرة كبيرة على التنويع الهارموني وعلى آداء دور موسيقي شامل. وكانت إيمان تستعد لتدوين هذه التجربة في كتاب علمي تشرحها فيه نظرياً، لكن الموت سبقها فلم تكمل عملها.
تتحدث رونزا عن الفنانة الراحلة فتقول: «المثالية والمثابرة في العمل من أبرز الصفات التي ميزت إيمان حمصي في حياتها الموسيقية: «كانت تتمتع بضمير مهني ومخلصة في علاقاتها الإجتماعية، كما تميزت بدقتها واحترامها لمهنتها». وتلفت رونزا الى «تفرد إيمان كسوليست في العزف على القانون في الحفلات الكبرى، كما رافقت الفنانين عبر القانون ضمن الأوركسترا وهذا ما لم نره سابقاً مع أي من عازفي القانون. ولم تتردد في مساعدة تلامذتها على بلوغ درجات القمة من دون أن تبخل عليهم بنوتة أو معلومة. وهذه المهنية التي ميزت إيمان تفسر سر تفوق تلامذتها الذين تخرجوا على أناملها، وهم جديرون اليوم في إكمال مسيرة العزف على القانون».
في حفلات فيروز
شاركت إيمان حمصي في العديد من المهرجانات العالمية في أوروبا، وآسيا، وإفريقيا كعازفة منفردة (مهرجان البستان العالمي للموسيقى في لبنان، والبحرين، وبيروت، ومعهد العالم العربي، وباريس)، وأيضاً بصفتها عضواً في أوركسترا المعهد الموسيقي الوطني العالي اللبناني. وتميزت إيمان في إطلالاتها مع المطربة فيروز التي دأبت على مرافقتها في معظم حفلاتها، بدءاً من العام 1990. وكانت السيدة فيروز تصر على مشاركة إيمان، إنطلاقاً من العلاقة الشخصية التي كانت تربطها بها وإعجابها بعزفها، وكانت ايمان تؤجل كل عمل أو موعد لترافقها. كذلك رافقت الفنان الكبير مارسيل خليفة في حفلاته الموسيقية والغنائية، وكان يوليها اهتماماً كبيراً ويفرد لها ولقانونها حيزاً خاصاً. لكن العلاقة التي كانت تربطها بالفنانة غادة شبير كانت حافزاً إضافياً لمرافقتها في كل حفلاتها المتميزة برقيها وجمالياتها، وبعض حفلات الموسيقي شربل روحانا. كما شاركت في لقاءات موسيقية عالمية عدة. وفي مرحلة المرض كانت تنهي إيمان علاجها وترافق الفنانين متمسكة بإيمانها وعشقها لآلة القانون.
معيكي: كانت أشبه بالفرعونة الواقفة على وادي الملوك
«تعرفت إلى إيمان حمصي في العام 1986 أثناء تقديمي برنامج «مسايا» على تلفزيون لبنان، وهو برنامج ثقافي أسبوعي يغطي أهم الأحداث الثقافية من أدب وفن ومسرح»، يومها، يتابع ميشال معيكي، «تعرفت إلى إيمان من خلال أشخاص مشتركين في المعهد الوطني للموسيقى ودعوتها إلى تسجيل مقطوعات موسيقية على آلة القانون فكانت تبث أثناء عرض الحلقة وترافق المشاهدين بنغماتها الخلاقة». ويضيف: «إن إيمان لم تكن مجرد عازفة قانون ومجددة ومحدثة في مجال العزف على هذه الآلة الجميلة، ففي شخصيتها سحر إنساني جعل منها إمرأة متميزة في حياتها كما بعد رحيلها».
هذه العلاقة سمحت لمعيكي التعرف أكثر إلى إيمان حمصي ويقول: «إيمان إنسانة رقيقة ونقية. كانت تنزوي وراء القانون وتحلم بصوت موسيقي عال. وهنا تكمن أهمية هذه المرأة والفنانة في آن معاً. فقد كانت تتميز بخفرها الجميل ولم تكن يوماً إدعائية ولا محكومة بالأضواء. أما في المجال الموسيقي فهي فنانة محترفة ولا تشبه سواها في العالم العربي على مستوى الإبداع ورهافة الحس والنقاء الجميل. إيمان كانت أشبه بالفرعونة الواقفة على وادي الملوك. وعندما يموت الملوك كانت تصل إليهم بأوتارها الجميلة». ويضيف معيكي: «عندما كانت تسمع إيمان هذا الكلام كانت تحمر خجلاً ويظهر الخفر على محياها».
رسالة وداع
كانت إيمان تتهيأ لإصدار أسطوانة جديدة بعد أسطوانتها السابقة «اللورد قانون»، تضم مقطوعات ومعزوفات، تتراوح بين التأليف والاستعادة. لكن الموت القاسي اختطفها بعد صراع مرير مع المرض الخبيث الذي نال من جسمها دون روحها النقية وابتسامتها وإرادتها وحبها للحياة وعائلتها المؤلفة من فتاتين(11 و6 أعوام).
وفي 17 نيسان (ابريل) عزفت إيمان آخر نوتة في كونشرتو القانون. وقبل رحيلها عن عمر 45 عاماً كتبت رسالة وداع لعائلتها بالفرنسية ومما ورد فيها: «ليس الموت بالشيء المهم، هو انتقال من غرفة إلى غرفة. فإياكم والبكاء. إضحكوا واستمروا في الضحك، واذكروني دائماً، وتحدثوا عني وكأنني حاضرة بينكم. وأحبوا الحياة»…
ج. ن