دولة التعطيل

كل شيء معطل ومدمر، «انه الانهيار التام» شغور في رئاسة الجمهورية، عجز في مجلس النواب، وشلل في مجلس الوزراء، عودة خجولة للقضاء بعد اعتكاف استمر اكثر من ستة اشهر، اضرابات بالجملة في الادارات العامة، والمدارس الرسمية وقد تلحق بها المدارس الخاصة، رغم الاعباء الباهظة التي فرضتها ادارات هذه المؤسسات التربوية على الاهالي، دون ان تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاقتصادي والمعيشي الكارثي، ودون اي مراعاة للقيم الدينية والتربوية والانسانية. واخيراً وليس اخراً اضراب في قطاع الاتصالات… باختصار كل شيء معطل حتى يكاد لبنان بفقد مقوماته كبلد وكدولة. هذا الوضع المهترىء هو من صنع منظومة تربعت على كراسي السلطة منذ سنوات، تعاقبت عليها وفق حصص تنم عن انانية قاتلة، وانكار لشعبها وللبلد ككل، تتفرج على الانهيار دون ان يرف لها جفن، وتسد اذانها عن بكاء الاطفال الذين حرمتهم من الحليب، فاستعاضت امهاتهم عنه بالماء والسكر. انها جريمة ما بعدها جريمة، ولا من يحاسب. بعدما فقد الشعب القدرة على المقاومة والمحاسبة.
الضربة القاضية جاءت هذه المرة من الامم المتحدة، التي اعلنت حرمان لبنان من حقه في التصويت، لان المنظومة افلست الدولة وافرغت الخزينة، ولم تعد تملك ما تسدد به مساهمة لبنان في موازنة المؤسسة الدولية. رحم الله الدكتور شارل مالك الذي تربع على رأس هذه المنظومة وكانت للبنان كلمة مسموعة ودور كبير في شرعة حقوق الانسان، فجاء هذا النبأ المخجل ليطلق رصاصة الرحمة. لبنان، احد مؤسسي الامم المتحدة، لا يحق له التصويت فيها. وهذا من عجائب المنظومة.
والتعطيل لم يكن اللبنانيون يسمعون به، يوم كان في السلطة رجال رجال، فكان انتخاب الرئيس يتم في الايام الاولى لبدء فترة الانتخاب، وقبل انتهاء ولاية الرئيس باسابيع عدة، واحياناً قبل اشهر. ولكن عندما سيطرت المنظومة على السلطة وتحكمت بكل مفاصل الدولة، استخدمته كسلاح فعال لفرض كلمتها ورأيها فتعطلت الديمقراطية التي عرف بها لبنان، واصبح رئيس الجمهورية يعين تعييناً لا انتخاباً. وتمدد التعطيل من استحقاق الى اخر، حتى ان تشكيل حكومة جديدة يخضع للتعطيل اشهراً طويلة، وفي بعض الاحيان كان يتجاوز السنة. كل ذلك كان يحصل اما لتوزير شخص لا يحق له، او من اجل الحصول على حصص وازمة تخول الذين يطالبونها فرض هيمنتهم على السلطة.
هذا الانهيار الذي اطاح الدولة افقد لبنان سمعته ودوره السياسي والدبلوماسي والثقافي والصحي وغيرها. فطالما كان الوسيط المحايد بين الاشقاء العرب، وحتى في بعض القضايا الدولية، وكان يلقّب بمنارة الشرق، فاذا بالمنظومة تزج به في غياهب العتمة. وكان جامعة الشرق فاذا بجامعته الوطنية التي خرجت اجيالاً من العباقرة الذين لمع اسمهم في مختلف دول العالم، ووصلوا الى اعلى المراكز والمراتب، هذه الجامعة اقفلت ابوابها بوجه طالبي العلم لتعذر تأمين الكهرباء والقرطاسية وادنى مقومات العيش بكرامة للاساتذة، فيما المنظومة وقفت تتفرج وكأن القضية لا تعنيها. فاولادها يتابعون تخصصهم في الخارج، ولا مشكلة لديها سواء تعلم الاخرون ام لا.
ولبنان كان يلقب بمستشفى الشرق يأتون اليه من مختلف اقطار الدنيا بعدما ذاعت شهرته في هذا الميدان وكان في مستشفياته ابرع الاطباء، فهجرتهم المنظومة ودفعتهم الى الخارج، بحثاً عن بلد يجدون فيه الحياة الكريمة التي فشلت المنظومة في تأمينها لهم. حتى هواء لبنان الصحي، هو محط انظار السياح، لوثوه بالنفايات وحمّلوه كل انواع البكتيريا والفيروسات. اما الشعب اللبناني الذي لمع اسمه في مختلف اصقاع الارض، في مجال الطب والهندسة والتكنولوجيا وغيرها، جوعوه وسرقوا امواله بالتعاون مع المصارف ودفعوه الى الفقر وحتى الى الجوع.
انه واقع يدمي القلوب، فمن اين نأتي بمنقذ يكون على مستوى المرحلة، فيعيد للبنان وهجه ودوره؟ انه حلم، ونادراً ما تتحقق الاحلام، خصوصاً اذا واجهته منظومة، كتلك المتحكمة بلبنان.
لبنان بلد التعطيل فلا امل بالخلاص الا بزوال المنظومة بانتخابات مبكرة تنتج مجلس نواب يتحمل المسؤولية. والا فنحن باقون في الهاوية.
«الاسبوع العربي»