دولياتعالم

في وداع المرأة الحديدية…

 

مثيرة للجدل حتى قبرها!
«المرأة الحديدية» التي قادت بريطانيا 11 عاماً، والتي
تعد أكثر الشخصيات السياسية تأثيراً في بريطانيا بعد ونستون تشرشل، وأكثر السياسيين هيمنة وتأثيراً في القرن العشرين، تلك التي دخلت الاسطورة كأول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في بلادها وفي اوروبا، المتفاخرة
بـ “Britain is great again”، كان العالم بأسره في وداعها متابعاً مراسم جنازة مهيبة ما كانت وطنية، لكن ارادتها الحكومة البريطانية «استثنائية» تكريمية لاول امرأة تحكم بريطانيا، هي الأولى منذ 50 عاماً تحضرها الملكة البريطانية اليزابيث الثانية لوداع أحد سياسيي بريطانيا، شارك فيها نحو 2000 شخصية سياسية عالمية ومشاهير، واعتبرت أعظم جنازة لسياسي بريطاني منذ الجنازة الرسمية التي نظمت لتشرشل عام 1965. فالراحلة «العظيمة» ما كانت ترغب أصلاً في مراسم وطنية، ومع هذا انفقت الحكومة البريطانية ما قدر بـ 10 ملايين يورو على مراسم دفنها اي ما يعادل ما انفق في جنازة الملكة الام (9،5 مليون يورو) واللايدي دايانا (9 ملايين يورو) في مقابل  3،2 مليون يورو انفقت على مراسم تشييع تشرشل. والنتيجة، المرأة التي لطالما كانت مثار جدل في حياتها وطوال فترة حكمها فجرت مراسم تشييعها جدلاً جديداً حاداً،  وانقسم البريطانيون حول طبيعة مراسم دفن رئيسة وزراء بلادهم السابقة، مثلما انقسموا حول تقويم ارثها السياسي، وبينما كان جزء من البلاد يبكي «قائدة عظيمة» انقذت البلاد، نزل مئات الأشخاص إلى الشوارع احتفالاً بوفاتها وارتشفوا الشامبانيا، هاتفين مغنين:
”Ding Dong the witch is dead”… المرأة الحديدية الاكثر قوة في العالم «منقذة بريطانيا»، هي نفسها «الساحرة الشريرة» الاكثر كرهاً في المملكة المتحدة، ترحل عن 87 عاماً لتبقى اسطورة وتاريخاً  نستعرضه مراحل وصوراً…

في الثالث عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1925، رأت مارغريت هيلدا روبرتس النور في منزل يقع فوق محل بقالة يملكه والدها في قرية غرانثام بمقاطعة لينكونشير الانكليزية. جدها من ناحية والدها ذو أصول ويلزية، وكان اسكافياً، أما جدها الثاني فكان من أصول إيرلندية ويعمل في سكك الحديد، وورثت عنهما موهبتين: النقاش والصدام. اليوم، يشغل منزلها السابق عيادة لتقويم العمود الفقري والعلاج الهولستي. كل ما يذكّرنا بتاتشر هناك هو لوحة على الجدار تذكر أن هذا المكان شهد ولادة «المحترمة مارغريت».

 

تزوجت مارغريت تاتشر من السير دينيس تاتشر عام 1951، وهو رجل أعمال مُطّلق، وظلت معه حتى وفاته عام 2003، وبدأت دراساتها وتحضيراتها لإمتحان المحاماة في المحاكم العليا، وبالفعل نجحت في عام 1953، وفي العام نفسه أنجبت توأميها مارك وكارول. انتخبت كنائبة عن منطقة فينشلي عام 1959.

بعد فوز حزب المحافظين بزعامة إدوارد هيث بانتخابات العام 1970، تم اختيار مارغريت تاتشر وزيرة للتربية لغاية العام 1974.

كان عام 1975 مفصلياً في حياة تاتشر حيث هزمت هيث في التنافس على زعامة حزب المحافظين  واختيرت أول رئيسة للحزب المحافظ في التاريخ البريطاني، ولم تمض سوى أربع سنوات حتى تولت رئاسة الوزراء.

عام 1979 دخلت تاتشر الى10 داونينغ ستريت رئيسة للوزراء، وتربعت على منصب رئاسة وزراء المملكة المتحدة من عام 1979 حتى عام 1990، لتكون المرأة الوحيدة التي تتولى هذا المنصب بتاريخ بريطانيا حتى اليوم، وكانت رئيس الوزراء الوحيد الذي فاز بمنصب الرئاسة لثلاث مرات على التوالي خلال القرن العشرين، واهتمت في فترة رئاستها بإحداث إصلاحات في النظام المالي للدولة، إذ عملت على تقليص دور الدولة ودعم السوق الحرة في البلاد، فخصخصت كل شيء وخفضت الضرائب والنفقات العامة وهاجمت النقابات. ومع بدايات عام 1982، بدأ الاقتصاد البريطاني في التعافي.

لقبت بـ «المرأة الحديدية» بعد توليها رئاسة الوزراء لقوة شخصيتها على الصعيدين الشخصي والعملي ولصرامتها وجديتها المفرطة. وتعود تسمية تاتشر بالمرأة الحديدية تحديداً الى الصحافة السوفياتية بعد خطابها الشهير في العام 1976، حيث انتقدت الشيوعية قائلةً: «لم يعد الروس يقودون العالم».
 من الصور الراسخة في  الذهن عن فترة توليها رئاسة وزراء بريطانيا ركوبها دبابة مرتدية وشاحاً أبيض.

لم يخف خصومها إعجابهم بها، وهو ما شجعها لاحقاً على كبح جماح سلطة الاتحادات والنقابات، وعزز من سمعتها «الحديدية» قرارها بالتدخل العسكري ضد الأرجنتين في جزر الفوكلاند حيث قادت بلادها ضد الأرجنتين عام 1982 في حرب جزر فوكلاند الخاضعة للإدارة البريطانية والواقعة في جنوب المحيط الأطلسي وأعادتها إلى التاج البريطاني، مما عزز من موقع بريطانيا في العالم.

نجت تاتشر من محاولة اغتيال عام 1984 عندما فجر الجيش الجمهوري الايرلندي فندق غراند هوتل في مدينة برايتون، حيث كانت تقيم اثناء عقد المؤتمر السنوي لحزب المحافظين.

أيدت سياسات الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف معلنة امام زعماء العالم أنه رجل يمكن التعامل معه.

أيدت الرئيس جورج بوش الأب في حرب الخليج وشكل التحالف الأميركي – البريطاني آنذاك عاملاً مهماً في إخراج القوات العراقية من الكويت عقب احتلال قوات صدام حسين الكويت عام 1990، ويروى ان «المرأة الحديدية» اتصلت بالرئيس جورج بوش الأب، في وقت كان يبدي فيه تحفظاً بشأن استخدام القوة العسكرية ضد الجيش العراقي، وقالت له: «يا جورج، هذا الظرف لا يسمح بأن تكون رخواً». وعام 1991 منحها بوش وسام الحرية.

شهدت فترة رئاستها لمجلس الوزراء عدداً من أحداث الشغب واضراباً عمالياً، إذ اندلعت الاشتباكات بين قوات الشرطة والمحتجين من عمال المناجم عام 1984بعد أن رفضت حكومة تاتشر تعديل برامج مجلس الفحم الحجري القومي التي تعنى بإغلاق المناجم، إلا أن عمال المناجم تخلوا بعد عام كامل عن هذا الإضراب.

برزت لاحقاً بقيادتها حملة دبلوماسية نشطة أسست بها اتفاقاً استراتيجياً مع الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان، مؤذنة بتسطير نهاية الحرب الباردة حيث عدت المدمرة الأولى للاتحاد السوفياتي السابق، والمعجلة بانهيار المعسكر الشرقي. وكانت تاتشر على علاقة وطيدة مع الرئيس ريغان، والذي وصفته بـ «رفيقها الروحي» في السياسة. وعند وفاته، وصفته مارغريت بأنه كان أميركياً عظيماً انتصر في الحرب الباردة.

وصفها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران قائلاً: «لديها عيون كاليغولا وفم مارلين مونرو».

عام 2007 تم تكريم تاتشر ببناء تمثال لها في مجلس العموم البريطاني، في خطوة تعد الأولى من نوعها لرئيس وزراء وهو على قيد الحياة.

قامت تاتشر برسم سياسة لجمع الضرائب لم تلق إعجاباً من الشعب البريطاني الذي خرج إلى الشارع للاعتراض على قراراتها، وبدأت قوتها في قيادة الحكومة تتلاشى بعدما تسببت في انقاسامات داخل حزب المحافظين بشأن الاتحاد الأوروبي والضرائب، مما دفع الحزب المحافظ الى التخلي عن تاتشر خوفاً من أن يسقط بسببها، فأجبرت عام 1990 على الاستقالة من منصب رئاسة الوزراء بعد جدال مع حزبها، كما أزيحت من قيادته، وغادرت مقر رئاسة الوزراء بالدموع أمام وسائل الإعلام العالمية. ومن آخر ما قالته بعد أن أطاحها حزبها: «نغادر داونينغ ستريت للمرة الأخيرة بعد 11 عاماً ونصف العام كانت رائعة، ونحن سعداء جداً لأننا تركنا المملكة المتحدة في وضع جيد وأفضل بكثير مما كانت عليه عند وصولنا الى الحكم».

في حزيران (يونيو) 2003 تأثرت بشدة لوفاة زوجها دينيس كما اثرت فيها لاحقاً المشاكل القضائية لابنها مارك.

تخلت عن عضويتها في مجلس العموم عام 1992 واندرج اسمها على لائحة أعضاء الشرف للعائلة المالكة البريطانية، ومنحت لقب «بارونة كيستيفين» بمقاطعة لينكونشاير، الأمر الذي منحها عضوية في مجلس اللوردات.

اصيبت تاتشر بعدد من السكتات الدماغية غير الخطيرة، أثرت على ذاكرتها، ولكن هذا لم يمنعها من الظهور في المناسبات العامة، وإن كان ذلك بشكل محدود. وفي العام 2002 تقاعدت من الخدمة في الحياة العامة. وأكدت ابنة تاتشر، كارول، لاحقاً إصابة والدتها بالخرف المزمن (الزهايمر)، الذي شخصت إصابتها به منذ عام 2000. إثر ذلك انطوت المرأة الحديدية وانزوت في حي بلغرافيا بلندن لكتابة مذكراتها.

في كانون الاول (ديسمبر) 2005 بعد اقل من شهرين من إحيائها عيد ميلادها الثمانين في فندق بلندن، بحضور الملكة إليزابيث الثانية، أدخلت المستشفى بسبب إصابتها بمرض الخرف وأصبحت تنسى حتى أن زوجها توفي، وهو ما أدى بها إلى الانزواء بعيداً عن الأضواء وبدأت تصارع في السنوات الأخيرة المرض وباتت عاجزة عن تحريك فنجان شاي، إذ لم تشارك في الاحتفال الذي أقامه ديفيد كاميرون في عيد ميلادها الـ 85 في 2010 ولا في احتفالات يوبيل الملكة في 2012 ولا في الألعاب الاولمبية التي شهدتها لندن. وأودعت المستشفى أثناء احتفالات نهاية العام 2012 حيث خضعت لعملية لإزالة ورم في المثانة وبقيت في فترة نقاهة منذ تلك الايام.

مراسم دفن «المرأة الحديدية» هي الأولى منذ 50 عاماً التي تحضرها الملكة البريطانية اليزابيت الثانية لوداع أحد سياسيي بريطانيا، حيث كانت آخر مراسم دفن تحضرها الملكة بعد وفاة رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل في عام 1965، مع الاشارة الى ان علاقاتها مع تاتشر كانت دائماً مضطربة.

 

 

ماغي … الزوجة المطيعة
المرأة الحديدية التي وصلت الى حيث لم تصل اليه اي امرأة في القرن العشرين، ما كانت هي نفسها تحلم او تتوقع وصولها الى حيث وصلت، «لن تصل امرأة الى رئاسة الوزراء أو تتولى وزارة الخارجية في عصري – لن يصلن الى المناصب العليا. على أي حال لا أحب ان اكون رئيسة وزراء» هذا ما قالته عام 1969 عند خوضها الانتخابات لعضوية البرلمان عن حزب المحافظين وقبل عشرة أعوام من انتقالها إلى داونينغ ستريت رقم 10. وصلت تاتشر وصارت «المرأة الحديدية» المثيرة للجدل، ولكنها لم تنس ابداً انها امرأة ولم تتخل يوماً عن انوثتها، اذ حافظت على شكلها كامرأة، وتميزت اطلالاتها في كل المناسبات السياسية وغير السياسية بالاناقة الانكليزية الرفيعة واللافتة. لم تتخل تاتشر يوماً عن الفساتين والتايورات الانيقة المترافقة دائماً مع الاكسسوارات والقبعات والفولارات الملائمة، واللؤلؤ يزين أذنيها وعنقها، وما كان يمكن رؤية تاتشر من دون حقيبة يد، هي التي اشتهرت بالضرب على الطاولة بحقيبة يدها.
ويروى ان المرأة الصلبة تلك بعيداً عن «10 داونينغ ستريت» ومسؤولياتها السياسية كانت تتحول في منزلها الى امرأة اخرى، ربة منزل ذكية، ام وزوجة محبة ومطيعة، فيما يتربع زوجها دينيس تاتشر على منصبه «رجل البيت» المطلق، وهي صورة حظيت بتعاطف وتقدير مواطنيها وناخبيها من الذكور والإناث مرددة امامهم: «المرأة التي تعرف كيف تدير منزلها، تقترب من فهم المشاكل المرتبطة بقيادة البلاد». لكن في المقابل، لم تكن تاتشر امرأة «بيتوتية» مولعة باشغال البيت والطبخ، وعبرت بنفسها عن ذلك حين قالت في ايار (مايو) 1991، بعد ستة اشهر من ترك رئاسة الوزراء: «المنزل هو المكان الذي تذهب اليه عندما تفتقر الى شيء افضل لتقوم به».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق