سياسة لبنانية

الفدرالية في لبنان

لماذا تطرح في دوائر مسيحية وتقابل بتحفظ في أوساط إسلامية؟! هل طرحها عون للمناورة والضغط؟!

عاد حديث الفدرالية الى التداول في الفترة الأخيرة داخل المعسكر المسيحي ومن دون تنسيق بين مكوّناته… البداية كانت مع العماد ميشال عون الذي طرح الفكرة ولوّح بالفدرالية كورقة تفاوضية وسقف سياسي مرتفع قبل أن يتراجع عنها ويقول إن الفريق الآخر يدفعه بهذا الاتجاه… العماد عون يسأل «عما نلناه» كمسيحيين منذ عشرين عاماً حتى اليوم، مشدداً على أنه إذا لم نتمكن من تحصيل حقوقنا فلنلجأ الى نظام جديد… فإذا أرادوا الشراكة فليصلحوا الطائف وإذا كانوا لا يريدون الشراكة فلتكن إرادة ذاتية». ويقول عون: «نحن لم نقل أننا نريد الفدرالية وإنما هم من يدفعوننا باتجاهها ويفرضونها علينا. وعلى كل هذا الطرح يحتاج الى توافق كل اللبنانيين عليه».
بعد ذلك برز خطاب رئيس الكتائب الجديد سامي الجميل الذي يقول: «ما المانع من اعتماد الاتحادية التي تطبقها دول عديدة لإدارة تعدديتها، والاتحادية لا تعني التقسيم ولا تعني الفرز الطائفي وإنما تصون الأقليات وتحافظ على خصوصية كل منطقة.
النائب سليمان فرنجية رافض لفكرة الفدرالية من أساسها وأياً تكن التسمية المخففة لها: اتحادية أم لا مركزية، ومقتنع بأن مستقبل المسيحيين ومصلحتهم في لبنان الواحد الموحد بعمقه العربي. وإذ رفض طرح الفدرالية، لفت الى أنها «تأزيم للوضع وليست حلاً كما يحاول البعض توصيفها»، سائلاً «عن أي فدرالية نتكلم؟ فدرالية تبدأ من وادي شحرور وتنتهي بزغرتا؟ حينها ماذا أقول لابن عكار، لابن رميش ولابن زحلة وحتى لابن جزين؟ هل أقول له تهجّر أو أطالبه بإلغاء نفسه؟». وأعلن «أننا لسنا مع الفدرالية ولا مع إلغاء أحد، بل كنا ونبقى مع وحدة لبنان، ولا نعيش إلا بلبنان واحد. إذا كنا نحلم بالتقسيم فنحن نرتكب الخطأ مجدداً لأننا كمسيحيين لا يمكننا القول لشريكنا إننا نرفض العيش معك، وفي هذه الحال هل يقبل بقائد للجيش ماروني أو بحاكم مصرف لبنان؟ فالهدف إعادة حقوق المسيحيين إنما الوسيلة خاطئة».
أما القوات اللبنانية، فإنها تستغرب خصوصاً توقيت هذا الطرح في هذا الظرف غير المناسب لإعادة النظر في التركيبة اللبنانية، لأن ذلك يضعف المسيحيين ولا يقويهم. ولذلك فإن القوات اللبنانية مع تطبيق الطائف وتطويره قبل الحكم عليه بالفشل. وأما المطالبة بتغيير الطائف ونظام جديد فإن ذلك سيثير حفيظة الطوائف الأخرى وسيقودنا الى ما لا يمكن توقعه. وفي سياق عملية التطوير والتطبيق للطائف هناك موضوع اللامركزية الموسعة الإدارية والمالية التي وردت بنداً رئيسياً ولافتاً في ورقة النوايا المبرمة بين القوات والتيار الوطني الحر.
في الواقع، مشروع الفدرالية مطروح في دوائر وأوساط مسيحية سياسية وفكرية من بين مشاريع وخيارات أخرى. وتقول مصادر مواكبة ومطلعة على مجريات النقاشات وخلفيات هذا الطرح وظروفه: «حتى بعد التوصل الى اتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً وواقعاً سياسياً، ظل السؤال الهاجس المطروح عند المسيحيين هو أي لبنان نريد؟! ذلك أن التطبيق المجتزأ للطائف في ظل ميزان قوى داخلي غير متكافىء أيام الوصاية جعل المسيحيين يشكون خللاً في التوازن وإجحافاً في الحقوق وتراجعاً في الدور والحضور، والنفوذ داخل الدولة والحكم.
ولم يظهر المسيحيون يوماً رغبة أو إرادة سياسية في الخروج من الطائف وعليه، وإنما دعوا الى تطبيق كامل وصحيح للطائف بما يضمن ويحفظ الخصوصيات والتوازنات اللبنانية السياسية والطائفية، وطالبوا بتصحيح الوضع بدءا من إعادة النظر في صلاحيات رئاسة الجمهورية لجعها متناسبة مع مسؤولياته، وصولاً الى قانون الانتخابات الذي يؤمن المناصفة الفعلية.
يشكو المسيحيون من وضع غير طبيعي مستمر منذ 20 عاماً ولم يطرأ عليه تغيير في السنوات العشر الأخيرة، أي تاريخ الخروج السوري من لبنان، ذلك أن «النظام» الذي تم تركيبه في لبنان على يد السوريين استمر «شغالاً» ولم يلمس المسيحيون فارقا ملحوظا في وضعهم وطريقة التعاطي معهم، فتعاطت القيادات الإسلامية مع المكاسب والامتيازات التي حصلوا عليها أيام الوصاية على أنها دائمة لا ظرفية. كما ظهر ميل لدى هذه القوى الى الاستثمار في الخلافات المسيحية الى درجة أن القيادات والقوى المسيحية باتت مشرذمة وموزعة على المعسكرين السني والشيعي في إطار الفرز والاصطفاف بين فريقي 8 و 14 آذار اللذين تقودهما قوتان شيعية (حزب الله) وسنية (تيار المستقبل).
وتضيف هذه المصادر: «الى الخلل الحاصل في التوازن الداخلي، أضيف في السنوات الأخيرة سنوات ما سُمي «الربيع العربي» قلق جديد لدى المسيحيين في لبنان من جراء التغييرات الدراماتيكية الحاصلة في المنطقة والتي ألحقت أفدح الأضرار والخسائر بالوجود المسيحي في العراق وسوريا وأرخت بظلالها الكثيفة على لبنان، خصوصاً بعدما وصلت الحرب الى حدوده وبات هاجس الإرهاب مهيمناً على أجوائه… وما زاد في خطورة الأوضاع والتطورات أنها تنبىء بإعادة صياغة المنطقة العربية على أسس وأنظمة جديدة بعدما سقطت الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس – بيكو ونشأت كيانات طائفية ومذهبية وعرقية.
ومجمل هذه العوامل والمستجدات في الداخل والمحيط عززت القلق عند المسيحيين ودفعتهم الى البحث عن حلول وتسويات تضمن مصالحهم ودورهم. وتوصلوا الى أن من بين هذه الحلول والمشاريع المفضلة «مشروع الفدرالية» الذي يتناسب ليس فقط مع الواقع اللبناني التعددي وإنما أيضاً مع مسار المنطقة.
لم تكن المفاجأة في تلويح قوى مسيحية أساسية بـ «الفدرالية أو الاتحادية»، وإنما في التصدي الحاصل من جانب قوى متعددة على الساحة الإسلامية والتشكيك بدوافعه وأهدافه، من دون بذل أي جهد للوقوف على الظروف والدوافع التي أملت على المسيحيين الاندفاع في اتجاه هذا الطرح… وهذه قراءة سياسية تختصر نظرة شريحة واسعة عند المسلمين المتوجسين من طرح الفدرالية. تقول هذه القراءة:
لقد مرت على لبنان حرب أهلية ضروس استمرت خمسة عشر عاماً، وما زال البلد يحصد نتائجها حتى اليوم، وطرحت خلالها مشاريع تقسيمية تحت غطاء «الفدرلة»، وتبين أنها مشاريع غير قابلة للحياة، فعاد وتوحد البلد ولو «على زغل»، تحت راية اتفاق الطائف. كان يمكن للبنانيين البحث في هذا الموضوع لو توفرت للبنان ظروف مختلفة، أهمها المساحة الجغرافية الواسعة والتعدد العرقي وعجز الدولة المركزية عن احتواء أطرافه. أما أن يكون لبنان محكوماً بالطوائف ونظامها السياسي، فهذا يعني بلا تردد «فدرالية الطوائف»، فهل تخدم هذه الفدرالية المسيحيين خصوصاً، واللبنانيين عموماً؟ إن التمعن في التوزيع الطائفي في لبنان كفيل باستنتاج عواقب الفدرالية. فالمسيحيون يشكلون غالبية عظمى في منطقة جبل لبنان، خصوصاً المتن وكسرون وجبيل والبترون وزغرتا وبشري، لكنهم يتوزعون كأقليات في المناطق الأخرى، شمالاً وبقاعاً وجنوباً. فما هو مصير هؤلاء في «ولاية إسلامية» غير التهجير أو العيش على نظام شبيه بالذميّة؟ وهل يعتقد الحالمون بولاية مسيحية في لبنان أنها ستسلم أو تعقد صلحاً مع «دولة الخلافة الاسلامية» التي تطرق أبواب المنطقة؟ أم أنهم يتوهمون بأن الغرب سيحمي ويضمن سلامة «مونت كارلو» الجديدة على الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط؟
الأوساط المسيحية في تعليقها على هذا الموقف الرافض والقلق تعتبره منفعلاً ومبالغاً به وغير مبرر للأسباب الاتية:
1- الفدرالية معتمدة على نطاق واسع في 45 دولة حتى الآن. في دول أوروبية وغربية وحتى دول عربية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي النموذج الواضح والناجح للنظام الاتحادي الفدرالي…
2- عندما يتوجه لبنان صوب «اللامركزية الموسعة» لا يكون يمشي عكس التيار وإنما مع التيار الجارف في المنطقة المتجهة الى أنظمة فدرالية ولامركزية تختلف في التفاصيل والتطبيقات تبعاً لاختلاف المعطيات والوقائع في كل بلد. وهذا ما بدأ يرتسم على أرض الواقع في العراق وما بدأت ملامحه تظهر في سوريا واليمن وليبيا، وحيث تبرز الفدرالية كحل يراعي التنوّع ويحفظ الوحدة، وأما البديل عنها، حفروب طويلة ونزاعات لا تنتهي، أو تقسيم وقيام كيانات ودول جديدة كما حدث في السودان.
3- المجتمع اللبناني هو مجتمع تعددي يتكوّن من طوائف لها أوضاعها وخصوصياتها، والنظام اللبناني هو نظام طائفي في الممارسة والأعراف التي لها قوة الدستور والقوانين. وهذا النظام هو في الواقع وعلى مستوى قمة السلطة «فدرالية طوائف» يجب أن تستكمل باللامركزية الإدارية والمالية، ولا نقول «فدرالية مناطق» ولا نقول أيضاً «لامركزية سياسية»، لأن لبنان بمساحته الصغيرة وتداخل مكوّناته ليس مناسباً لهذا النوع، وإنما يجب البحث عن نظام لامركزي يناسبه واقعاً وحجما ومقوّمات…
4- اللامركزية الإدارية والمالية هي في أساس وصلب الإنماء المناطقي المتوازن الذي نص عليه اتفاق الطائف أيضاً، وهي السبيل للحد من هذا التفاوت بين ما تدفعه مناطق معينة وما تحصل عليه من الدولة، ولردم هذه الفجوة في العلاقة بين السلطة المركزية والسلطات المناطقية المحلية التي يجب أن تُعطى إدارة ذاتية.
5- الفدرالية أو الاتحادية هي الوجه الآخر للامركزية الموسعة ولا تتعارض مع اتفاق الطائف الذي نص صراحة عليها ولم تشق طريقها الى التنفيذ، ولو طُبقت لوفرت الكثير من المشاكل وبددت الكثير من الهواجس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق