صحة

أطفال «متلازمة داون» هدية السماء!

ليس هناك ما هو أطيب من قلب طفل وليس هناك أطيب من أطفالٍ ولدوا بكروموزوم إضافي فصنفناهم، للأسف، ناقصين! هناك، في مدينة الطفل في أكسوفيل، نحيا عيد الميلاد في شكلٍ مختلف، في بعدٍ مختلف، بإيمان أكبر بأن الله يهب والله يعطي والله يمنح سرّه في أضعف خلقه والله يستريح في قلوب الأطفال. هناك، حيث يسرح أطفال، يصنفون في اللغة الطبية العلمية أطفال متلازمة داون، نحيا جوهر العيد بفرحٍ أكبر… فمن هم أطفال متلازمة داون؟ ما هي أصلاً متلازمة داون؟ من تصيب؟ لماذا تصيب؟ وماذا يعني أن يولد الطفل بشذوذ صبغي؟

يمشون في خط مستقيم، بلا همس، بتهذيب فائق، الى صف الموسيقى. وهناك، خلال الدرس الموسيقي، يغنون بفرح هائل، يُصفقون ويتعلمون أصول: دو ري مي فا سو لا سي… رائعون، مميزون، طيبون وعيونهم تروي قصصاً من سيَر الحياة. حياتهم سيرة. ولادتهم سيرة. والأيادي البيضاء التي تحوطهم بحبٍ كبيرٍ كبير تُمسك برأسِ الخيط وتسير بهم، بخطى واثقة، في هذه الدنيا القاسية. هناك، في أكسوفيل، رأس الخيط ومن الرأس نبدأ…

بين اطفال أكسوفيل
ماري فهد، مديرة الشؤون التربوية في أكسوفيل واختصاصية في علم النفس العيادي والتربية المختصة، تجول بين الأطفال، يركضون نحوها، يقبلونها، تضحك لهم، تحتضنهم، تلاعبهم، مرددة: أشكر ربي على هذه النعمة التي منحني إياها بأن أكون بين هؤلاء الأطفال الملائكة. 35 عاماً هو عمر جمعية أكسوفيل التي أخذت على عاتقها، منذ ولدت، ضمان حياة الطفل الذي ولد بعطلٍ ما، في مكان ما، في صبغية ما، فجعلته مختلفاً قليلاً، في الشكل أو في المضمون، عن كل الآخرين لكنه، مثل كل الآخرين، يبقى بحاجة الى رعاية. 35 عاماً هو عمر أكسوفيل و19 عاماً هو عمر ماري فهد في أكسوفيل فماذا يُمكنها أن تخبرنا عن أطفال متلازمة داون؟

تستقبل الجمعية الأطفال من عمر خمس سنوات، أو أقل بقليل، بعد أن يكونوا قد تمكنوا من حيازة بعض الإستقلالية الذاتية والتعبير والتواصل مع الآخرين وتشرح فهد: التعبير ليس معناه بالضرورة النطق بل القدرة على التفاعل مع الآخر، وهو ما يفترض أن يتحقق مع طفل طبيعي في عمر العشرين شهراً. ومتلازمة داون لمن لا يعرف هي واحدة من أكثر من ثلاثة آلاف متلازمة تتسبب بتأخر عقلي، ولعلّ أهمها متلازمة داون، أو تريزومي 21، وهي نفسها التثلث الصبغي 21، وهناك في أكسوفيل طبيبان يتابعان الأطفال جسدياً هما اختصاصي دماغ الأطفال الدكتور هشام منصور واختصاصي الدم عند الأطفال الدكتور ايلي بشارة، كما هناك اختصاصيون يتابعون الناحيتين النفسية والفكرية لأطفال أكسوفيل. نعم هم حقاً أطفال أكسوفيل لأنها ما عادت مجرد جمعية أو مؤسسة أو حتى مدرسة بل تجاوزت كل هذا لتصبح عائلة كبيرة تضع يدها في يد أكثر من سبعين عائلة.

جريمة
بين أطفال أكسوفيل أكثر من سبب أدى الى اضطراب، إذا صحّ التعبير، في استيعابهم. فهناك أطفال لديهم 46 خلية، كما الأطفال الأسوياء، لكن ثمة  تشققات في كروموزوم أكس يتسبب بتأخر فكري وعقلي وهناك طبعاً اطفال متلازمة داون، وتشرح فهد: يتكون جسم الإنسان من ملايين الخلايا وتحوي كل خلية على 46 كروموزوماً، نصفها من الأم ونصفها من الأب، وتحدد هذه الموروثات الصفات الوراثية للإنسان من لون الجلد ولون الشعر وطول القامة ولون العينين… وتحوي خلايا الأطفال المصابين بمتلازمة داون فتحوي 47 كروموزوما بدل 46 بسبب عدم فك الإرتباط في المورث رقم 21 أثناء الإنقسام الإختزالي في البويضة أو الحيوان المنوي ما يتسبب بولادة طفل مصاب بمتلازمة داون.
درجات الإصابة ثلاث: ضعيفة ومتوسطة وكبيرة، ودرجة استيعاب الأطفال المصابين تتوقف طبعاً بحسب مدى الإصابة. وهناك أمر آخر يحدد مدى قدرة هؤلاء على التواصل مع المحيط واستيعابهم هو حجم تقبل أهلهم لهم! نعم قبول الآخر نصف الطريق والنصف الآخر يحدده التكوين، وفي هذا الإطار تشرح فهد: “اكتشاف الجنين المصاب يأتي عادة متأخراً، في الشهر الثالث أو الرابع، وكلنا نعرف أننا نصبح قادرين على سماع دقات القلب في الأسبوع الثالث، يعني التخلص من الجنين يُشبه من يضع سماعة ويغمض عينيه أو قنبلة ويهرب! التخلص من الجنين المصاب بمتلازمة داون معناه قتله. ليس سهلاً طبعاً على والدين، على إمرأة ورجل ينتظران مولوداً، أن يعلما أنه ليس بخير، أنه عليل، لا بل هو معوق، هذا أمر صعب جداً جداً لكن ما العمل؟ يجهضانه؟ يقتلانه؟ هو طفل بريء سيكون بالتأكيد سعيداً في هذه الدنيا لأنه لا يحمل هماً ولا يكبت يأساً وقلقاً، فلماذا إجهاضه؟ ثمة من سيقول لأنه لن يتمكن من تدبير نفسه حين يكبر! ومن قال ان الطفل الصحيح سيبقى سليماً حين يكبر؟ ومن قال اننا سنبقى اصحاء؟ كلنا معرضون لأن نصاب بداء او بإعاقة ما تدمر حياتنا فلماذا لا نتكل على الله ونقول شاء ما شاء ولتكن مشيئته؟!

ليس مرضاً وراثياً
سؤال يلحّ: ما هو السبب الذي يؤدي الى ولادة طفل مصاب بمتلازمة داون؟ هل هو سبب وراثي؟ جيني؟
لا، ليس مرضاً وراثياً ويُقال أنه كلما تقدم سن المرأة زاد احتمال أن تلد طفلاً مصاباً بمتلازمة داون. في كل حال ثمة سمات وملامح وجهية تميز الأطفال المصابين بينها: ارتخاء العضلات والمفاصل وضعفها، وصعوبات في النطق، وتسطح الجانب الخلفي للرأس، وقصر الرقبة فتكون سلسلة الظهر عادة مضغوطة وعلى مستوى الرقبة ما يتسبب احياناً بانحناءة الكتفين، كما ان حجم الأذنين يكون اصغر من حجم آذان الأسوياء، وعينا الطفل المصاب تكونان عادة مائلتين نحو الأعلى ويكون الأنف عريضاً ومسطحاً واللسان كبيراً ومشط القدم صغيراً ويكون في اليد، في كف اليد، خط عرضي وحيد. وقد تظهر عند هؤلاء عيوب في القلب وفي الجهاز الهضمي تتسبب بحالات إمساك شديد، كما ان الخلل في هورمونات النمو قد تعرضهم للإصابة بحالات السرطان أكثر من سواهم. في كل حال نقول قد وقد لا تعني ان هذا ما سيكون!
يفترض إذاً ملاحظة عمل الغدة الدرقية لدى الطفل المصاب بمتلازمة داون دورياً، وقياس سمعه ونظره وعمل أشعة لفقرات العنق وتخطيط القلب وفحص عمل الجهاز الهضمي.
في أكسوفيل يطبقون برنامجاً مربع الأهداف مع أطفال المؤسسة: فكري ونفسي واجتماعي وصحي جسدي… انهم، بكلام آخر، يبنون آفاق الأطفال الذين ولدوا بكروموزوم اضافي بدقة متناهية الى حين بلوغهم سن الثامنة عشرة وعندها يحولونهم الى مشغل الجمعية فيبدأون في صناعة القش والموزاييك والفخار واعمال الخياطة ويمرنونهم على التعامل النقدي واستخدام الوقت والساعة. ويتقاضى هؤلاء أجراً شهرياً متواضعاً طبعاً لكنه إذا قيس بقيمته المعنوية فلا يُقدر بحجم.
 لا علاج شافياً إذاً لهذه المتلازمة لكن عملية التأهيل والتعليم قد تساعد كثيراً، ولعلّ المسرح يساعدهم أيضاً كثيراً، واسألوا جورج خباز، الذي شاهدناه مع أحد الأطفال المصابين في فيلم «غدي»، عن مسرح أكسوفيل الذي يتابعه بنفسه، بحبٍ هائل، فيخبركم بقدرة هؤلاء الأطفال على إنجاز الكثير إذا أحيطوا برعاية وعناية وحب.

35 عاماً على اكسوفيل
35 عاماً على افتتاح مدينة الطفل أكسوفيل وها هو جوني، من الجيل الأول، قد بلغ سن الأربعين، وهو في حال صحية ممتازة ويعمل في مشغل الجمعية. وجوني يجعلنا نثق أكثر بإمكانية أن نحقق الفرق الكبير حين نعتني به وبمن هم مثله ممن يحدثون في حياتنا كل الفرق! في كل حال يفترض أن نتذكر كلنا ونحن نتعاطى مع الأطفال المصابين أنهم يملكون مثلنا وربما أكثر منا مشاعر وأحاسيس ويعبرون بفرح وبغضب وبألم وبحزن… علينا أن نتذكر دائماً أنهم بشر لكن بكروموزوم إضافي!
ليس سهلاً طبعاً، نكرر، ان يسمع ابوان ان مولودهما غير طبيعي! وليس سهلاً ابداً على ابوين ان يريا عيون الناس شاخصة باستغراب، بشفقة ربما، على وليدهما! وليس سهلاً أبداً أبداً على أم وأب أن يتقبلا أن طفلهما لن يكون كما كل الأطفال… والحل؟ يكفيكما ان تعرفا ان ملاكاً أتاكما من السماء ليحلّ في منزلكما على هيئة طفل لتنسيا كل شيء، كل كل شيء، ولكي تنظرا في عين صغيركما وتبتسما لهدية السماء! ففي بيتكما حلّت نعمة!

نوال نصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق