تحقيقرئيسي

… وخلق الله Cappella Sistina

… «وخلق الله كنيسة سيستين»، عنوان تصدر غلاف مجلة لو فيغارو الفرنسية في عدد خاص واكب احتفالات  الفاتيكان اواخر العام الفائت لمناسبة  مرور 500 عام على روائع الفنان الايطالي الشهير مايكل أنجلو التي تعلو قبة تلك الكنيسة، ومن زار كنيسة سيستين وانبهرت عيناه بسحر ما صنعته يدا خلق الله في ذاك المكان، سيردد بدوره: … وخلق الله كنيسة سيستين حقاً، وحقاً لا شيء كان ولا شيء سيكون بعد مثلها، ولا على مثالها… كنيسة سيستين اليوم ودخانها الابيض تحت اضواء انتخاب رأس الكنيسة الكاثوليكية الـ 266، وما كانت يوماً، ومنذ 500 عام، الا تحت الاضواء.

هي «سيستين شابيل» او  Cappella Sistina باللغة الايطالية ، قد تكون اليوم قبلة انظار العالم وكاثوليكييه تحديداً المنتظرة بتلهف كبير صعود الدخان الابيض من مدخنتها الشهيرة ومعه الخبر اليقين بأن «صار لنا بابا»، لكنها اولاً واساساً تحفة الفاتيكان المتوجة بروائع فناني عصر النهضة، والتي حولتها جداريات مايكل أنجلو، المسقوفة والمعلقة، إلى اسطورة فنية يؤمها عشاق الفن التشكيلي والباحثون عن أعمال عظماء عصر النهضة في القرن الـ ١٦، أمثال مايكل أنجلو، رافييل، دوناتيللو، ليوناردو دافنتشي، وبيرنيني وساندرو بوتيتشيلي.
اعمال وروائع تتمدد امام ناظريك على جداريات قاعة مستطيلة، شاهقة الارتفاع، مساحتها تفوق الـ ٣٥٠٠ متر مربع، حولت تلك الكنيسة الى اكثر مواقع الفاتيكان سحراً وجذباً للسياح، وآخر الارقام تحكي عن  25 ألف سائح يزورونها يومياً، ما يعني ان أكثر من 5 ملايين زائر يزحفون اليها سنوياً.

السجن الأجمل
هي وراء اسوار الفاتيكان، والفاتيكان ليس كاتدرائية القديس بطرس وحسب كما يعتقد البعض، فهو يضم كنائس ومواقع ومتاحف لا يتردد خبراء سياحيون في اعتبارها اكثر قيمة فنية ومعمارية وتاريخية، وايضاً اكثر متعة وجذباً للسياح، لكن ابرزها واكثرها اهمية وشهرة وجذباً: كنيسة سيستين بحد ذاتها، حيث صارت المعادلة ثابتة: لا يمكن لسائح زيارة روما ولا يزور الكولوسيوم  او نافورة فيردي وايضاً كنيسة سيستين، فتلك الكنيسة التي تتحول الى «السجن الأجمل» مع كل انعقاد لمجمع الكرادلة لانتخاب بابا جديد للفاتيكان، حيث يقفل بابها الخشبي الكبير على 120 كاردينالاً ينعزلون عن العالم الخارجي الى حين صعود الدخان الابيض من مدخنتها، تكاد الصور المسربة من مجمع الكرادلة السري  داخلها والتي تكشف جمالات سقفها وجدرانها وما تضمنته من رسومات جابت شهرتها العالم كله، تكاد تسرق نجومية الحدث الكبير، وتفرض نفسها مجدداً الحدث ومكاناً للحدث، لتوقظ العالم في كل مرة وتذكّره، وهو حتماً لم ينس، ما تضمه من كنوز وجمالات وتاريخ فني عظيم عمره 500 عام.
ننبش التاريخ فيخبرنا بأن الكنيسة التي اشتهرت بمعمارها الفريد، والمستوحى من ذكر معبد سليمان في العهد القديم، استمدت اسمها نسبة الى البابا سيستوس الرابع، الذي قام بتجديد الكنيسة الكبرى Cappella Magna بين عامي 1477 و1480، لكن الحكاية بدأت حقاً في العام 1505 مع البابا يوليوس الثاني الذي دعا ذاك الرسام والنحات والشاعر الإيطالي، مايكل أنجلو من فلورنسا إلى روما مسلماً اياه مهمة بناء ضريح البابا.
وقبل ان ينتهي بناء الضريح ذاك (استغرق بناؤه 40 عاماً)،  امر البابا يوليوس الثاني مايكل انجلو بمهمة اخرى، وهي طلاء وزخرفة سقف كنيسة سيستين. تردد أنجلو في القيام بالعمل في بداية الأمر، ولكنه عاد ووافق على تنفيذ امر البابا على مضض. ويروى ان دوناتو برامنتي ورفائيل سانزيو هما من أقنع البابا باستخدام مايكل انجلو في حقل إبداعي ليس مألوفاً له، وكان الهدف من وارء ذلك إحراجه وإظهار فشله في هذه النقطة أمام البابا، وذلك حتى يستمر رافائيل، منافس انجلو الأول، أبرز رسّامي عصره وأول من له حظوة بينهم عند ذوي الشأن، وخصوصاً الفاتيكان. وكان المطلوب من مايكل انجلو رسم السيد المسيح وتلاميذه الإثني عشر على خلفية سماء براقة، لكنه رغب بالقيام بأمر أكثر تعقيداً، وهو رسم خلق الإنسان او آدم، هبوطه من الجنة، والخلاص الموعود.

خلق آدم
وضع أنجلو جلّ جهده في تنفيذ اللوحة وقد كتب الى أخيه في حينها رسالة يشرح له فيها معاناته وجهده المضني، فيقول: «اعمل بجهد جسدي مضن، وبعدم قناعة، ومن دون نقود…» ولوحته، رائعته تلك ضمت أكثر من 300 شخصية إلى جانب القديسين الاثني عشر، وكانت حلقاتها التسع المركزية مستوحاة من سفر التكوين. فمن خلال رسومه المتشابكة وزخارفه المعقدة استطاع تصوير قصة سفر التكوين وتم تقسيمها إلى 3 أقسام بدءاً من فصل الظلام عن النور وخلق الله للأرض، مروراً بخلق الله آدم وقصة آدم وحواء وهبوطهما من الجنة، وصولاً الى قصة  النبي نوح وعائلته. وعلى الزوايا وزع انجلو مشاهد عدة تتناول العديد من القصص الدينية.
والأهم في هذا العمل والاشهر هو صورة «خلق آدم» (بالإيطالية La creazione di Adamo) وهي جزء من فريسكو مصور تم رسمها العام 1511، وتجسد القصة الواردة في سفر التكوين حين قام «الله الآب بنفخ الحياة في آدم أول إنسان». اللوحة مقسمة إلى جزءين، الجزء الأيسر يمثل الأرض حيث يظهر آدم ممدداً باسترخاء، في حين يمثل الجزء الأيمن السماء حيث «يظهر الخالق» محاطاً بملائكة يمد بيده نحو يد آدم ليمنحه القوة والحياة فيما أصابعهما تكاد تتلامسان.
لوحة «خلق آدم» تعد حسب الترتيب اللوحة الرابعة في سقف كنيسة سيستين في الفاتيكان، والتي قام مايكل انجلو برسمها جميعاً خلال الفترة بين أعوام 1508-1512. وتعتبر اللوحة الأبرز بين اللوحات التسع التي غطت مساحة 12 ألف قدم مربع (1100 متر مربع) من سقف الكنيسة، وقيل ان مايكل آنجلو شعر بالاستياء من عمله بعد ذلك، معتقداً بأن ما فعله خدم البابا وحده، واعطاه ما كان يحتاجه بشدة من العظمة والجلال. وعلى الرغم من ذلك فإن ذلك السقف، يعتبر في يومنا هذا من أعظم إنجازات مايكل آنجلو، وإحدى قمم فن عصر النهضة.

يوم القيامة
لكن عمل مايكل انجلو في تلك الكنيسة لم يقتصر على زخرفة سقفها، اذ ومرة أخرى تم استدعاؤه للعمل في كنيسة سيستين سنة 1534، حيث كُلّف بمهمة زخرفة واجهتها الأمامية الشاهقة، وهكذا وعلى خلفية زرقاء سماوية، كانت لوحة «يوم القيامة» الشهيرة او ما يطلق عليها آخرون «الحساب الاخير» (The Last Jujement). فبين العامين 1536 و1541، قام مايكل انجلو بإنجاز رسومات تتحدث عن المجيء الثاني للسيد المسيح ونهاية العالم، ضمن مشهد صوره وهو يقوم بتوجيه ضربة للشيطان بينما يده اليسرى وبرقة تطلب الرحمة والمغفرة له، وبجانب السيد المسيح بدت امه السيدة العذراء وهي تنظر إلى الحشود الغفيرة المنبثقة من القبور، جميعهم من الكهنة والصالحين صاعدين نحو الجنة، صورهم انجلو عراة وبأعداد ضخمة. وفي الزاوية السفلى اليمنى من الحائط صوّر مايكل انجلو جهنم بشكل مختلف، فلم يُصور الشيطان أو العفاريت كما هو مألوف بل اقتبس بدلاً من ذلك مقتطفات من القصة الأسطورية: الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي المشهور دانتي أليغييري.
تتألف لوحة «يوم القيامة» من 229 لوحة وتعد اكبر جدارية في عصر النهضة تغطي مساحة قدرها ستة عشر متراً ارتفاعاً واثنا عشر متراً عرضاً، توزعت رسومها على ثلاثة أقسام وفق نظرية التثليث الافلاطوني، اعلاها مملكة السماء التي يتوسطها المسيح والى جواره العذراء ومن حوله كوكبة من الرسل والأنبياء يحوط بهم عدد من الشهداء والقديسات. وفي الوسط نرى جمعاً غفيراً من البشر، وقد انتهى حسابهم، قسم منهم يرتقي الى الجنة، والقسم الآخر يهبط الى النار، وثمة ملائكة ثلاثة، في يد واحد منهم كتاب يعرض الحسنات وفي يد الملائكة الآخرين كتاب السيئات،  وفي القسم السفلي يبدو السيد المسيح في جلال وعظمة وهو يرفع يده اليسرى في إشارة تبعث الرعب في قلوب العصاة الذين صب عليهم جام غضبه مشيراً بيده اليمنى الى الطائعين ليروا الجرح الدامي بجنبه.

حملة ورقة التين
استغرق العمل على هذه الجدارية  ست سنوات كاملة، وازيح الستار عنها عام 1541، أي بعد ثلاثين عاماً من إزاحة الستار عن جداريات السقف، وكان عمر انجلو  يومها 60 عاماً، وقد رسمها تنفيذاً لرغبة البابا بولس الثالث الذي يعتبر آخر الباباوات المنتمين الى الحركة الإنسانية المتحررة التي قادت عصر النهضة، والذي أبدى تعاطفه مع رجال النهضة الحديثة المولعين بإحياء الآداب والفنون الكلاسيكية وإشاعة روح الفردية. وكانت المفاجأة الصاعقة حين قام مايكل انجلو برفع الغطاء عنها، حيث تعرّض لموجة ضخمة من الانتقادات الرافضة والمنددة بعمله ذاك، اذ نظم الكاردينال «كارافا» حملة ضد انجلو بسبب الصور العارية في تلك اللوحة الضخمة وعُرفت الحملة بـ «حملة ورقة التين»، وتم اتهام مايكل انجلو بإهانة الكنيسة، وعندما طلب منه بعض رجال الكنيسة تغطية بعض المناطق العارية في أجساد القديسين، اجاب مايكل انجلو: «قولوا للبابا انها مسألة هينة، ولكن دعوه يصلح العالم، فالصور سرعان ما يتم إصلاحها». لكن المفاجأة المذهلة وغير المتوقعة  كانت حين قرر البابا إبقاء الصور كما هي وقال عبارته المشهورة: «محكمة الفاتيكان لا صلاحيات لها في منطقة الجحيم».
هذا الجدل جعل من لوحة «يوم قيامة» مايكل انجلو حديثاً على كل  شفة ولسان ما ساهم اكثر فاكثر في ذيوع شهرة تلك الجدارية التي تعد أحد أشهر أعمال انجلو خلال القرن السادس عشر.

تلوث وترميم
ويذكر ان جداريات كنيسة سيستين خضعت اكثر من مرة لحملات ترميم كبيرة على ايدي مجموعة من اشهر المرممين الإيطاليين، وذلك بعد ان تعمقت الشقوق على سطوحها، ويبدو ان التدفق الهائل للسياح الى الكنيسة التي تشهد يومياً طوابير بشرية تبدأ وتكاد لا تنتهي على امتداد السور الطويل الممتد من يمين أعمدة ساحة القديس بطرس وصولاً إلى الكنيسة، يقلق القيمين على الكنيسة  فتهافت الزوار يزيد من مستوى التلوث داخل الكنيسة ما يلحق الضرر باللوحات على وجه التحديد، ما دفع الخبراء الى التفكير جدياً في تحديد عدد زوار الكنيسة أو تقليص وقت الزيارة للفرد لفترة تتراوح بين 10 و25 دقيقة فقط، إلا أن مدير متحف الفاتيكان انتقد هذا الرأي بشدة، اذ وفق الخبراء والمسؤولين في الفاتيكان أن الكنيسة تقوم بدورين مهمين: العبادة والفن، وهو أمر تحرص الكنيسة الكاثوليكية على المحافظة عليه.
وكان مدير متاحف الفاتيكان قد اعلن مؤخراً انه سيتم استخدام تقنيات شفط الغبار، وتنظيف ملابس السائحين قبل الدخول إلى كنيسة سيستين، وحذر أنطونيو باولوتشي منذ سنوات من أن جزيئات الغبار وارتفاع مستويات درجات الحرارة نتيجة ارتفاع أعداد السائحين يمثلان تهديداً خطيراً للكنيسة، والتي تستقبل حوالي 200 ألف زائر يومياً.
وذكر باولوتشي لصحيفة «كورييري ديلا سيرا» التي تصدر يومياً في إيطاليا: «سنغطي مساحة 100 متر قبل المدخل بسجادة لتنظيف الأحذية، وسنثبت فتحات شفط على الجانبين لامتصاص الغبار من الملابس كما سنخفض درجات الحرارة للحد من حرارة الجسم وترطيبه». وأضاف: «الغبار والحرارة والرطوبة وثاني أكسيد الكربون هي اكبر أعداء اللوحات الزيتية».
واخيراً وليس آخراً، نعود الى الحدث على ارض كنيسة سيستين، فحتى كتابة هذه السطور ما كان الدخان الابيض، ولا حتى الاسود، تصاعد بعد من مدخنتها الشهيرة، الكرادلة معزولون، «مسجونون» وسط جنة جدارياتها، قريباً ويصبح لنا بابا، لكن دائماً وللأبد سيكون للعالم كنيسة سيستين، لكن فاتنا ان نسأل التاريخ عن عدد البابوات الذين اعلنهم  دخان مدخنة سيستين الابيض!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق