كتب

أدونيس نعمه… حكاية «العَلَم والأناشيد اللبنانية عبر التاريخ»

كم نحن بحاجة الى مثل هذا الكتاب – التحفة، الصادر عن «مؤسسة رعيدي»، لكل من المؤرخ النقيب جوزف نعمه والعميد الركن المهندس ادونيس نعمه. كم نحن بحاجة الى مثل هذا الكتاب التاريخي والتوثيقي الذي يتوغل في عمق تاريخنا الوطني. فبعد مرور اكثر من سبعة عقود على تحقيق الاستقلال والسيادة والحرية، ما زال  هناك من لا يعرف  تاريخ وطنه بشكل  دقيق  وكامل، ويجهل معنى رموزه وشعاراته الوطنية، ومثالاً على ذلك، هناك من يجهل اسم مؤلف النشيد الوطني واسم ملحّنه، وقصة هذا النشيد الرائع، وكذلك قصة العَلَم اللبناني الذي يرمز الى هذا الوطن الصغير بحجمه والكبير بتاريخه وطموح أبنائه! أجل، كم نحن بحاجة الى مثل هذا الكتاب الذي يروي لنا، ليس حكاية العَلَم والنشيد فحسب، بل حكاية لبنان الحرّ المستقل، عبر مجلد كبير وشامل وأنيق وفاخر، تارة من خلال الكلمة الدالة، وطوراً من خلال الصورة الواضحة والنادرة. وهذا المجلد، ان دلّ على شيء، فإنما يدل  على طول باع الوالد والابن معاً، في ميدان السيف  والقلم في آن.

كيف نختصر محتويات هذا الكتاب؟
العَلَم والنشيد الوطنيان هما شعار  البلاد وعنوانها الذي يدل عليها. العَلَم يختصر الوطن، والنشيد يُعلي الصوت.
وهذا الكتاب، عن العَلَم اللبناني، وعن الاناشيد المختلفة للفئات والاحزاب والعائلات اللبنانية قبل ان تتوحد في نشيد وطني جامع، وكذلك عن الآراء المتعددة والمتباينة في ما يختص بالعَلَم الوطني، والمداولات بين الاطراف اللبنانية حتى رسا الاتفاق على العَلَم اللبناني الحالي، والمباريات الشعرية التي اجريت في عهدَي الانتداب والاستقلال واسفرت عن اختيار النشيد الوطني الذي نهتف به اليوم، الى جانب كلمة عامة عن الاناشيد الوطنية للدول الاخرى.

أعلام ورايات بالجملة
إذاً، لقد عرف لبنان على مدى تاريخه الطويل، مختلف انواع الرايات والأعلام، والاناشيد المختلفة… ماذا اولاً، عن المراحل التاريخية التي مرّ فيها هذا العَلَم؟
أجل، كان للبنان منذ اقدم عصور تاريخه رايات وأعلام خاصة به، التف حولها اللبنانيون في ايام السلم والحروب.
فهناك العَلَم الفينيقي، وعَلَم المردة، وراية المماليك، وعلم العثمانيين، واعلام الامراء والمقدّمين والمشايخ، وعلم الشهابيين،  وعلم الجنبلاطيين… اكثر من ذلك، كان لكل مدينة وقرية وعائلة كبيرة، عَلَمها الخاص… وكان لكل راية او علم، شعاره والوانه وشكله.
وكانت الأرزة شعار المجموعات اللبنانية كافة، ذلك ان في جبل لبنان أشجار أرز يزيد عمرها على أربعة آلاف سنة…
وصولاً الى العَلَم اللبناني في عهد المتصرفية، في زمن رستم باشا – المتصرف  الثالث على جبل لبنان – الذي تعددت الآراء، وتشعّبت المقترحات، حوله، حيث تم اقتباس علم الدولة العثمانية…
والى العلم العربي الذي وضع فوق دار الحكومة في بيروت، الا ان هذا العلم لم يستمر مرفوعاً على السراي الا تسعة ايام فقط، ان قائد جيش الاحتلال الانكليزي امر بانزاله…
وليل العاشر من تشرين الاول (اكتوبر) 1918، على اثر انزال العلم العربي، تمكّن بعض الشبان من اعادة رفعه ليلاً على سارية السراي، فنزع ثانية، في اليوم التالي، بأمر القائد العام، لا عمر الداعوق كما كتب الدكتور عمر فرّوخ.

 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 


 

 

بعد سقوط الامبراطورية
ماذا حدث بعد ذلك؟

عقب سقوط الامبراطورية العثمانية، هبّ اللبنانيون ثائرين، فاتخذوا لهم علماً وطنياً يتألف من نسيج ابيض تتوسطه أرزة خضراء… ودام هذا العلم مرفوعاً في لبنان خلال الفترة الانتقالية قرابة سنتين، منذ ان اصبح لبنان تحت ادارة الحلفاء (الفرنسيين والانكليز) سنة 1918.
الى ان حلّت محله راية فرنسا المثلثة الالوان، مع اضافة الأرزة الدائمة الاخضرار، اليها، وجعلها في قلب الراية، واتخذها لبنان علماً له في زمن الانتداب، بعدما تبنّى الجنرال غورو (المندوب السامي في عهد الانتداب) هذا العلم في خطابه الذي ألقاه بمناسبة اعلان انشاء «دولة لبنان الكبير» في اول ايلول (سبتمبر) سنة 1920، كما نصّ عليه الدستور اللبناني الصادر في 22 ايار (مايو) 1926 وقد ظل علماً للبنان حتى سنة 1943. تاريخ  قيام الاستقلال ونهاية الانتداب الفرنسي.
من هنا، وبعد اخذٍ وردّ، تم اعلان علم الاستقلال اللبناني، الذي يتألف من ثلاثة خطوط افقية: أحمر، فأبيض، فأحمر، وفي قلب الخط الابيض أرزة خضراء. رفع للمرة الاولى في قرية بشامون في الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1943، «تاريخ استقلال لبنان».

 

 

النشيد الوطني
والآن، نصل  الى الاناشيد اللبنانية، وبالتالي، الى حكاية النشيد الوطني؟
ان فكرة النشيد الوطني الموحّد جاءت من الحاكم الفرنسي للبنان ليون كايلا في عهد الانتداب، ولكن المحاولة الاولى لوضعه، التي شُكلت من اجلها لجنة تحكيمية، لم تؤدّ الى نتيجة، مما دفع الحكومة اللبنانية، في ذلك العهد، الى تشكيل لجنة جديدة اختارت النشيد الحالي الذي نظمه الشاعر رشيد نخله.
لقد عرف  لبنان، بعدما اصبح «دولة لبنان الكبير»، اول نشيد وطني شبه رسمي نظمه الأب مارون غصن، ووضع لحنه الموسيقي الفنان بشارة فرزان، كما وضع له الأب بولس الاشقر لحناً آخر، وانشد في افتتاح واختتام الاحتفال التاريخي باعلان لبنان الكبير في اليوم الاول من شهر ايلول (سبتمبر) سنة 1920 في باحة قصر الصنوبر، مقرّ المفوضين الفرنسيين – يومئذٍ – الذي اصبح اليوم ملكاً للحكومة الفرنسية.
وحلّ محلّ هذا النشيد، سنة 1926، عهد الانتداب، النشيد الوطني الذي نظمه الشاعر الخالد رشيد نخله، ولحنه الموسيقار الكبير وديع صبرا، وتبنته الحكومة بعد مسابقة بين الشعراء… وأخذ لحنه يُردّد في المناسبات الرسمية والوطنية والاجتماعية في لبنان والمهجر
وأعيد النظر  فيه سنة 1943، في بداية الاستقلال، فوجد مستكملاً كل معاني الوطنية ولا ينطق الا بالكرامة والعزة، فبقي دون تعديل  او تبديل مثلما حلّ العلم.

 

 


ولادة النشيد
وكيف كانت ولادة النشيد الوطني الذي نظمه رشيد نخله، ومن ثم، ألم يكن للبنان في العصور الماضية أي نشيد؟
في العصور المتقدمة والمتأخرة لم يكن للبنان نشيد وطني مُوحّد، كما لم يكن له عَلَم رسمي موحد، بل أناشيد حزبية وأهازيج حماسية كان يتغنى بها المشايعون للاحزاب في المناسبات الوطنية والدينية والاجتماعية، وفي الحروب والتظاهرات العسكرية المختلفة.
اما ما هو النشيد الذي اولع به اللبنانيون القدامى وأنزلوه انغاماً في الابواق الصوتية، واعتمدوه نشيداً وطنياً يتغنّون به امام حكامهم وامرائهم، وفي ثكنات جنودهم، وفي ظل بيارقهم وراياتهم واعلامهم، وعند ذهابهم الى الحروب، ولدى  انتصاراتهم على اعدائهم؟ فبكل تأكيد لا يعرف احد منّا هذا النشيد بالضبط،
لا لفظاً ولا معنى، وعبثاً نبحث عنه في كتب التاريخ ومرويات الاقدمين. ولا عجب في ألاّ يكون لبلادنا – آنذاك – نشيد  قومي، فالدول الاوروبية الراسخة القدم في المدنية والحضارة لم تعرف  الاناشيد الوطنية الرسمية الا منذ اقل من قرنين تقريباً.
اما نشيد رشيد نخله فقد وقّع نسخته التي قدّمها للمباراة باسم «مَعْبَد»، وهو اسم لمغن عربي مشهور، فسئل الشيخ ابرهيم المنذر، الذي حمله الى اللجنة، عن اسم صاحبه الحقيقي، فقال انه رشيد نخله الاديب والسياسي المعروف. وقد اعتمدت الحكومة هذا النشيد، كنشيد وطني رسمي للبنان، بموجب مرسوم جمهوري، ومنحت ناظمه جائزة قدرها الف ليرة لبنانية وزّعها الرشيد على المؤسسات والجمعيات الخيرية.
وكما سبق وذكرنا، فاز بتلحينه الموسيقار وديع صبرا، ومعاونه الفنان الكبير نقولا دال.

غيض من فيض
وبعد، هذا غيض من فيض ما دار حول هذا الكتاب الجميل، الذي يذكّرنا بالعَلَم اللبناني وبالنشيد الوطني. هذا العَلَم الذي تنكرنا له في السنوات العجاف ، تماماً كما تنكرنا للنشيد. وصار لكل منّا عَلَمه ونشيده!

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق