الأسبوع الثقافيكتب

لذّة الكتابة في «اللذّة الهاربة» لاسكندر داغر

بين عامي 1972 و2019، سبع وأربعون سنة، أعود الساعة الى اوائلها، وأنا في التاسعة والسبعين من عمري، ومعي صديقي الصحافي اسكندر داغر الاديب الشاعر، وقد ألقى بين يديّ ديوانه الأوّل «اللذّة الهاربة» الصادر العام 1972، وفيه كما يقول صاحبه: «إنه ليس سوى عوامل نفسيّة خاصّة وصادقة، ومواقف عامة لبعض القضايا الانسانية». وقد كتبه بعفوية بعد طول معاناة، وليست اللذّة التي هي احد عناوين قصائده: «اللذّة الهاربة» في حدّ ذاتها ما هي سوى عنصر من العناصر العديدة التي تتألف منها، عادة، الاعمال الثقافية». والاعمال الثقافية تدخل في حيّز الفنون. فهل قصد صديقي فنّ الكتابة للتعبير عن اللذّة التي كانت – ولا تزال – تضجّ في نفسه، وهو كان احترف التحبير طبعاً وموهبة وكفاية! وكان صلاح لبكي قد قال:
«مررتِ دون الناس مجهولة /فتّانة ضاحكة لاهيةْ/ مَنْ أنتِ؟ لا أدري وما ضرّني/جهلي، وجهلي اللذّة الباقيةْ/أطيب ما في الشّعر أغنية / تبقى بلا وزنٍ ولا قافية /فإن تكونيها تمنّيت أن/ لا نتلاقى مرّة ثانية/».
وفي إحدى قصائده النثرية، يقول بودلير: «إنّ نشوة الفنّ أكثر قدرة من أي نشوة أخرى في حجب أهوال الهاوية. وإنّ العبقريّة قادرة على انْ تمثّل المهزلة الكوميديا على حافة القبر بصوت يمنعها من رؤية القبر، وهي الضائعة كما هي في فردوس، نافية فكرة القبر والتدمير معاً».
بهذا القول يخطو بودلير نحو جماليّة فنيّة، جماليّة التعبير عن فكر او هاجس او نزوع او حلم او موقف، او نحو هذه المفاهيم مجتمعة، نحو مقبرة منعزلة «هي قلب الشاعر» كما يقول احد دارسي بودلير. وبودلير نفسه في قصيدة «الجمال» (“La Beauté” وهي مؤنثة بالفرنسية..) في ديوانه «أزهار الشّر» يقول: «جميلة أنا، مثل حلم من حجر أيّها الفانون/… فأنا امتلك، لأفتن هؤلاء العشّاق الطيّعين/ مرايا صافية تجعل الاشياء كلّها أكثر جمالاً!/ هي عينايَ الواسعتان ذواتا التألقات الأبدية/».
ساحرتان هما عينا الجمال، وعينا الحبيبة، وساحر هو الحُبّ ومبهج، ومصدر لذّة وسعادة، مرايا ساحرة هو، ومرايا نضال، ومرايا الانسانية في جمالها وقبحها… واسكندر داغر مُنْشَدّ الى السحِّر والجمال والاحلام، على الرغم من واقعيته، وقد غنّى الحُبّ والثورة وقضايا الانسان، وحلم بـ «المدينة الفاضلة» ببلد تحكمه العافية ويسوده العدل، بلد النظام والجمال والترف والهدوء والشهوة، الذي هو بلد مرآة المرأة الحبيبة، والذي هو ايضاً مرآة عينيها!
يقول:«صار حُبّي لعينيك أكبر /وصارت المسافة بيني وبينكِ أصغر/ وصار حجم اللذّة أكبر/ صار الحُبّ أجمل/ والوجود افضل / والعمر أطول/».
لكنّ «الشّرق العنيد» يرفض حكاية الشاعر مع حبيبته، إذ يعلن ثورة على التقاليد والموروثات المهترئة، والعادات البالية، فهو يروح يفتش عن الحريّة، وكأنه يسير في بلاد عمياء، فمنتهى الحُبّ في الشرق إنجاب العديد من الأطفال ليبقى للعائلة حفيد.
هكذا يكتب اسكندر داغر في ديوانه «اللذّة الهاربة» ويكتب عن الحريّة والحقيقة، والى المعذّبين في الأرض والفقراء. وقد رافق حركات التحرّر العربيّ، وزمن الثورات في القارة السمراء. ففلسطين حاضرة في هذا الكتاب، وفجر العودة يبزغ من كلماته، والحرية تُكتب بفوهة بندقية، وقد «فَقَد ابن فلسطين كلّ شيء، إلاّ الايمان/ والايمان، أقوى أنواع الأسلحة/ من خيوطه، يصنع الشعب/ لاعدائه حبل المشنقة/». فشاعرنا يعرف لماذا يثور الشعب. «فالانسان يُحطّم، ولكنه لا يُقهر». وأمرّ ما في حياته «اللقمة السوداء!». ولكن يبقى له «الحُبّ والسنابل».
أمّا صورة القارة السمراء – وقد وُلد اسكندر في غينيا، وفيها عاش شطراً من حياته، من عمره، فقد عاين سلوك الاستعمار في دول تلك القارّة، وكيف عانت شعوبها العنصرية والاضطهاد والاحتكار، ثم حركات التحرر، فرأى كيف أنّ الشعوب المسالمة تكتب تاريخها بالدم. وكيف تنتقم افريقيا من الذين لطخوا شواطئها بالعار يوم كانت تجارة الرقيق رائجة. لكنّ ألحان «ارمسترونغ» الزنجية كانت اقوى من كلّ سلاح، وانّ قرع طبول «التام تام» كان أبعد من كلّ دويّ، فوقف هذا الشاعر، ندّاً لغير شاعر اسود في نضاله من اجل الحرية والاستقلال، فهو «مع حرية الاوطان».
ويكره اسكندر داغر الموت، يقول: «أنا أكره الموت، موت الانسان وموت الفصول / أنا أكره الموت…/ لأنه «على المدى البعيد/ هو المنتصر الوحيد/».
كتب اسكندر داغر المعاناة الانسانية بلغة سهلة نبيلة، واسلوب ممتع من دون غموض، بعيداً من لغة المتاحف والقيود القاسية، ولم يستسلم لأرستقراطية الكلمة، يقيناً منه انّ اللذّة كامنة في مجالات حياتية شتى. كتب بعمق الحقيقة الرأسمال الأوّل لأهل القلم. مؤمناً بدور الكلمة وفعلها في نهضات الأمم والشعوب، وسيرها نحو الافضل المشرق، فهو انساني ثائر، واديب متمرّد، على أنفة وكِبَر في هدوء التواضع، وعافية المحبة.
كتب اسكندر داغر كتابه «اللذّة الهاربة» وفي خاطره صُوَر «أرنست همنغواي» و«ڤان غوغ» و«مايا كوفسكي» – الشاعر الروسي السوڤياتي الى ذلك الزمن – الذين أنهوا حياتهم يوم فقدوا لذّة الكتابة ولذّة الحُبّ ولذّة تلاوة الشّعْر. فالمأساة الكبرى التي يعانيها الانسان بحسب اسكندر داغر هي مدى اللذّة القصير… ولكن هل اللذّة تعود في ما بعدُ؟ فيكون ندم؟
لقد أدرك صديقي أنّ الاحلام والآمال والآلام التي تتفجّر في أعماق الانسان تتجسّد في كلمات تحمل طعم اللذّة حيناً، وحيناً آخر طعم المرارة. هي الحياة، يا صديقي، هي الانسان، هي الوجود، هي قَدَر البشر، أو مشيئة اللّه! أو هل الانسان هو الذي يصنع قدره ومصيره؟ إنّه سؤال وجوديّ وإيمانيّ. والانسان يتفلسف لأنّه يحاول المعرفة. معرفة علّة وجوده وسرّها. ولأنّه يسأم ويملّ، وهو يعلم أنّّه الى فناء. وأنّ الموت مصيره، وماذا بعد هذا المصير؟ يتفلسف لأنّه يخاف من الموت. فيحاول معرفة حقيقة علاقته بالكون. مسألة القلق الوجوديّ بين الوجود والعدم… مسألة الخلود، والحياة بعد الموت. الايمان والدين والمادة. كلها مسائل تقلق هذا الانسان لينتهي الى مقولة: «أنا أفكّر، اذاً أنا موجود». ولكن ماذا بعد؟
هل تفلسف اسكندر داغر في كتابه «اللذّة الهاربة»؟ وهو الذي ترك للقارىء مهمّة إعطاء الهوّية لكتابه. نعم تفلسف اسكندر بعد ان كتب للحُبّ والثورة والحرّية والانسان. وسار على سجيّته في غير حين، وإنّه تمثّل مقولة شكسبير: «نكونُ أو لا نكونُ». في حيرة السؤال! فكان شاعراً في ما كتب في هذا الكتاب!

 

الدكتور منيف موسى
الميَّة وميَّة (صيدا – لبنان)
نوّار 2019

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق