ذكرى

عبد اللطيف شرارة… أحب أدب السيرة وبرع فيه

تذكّر «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» قبل مدة الكاتب والمفكر الكبير عبد اللطيف شرارة (1919 – 1992) من خلال ندوة فكرية تمحورت حول صدور الطبعة العاشرة من كتابه «الحجّاج طاغية العرب». وهذه الندوة، لم تكن مجرد قراءة معاصرة في كتاب «الحجّاج» فحسب، بل انها ذكّرتنا بشخصية عبد اللطيف شرارة الفذة، صاحب المواقف الوطنية القومية، ومؤلف مجموعة كبيرة من المؤلفات الادبية والفكرية والتاريخية التي تجاوز عددها الأربعين، وسدّت الفراغ في المكتبة العربية.

كان عبد اللطيف شرارة في زمانه، حديث الاوساط الادبية، وقد عرفته معرفة جيّدة، وواكبت مسيرته على مدى سنوات طويلة، يوم كان احد اركان «دار الكتب الوطنية» الى جانب نخبة من اهل الادب والفكر… وكانت احلى الاوقات عندي، تلك التي امضيها في رحاب تلك المؤسسة الوطنية، او ان اقرأ ما يكتبه عبد اللطيف شرارة وغيره من اهل الادب والشعر والصحافة، في ذلك الزمن الجميل المثقل بالعطاء المضيء.

عربي يكتب عن انكليزي
قبل ان التقي به للمرة الاولى، في «دار الكتب الوطنية» سنة 1961، حيث كان يعمل كرئيس للقسم الفني والتنسيق في الدار – وهو المركز نفسه الذي كان يشغله في الماضي الرئيس الاسبق كميل شمعون قبل ان يتعاطى السياسة – كنت قرأت كتابه الرائع «برنارد شو… العقل الساخر» الذي يندرج في خانة «أدب السيرة»، حيث استطاع ان يقدم للقارىء صورة دقيقة وشاملة وطريفة لذلك العبقري الايرلندي العالمي الساخر جورج برنارد شو.
وخلال لقائي الاول به، ذكّرته بهذا الكتاب، واعربت له عن اعجابي به. وهنا اخبرني عبد اللطيف شرارة، ان هناك من يفكّر في ترجمة كتاب «برنارد شو» الى اللغة الانكليزية. وعلّق على ذلك، والابتسامة على ثغره، بقوله: «كاتب عربي يكتب للانكليز عن كاتب انكليزي!».

فضل مارون عبود
وبعد حوالي 30 سنة، اي في سنة 1991، وهي اخر مرة رأيته فيها في منزله، قال لي في حوار مطول معه، نشرته في مجلة «الاسبوع العربي»: «المغفور له مارون عبود، كان له الفضل الاكبر في توجهي نحو التأليف في مجال السيرة، وهو الذي حدثني على وضع كتاب عن برنارد شو وكان يحبه كثيراً ويعجب به. وقد ألقى حديثاً في اذاعة الشرق الادنى – كانت هذه الاذاعة اولاً في يافا وانتقلت من بعد الى قبرص – عن كتابي «الحجّاج» وقال فيه: «كان الاستاذ شرارة حجاجاً على الحجاج في كتابه عنه».
يومها قال لي: «انا اعرف الصديق اسكندر منذ ما يناهز الثلاثين سنة. وكانت لنا جولات في مختلف مجالات الثقافة، منذ كنّا في «دار الكتب». ومنذ ذلك الزمن، ونحن نعمل في اطلاع الناس، في الديار العربية، على ما يصدر عن الشعراء من قصائد، وعن النقاد من توجيهات».

اكبر من العَروض
في ذلك اللقاء الاول، في مكتبه الهادىء، في «دار الكتب الوطنية» الواقعة الى جانب البرلمان، في ساحة النجمة، تحدثنا كثيراً… وكانت البداية عن كتابه الجديد الصادر اخيراً عن الاخطل الصغير، وهو دراسة تحليلية لشاعرية الاخطل من زاويتها الوجدانية الغرامية، والوطنية القومية، وعرض لأهم التجارب التي مرّ بها بشارة الخوري الشاعر منذ اعلان الدستور العثماني سنة 1908 حتى المهرجان الذي اقيم له مؤخراً في اليونسكو.
ومن ثم، انتقلنا الى كتابه «ابو العتاهية» الذي كان سيصدر قريباً. واخذ يحدثني عن هذا الشاعر الكبير، قائلاً: «ان أبا العتاهية هو شاعر الزهد والحب الخائب… وهو الذي تجاوز اوزان الخليل واخترع بحوراً جديدة، وحين سئل عن مخالفته للعَروض، قال: «أنا اكبر من العَروض»! فكان بذلك اول من عبّد الطريق للموشحات الاندلسية، وبالتالي للشعر الحديث في الشكل وان تجاوزه في المضمون».

تلفيقات السلطة العباسية
وتابع عبد اللطيف شرارة قائلاً: «هذا من جهة، ومن جهة ثانية فان أبا العتاهية – والعتاهية تعني هستيرياً – لم يكن كما وصفوه معتوهاً، اي مهستراً، وانما هو الموقف السياسي الذي اتخذه من السلطة العباسية – آنذاك – والذي يتسم بالمعارضة، جعل الحكام والوزراء والولاة يتهمونه بالبله والتعته، فأطلق عليه هذا اللقب الشائن، بينما اسمه الحقيقي هو اسماعيل ابو اسحق من قبيلة عنزه… وكانت له ابنة طلب يدها ابن الخليفة جعفر المنصور فرفض ابو العتاهية ان يزوجه اياها قائلاً: «خطب ابنتي ليستعبدها وهو يعلم ان اباها بائع جرار، ولكني ازوجها من بائع جرار تكون حرّة معه…».
وهنا قطع عبد اللطيف شرارة حديثه ليقول لي: «فهل يمكن ان يكون هذا الانسان مجنوناً؟!».
قلت: ان في كلامه خلاصة الذكاءوالعبقرية!

عاشق جارية الامبراطورة
واسترسل عبد اللطيف شرارة في الحديث عن كتابه الجديد «ابو العتاهية» وهو من اوائل كتبه في فن السيرة، بعد «الحجّاج: طاغية العرب» سنة 1950، و«برنارد شو: العقل الساخر» سنة 1956، وقال: «القضية الكبرى التي يجهلها الناس من امر هذا الشاعر هي انه كان عاشقاً من طراز مجنون ليلى، وجميل بثينة، وعنترة بن شداد، ولكنه وقع في هوى جارية الخيزران، والخيزران امبراطورة وُلد لها خليفتان: الهادي، وهارون الرشيد، وما كان ابو العتاهية وهو الفاخوري اصلاً «بائع جرار» ليقوى على اجتياز الحواجز الهائلة التي تفصله عن جارية الامبراطورة، حتى اذا لمع اسمه كشاعر واتصل بالمهدي وهارون الرشيد، تمكن بعد اعوام مريرة من الحب ان يستفيد من صلته للخليفة ليحمله على التوسط مع «عتبة» وهي الجارية التي احبها».
واستطرد عبد اللطيف شرارة قائلاً: «ذهب الرشيد مع نفر من اخصائه وحاشيته الى منزل «عتبة» وطلب يدها، فلم تستجب ورفضت، وهي تعلم، ان هذا الحب يمتد به العمر الى عشرين سنة. ووقف الخليفة – وكلنا نعلم جلالة قدره في ذلك العصر – مشدوهاً حيال هذا الموقف الذي وقفته جاريته… وكان زهد ابي العتاهية ويأسه من الدنيا نتيجة هذه التجربة الغرامية الفريدة من نوعها في تاريخ الادب العالمي».
تلك هي الاضواء التي يلقيها كتاب ابي العتاهية الذي صدر في السنة التالية للقائي معه، اي سنة 1962.

فن كتابة السيرة
وبالمناسبة، سألته لماذا كرّس معظم جهده لكتابة السيرة اكثر من الحقول الادبية الاخرى؟
فبادرني بالقول: «سؤالك لذيذ وقد جاء في محله… وجوابي هو كالآتي: اعتقد ان القارىء العربي في حاجة ماسة الى فهم الاشخاص، ولذلك صرفت معظم همي في التأليف الى كتابة السِيَر…».
واستفاض عبد اللطيف شرارة في الكلام حول هذا الفن الذي احبه وبرع فيه، مازجاً بين الفكر والتاريخ والسرد الجميل… مشيراً، الى ان «فن السيرة نوع أدبي جديد، اقتصر فيه العرب الاقدمون على سرد الحوادث التاريخية والقضايا البارزة دون التعرض للعوامل النفسية والظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تحوط ولا زالت تحوط بتكوين الشخصية الانسانية. وكتب السيرة عند العرب اكثر من ان تحصى، اذ كان لديهم علم خاص يسمونه علم الرجال، وهذا العلم هو الذي اعطانا المؤلفات التي تبحث في الطبقات، مثل طبقات الشعراء لابن سلام الجمعي، وطبقات المعتزلة، وطبقات النحاة، الخ… كما اعطانا كتاب «وفيات الاعيان»، و«انباء ابناء الزمان» لشمس الدين ابن خليفان، هذه السير تصلح اساساً لاعادة وضع التاريخ برمته والافتنان في كتابة السيرة، وقد تحدث ابو الفرج الاصفهاني في كتابه «الاغاني» عن نحو الف شخص بين شاعر وموسيقار «مغن» وشاعرة ومغنية، ويكفي ان ترجع الى «الاغاني» لترى اية مادة خصبة يمكنك ان تستقي منها لكتابة السِيَر».

تأثير اندريه موروا
وفي هذا الصدد قال لي: «الظاهر ان للكاتب الفرنسي اندريه موروا، الذي كتب حتى اليوم ما يقرب من خمسين سيرة لشتى رجال الادب والشعر والسياسة في اوروبا، تأثيراً عليّ في هذه المِنحَة، اذ كنت اطالع في مطلع حياتي الادبية مؤلفات موروا عن بيرون، وشيللي، واخيراً دزرائيلي، وجورج صاند، وفيكتور هوغو، وغيرهم…».

نصف قرن كتابة
وبعد، لقد واصل الكاتب والمفكر عبد اللطيف شرارة رحلته الادبية الزاخرة بالعطاء، قرابة النصف قرن… بدأها بنظم الشعر وكتابة القصة القصيرة، ومن ثم، بالدراسات النفسية، ولكنه لم يلبث ان اتجه صوب العمل الفكري الصرف، انطلاقاً من الدراسات القومية والتاريخية وصولاً الى الدراسات النقدية والجمالية. وكان تارة يلتفت صوب قضايا المشرق العربي وشخصياته، واحياناً صوب الخارج، حيث كتب سيرة جورج برنارد شو، بالاضافة الى كتاب «سنغور: شاعر افريقيا والزنوجة»، وهمه الوحيد من وراء ذلك كله، «التوعية العامة وتهيئة الفكر، لقبول المبادىء الانسانية…» وقد لقيت مؤلفاته المختلفة الاقبال والاعجاب في لبنان ودنيا العرب… اضافة الى الدور الكبير الذي قام به في «دار الكتب الوطنية» التي امضى فيها اكثر من 27 سنة، وكان النجم الساطع في هذه المؤسسة المهمة التي تناثرت اوراقها مع رياح الحرب العاتية!

اسكندر داغر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق