صحة

مهلكم… انه داء «مينيير»!

بينما يتجاوز العلم حدود الفضاء والقمر والمريخ، يصدمنا الطب في وقوفه عاجزاً عند تخوم داء غريب بالاسم والفعل… داء مينيير! و«مينيير» هذا يضرب الأذن الداخلية محدثاً الدوار الهائل والطنين الهادر. والسبب؟ مجهول!! داء مينيير الذي يؤثر على التوازن والسمع من الألف الى… التجربة!

لم تكن قد سمعت به بعد، على الرغم من دنوها من سن السبعين! هي تعرف، او كانت تعرف، ان من يُصاب بالدوار يُعطى ماء الزهر مع ملعقة سكر. وكانت تعرف ان فقر الدم قد يتسبب بدوار وإغماء! كانت تقدم الى أولادها السوداء النيئة إذا شعروا بدوار… فهل هي بحاجة الى غذاء يقيها من فقر الدم؟ وهل الدوار هو الذي يتسبب، في حالتها، بالطنين؟

نوبات تتصاعد
النوبة الأولى أتتها بثوب نعاج، هادئة قليلاً لكن مزعجة، كانت في زيارة. استلقت على الأريكة وبدأ العرق يتصبب من جبينها. اشتد الطنين في أذنها اليسرى. شعرت بتقيؤ. تقيأت. ساعة تقريباً وارتاحت. ظنتها نوبة عسر هضم او لفحة هواء ولم تذهب في تحليلها الى ما هو أبعد.
بعد ثلاثة ايام تكررت النوبة وهذه المرة أشدّ. نُقلت الى المستشفى. قالوا لها انه التهاب ربما في الأذن!! يومان وخرجت. بعد اسبوع بالتمام والكمال تكررت معها النوبة أشد وأقسى فنُقلت مجدداً الى المستشفى وقيل لها: هذه المرة تأكدنا من شكل الأعراض ان الدوار سببه أذنك والعلاج حبة للدوار! وبعد عشرة أيام عادت وتكررت النوبة من جديد! ماذا يحصل معها؟ ما هذه الحياة؟ هل يجوز ان تبقى رهينة دوار وطنين لا تعرف لهما سبباً ولا علاجاً؟
في مستشفى آخر، وضع الطبيب المخضرم أصبعه على الجرح: انه داء مينيير لكن علينا ان نتأكد! مينيير؟ ماذا يعني؟ لم نسمع به في حياتنا! هل هو خطير؟ هل له علاج؟ أسئلة كثيرة كرجت في ذهن وعلى لسان العائلة والجواب الحاسم أتى: نجيب عن كل هذه الأسئلة بعد أن نجري اختبار للسمع وصورة أشعة الرنين المغناطيسي لنتأكد ان لا سبب آخر لهذا الدوار غير مينيير.

150 عاماً وما زال مجهولاً!
انه مينيير. انها متلازمة مينيير، كما سماها الطبيب، والاسم يعود الى الطبيب الفرنسي بروسبر مينيير الذي كان اول من نشر مقالاً عن هذا الداء عام 1861. نفهم من هذا ان اكثر من مئة وخمسين عاماً مرت على اكتشاف مينيير فلماذا استمر الداء إذاً مجهولاً؟ يبدو ان المرض، في حد ذاته، قليل الظهور، والأطباء الذين لا يمتلكون الخبرة الواسعة قد يعجزون عن تحديد ماهيته فيدرجونه ضمن أسماء وحالات أخرى! وقد يكون التأخر في تحديد الداء هو ان الطبيب ينتظر ان تجتمع غالبية أعراض مينيير ليقترب اكثر من الصورة وعندها يتمكن من القول: هذا مينيير!
ندخل الى اللب، الى مينيير، لنسأل: ما معنى ان يُصاب الإنسان بهذا الداء؟ وهل يُعقل ان يستمر هناك، في زماننا، مرض مجهول؟
طبيب أمراض الأنف والأذن والحنجرة هو من يُفترض به ان يعاين حالات مينيير. والسبب، مجهول! وما تمكن الطب من تحديده في هذا الموضوع هو أنه يصيب، بحسب طبيب امراض الأنف والأذن والحنجرة الدكتور نبيل مكرزل، الأذن الداخلية. والأذن، كما تعلمون، مشكلة من ثلاثة أقسام: خارجية ووسطى وداخلية. وتحدث المشكلة في الأذن الداخلية، حيث القوقعة، فتتجمع السوائل، لسبب ما، في قوقعة الأذن وتضغط على أعصاب التوازن حيث يوجد العصب السمعي وعصب التوازن وتولد ذبذبات غير طبيعية تؤدي الى حدوث النوبة.
ما السبب الذي يؤدي الى تجمع السوائل في القوقعة؟
الترجيحات تشير الى التهاب فيروسي يكون قد أصاب الأذن الداخلية في مرحلة ما وأدى الى عدم تصريف السوائل. ويُشبه طبيب هذه الحالة ببرميل مياه يفترض ان يستوعب ليتر مياه لكن المياه تظل تتراكم فيه بمعدل أعلى فيطوف ويتسبب بإشارات خاطئة بينها ان الجسم قد يتهاوى فيشعر المريض بدوار.

الاكثر اصابة
النوبات تتقطع. الداء يروح ويجيء. والتشخيص يتم حين تجتمع الأعراض التالية معاً: طنين وضوضاء في الأذن المصابة، فقدان جزئي او كلي للسمع في الأذن المصابة، غثيان وتقيؤ، دوار وعدم اتزان. والأسوأ ربما هو ان النوبة تحدث بلا سبب واضح وبلا إشارات دقيقة ما قد يتسبب بحوادث قد تؤدي اليها متلازمة مينيير، خصوصاً إذا كان المريض يقود سيارة او يستخدم آلات خطيرة او حتى إذا كان يمشي ما قد يجعله يقع ارضاً ويكسر حوضه او قدمه او ذراعه… وداء مينيير هذا، لسبب ما، يُصيب النساء أكثر من الرجال، ويصيب من هم بين عمر العشرين والأربعين أكثر من المسنين، لكن، نُذكر، ان هناك دائماً في كل شيء استثناءً، فلا شيء يمنع ان تُصاب ابنة السبعين بالداء كما ان يُصاب ابن الثلاثين بداء الألزهايمر! الاستثناء في الطب ايضاً جائز!

ارشادات
إذا كان السبب مجهولاً فهل العلاج تجريبي؟
يُراهن بعض الأطباء على ان تختفي الأعراض مع مرور الوقت كما أتت تدريجياً، لكنه رهان قد لا يكون صائباً أحياناً، فهناك حالات مزمنة تدوم سنوات، لهذا استقرّ رأي غالبية من يجرون أبحاثاً حول حالات مينيير على وجوب ابعاد المرضى عن كل المؤثرات التي تنبه الأعصاب وتحفظ السوائل في الجسم، لأن من شأن ارتفاع منسوب المياه في الجسم ارتفاعه في الأذن، والتوصيات تكون: الابتعاد كلياً عن الملح. الابتعاد عن الكافيين. الابتعاد عن التدخين. ممارسة الرياضة. التخفيف من تناول الأطعمة المنبهة. الانتظام في مواعيد الوجبات. الابتعاد عن الشوكولا والكحول. ويُعطى عادة المريض أدوية للدوار مدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وستة. وهذه كلها تبقى وقائية وغير علاجية. فلا علاج نهائياً. الأطباء عادة يراهنون في هكذا حالات على عامل الوقت، فالنوبات تخف وتختفي عند نحو ثمانين في المئة من المصابين باتباع هذه النصائح والإرشادات، أما في الحالات القصوى، الشديدة، التي لا تبدي أي تحسن وتظل خاضعة الى مشيئة النوبات فقد يُصار الى حقن الأذن المصابة، في طبقتها الوسطى، بمضاد حيوي يعبر منها الى الطبقة الداخلية ويسيطر على جهاز التوازن ويقضي على الإشارات الخاطئة التي تصل الى المخ من الأذن المصابة، وحينها تتولى الأذن الثانية مسؤولية اتزان الجسم. أما العمليات الجراحية فيتجنبها عادة الأطباء.
ماذا لو أصاب داء مينيير الأذنين معاً؟
يقتصر المرض
عادة، في بدايته، على أذن واحدة لكنه قد يُصيب في مرحلة ما الأذنين، وهذه الحالات قليلة جداً لكن في حال تمت تكون مشيئة السماء وليس على المريض إلا اتباع النصائح والإرشادات الوقائية كي يخفف من حدة النوبات التي قد تتكرر حين تشاء وبالحجم الذي تشاء!
سؤال قد يتبادر الى ذهن الكثيرين في هذه اللحظة: هل هناك آلية محددة للدوار؟
معلوم أن العينين هما اللتان ترسلان معلومات الى المخ حول وضعية الجسم، كما أن مراكز الإتزان في الأذن الداخلية هي التي تحدد اتجاهات حركة الرأس، أما وضع الجسم فتحدده مراكز الإحساس الطرفية. فالعين ترى ما يجري حولها وتنقل الصورة التي تراها الى المخ، أما المستقبلات الحسية في الجلد والمفاصل والعضلات فتعطي فكرة للمخ عن وضع الجسم، أما الأذن الداخلية المسؤولة عن السمع والاتزان، عبر القوقعة والعصب السمعي، فتحدد عملها ثلاث قنوات هلالية تحتوي على سائل لزج تسبح فيه حبيبات صغيرة وأهداب ترسل إشارات دائمة عن وضع الرأس والجسم على شكل نبضات كهربائية تصل الى عصب الإتزان. وأي خلل في هذه التركيبة يؤدي الى خلل في الإتزان.
بالأمس، قصدت المرأة، ابنة تجربة مينيير، طبيب أمراض العين والأذن والأنف في فحص روتيني فقال لها: امش الى الأمام وأنت مغمضة العينين وعودي الى الوراء، الى الأمام والى الوراء، الى الأمام ثم الى الوراء… وكانت تعود في شكل متعرج غير مستقيم الى الوراء حتى انها كادت تشكل استدارة كاملة! فقال لها الطبيب: يبدو أنك تستعدين الى نوبة مينيير! وسألها بحسم: هل تأكلين الملح؟ في اليوم التالي استفاقت على… نوبة! نوبة لم تكن شديدة جداً لكنها ذكرتها بأنها مريضة مينيير وهذا الداء الغريب، يُفترض التعايش معه على أمل أن يأتي يوم قريب يغادر فيه، لسبب ما، كما أتى!

نوال نصر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق