اين اليوم من الامس؟ واين رجال لبنان الكبار؟
ثلاثة ايام صال خلالها النواب وجالوا في مناقشة الموازنة العامة، وهو حدث لم يعد مألوفاً لدى اللبنانيين، بعدما غاب عن اذهانهم على مدى اكثر من اثنتي عشرة سنة، كانت الحكومات خلالها تنفق بلا حساب، حتى بلغ الدين العام عتبة الثمانين مليار دولار. المداخلات النيابية لم يكن الهدف منها تصحيح او انتقاد او تأييد الموازنة، بقدر ما كانت بيانات انتخابية، استغلها النواب فرصة ليطلوا عبر شاشات التلفزة او الادلاء بـ «مآثرهم» و«انجازاتهم»، التي ضربت المواطنين وافقرتهم وحولت حياتهم الى شقاء وعوز، امطروهم بسلة ضرائب اجمع الخبراء الاقتصاديون على انتقادها. المهم ان المناقشات لم تتناول ارقام الموازنة لسنة انصرمت وشارفت على نهايتها، وما انفق قد انفق، وما هدر قد هدر، وما ذهب لتغطية فساد وصفقات وغير ذلك. بل ان المناقشات كان هدفها تلميع صورة مطلقيها التي اصبحت حالكة كسواد الليل، بالنسبة الى الاكثرية الساحقة من اللبنانيين.
كل ذلك والموازنة معرضة للطعن بعد اقرارها، لانها تتم دون انجاز قطع الحساب، وهذا مخالف للدستور. غير ان سياسيينا الكرام اصبح تجاوز الدستور عندهم كشرب الماء. فها هم يخرقونه، بعدم اجراء الانتخابات الفرعية في كسروان وطرابلس، دون ان يتعرضوا للمساءلة او للحساب، والامثال كثيرة والتي تدل على عدم احترام الدستور. وعلى كل حال الموازنة لم يقدم اي طعن بها حتى الساعة، انسجاماً مع تقاعس النواب عن القيام بواجبهم الرقابي.
وخلال الجلسة، فجر احد النواب قنبلة طاولت مصرف لبنان، الامر الذي استدعى تشكيل لجنة نيابية للتدقيق في حسابات المصرف، منذ عشرين عاماً الى اليوم، وهذا طلب جيد لان اللبنانيين باتوا تواقين لمعرفة اين تصرف اموالهم، وان كانوا يثقون بحاكم مصرف لبنان، ولكن كان الحري بالنواب ان يطالبوا بلجنة تحقيق، تدقق في حساباتهم وتصرفاتهم على مدى تسع سنوات وما قدموه للناخبين الذين اختاروهم ليدافعوا عنهم وعن حقوقهم المهدورة، فاذا بهم يزيدون حياتهم بلاء ومشقة. ولو فرضنا ان احدهم طالب بهذه اللجنة فممن ستتشكل؟ بالطبع ان المواطن اللبناني يرفض رفضاً قاطعاً ان تتشكل اللجنة من النواب، لانهم هم المتهمون، فكيف يمكن ان يحاسبوا انفسهم؟ اذاً تبقى المشكلة في اختيار اعضاء لجنة التحقيق، وهذا امر فيه الكثير من الصعوبة، الا بل انه شبه مستحيل. فالاحداث تبرهن يوماً بعد يوم ان كل من يعارض هذه الطبقة السياسية، خصوصاً عندما يصيب منها نقطة حساسة، تكشف المستور امام الرأي العام، فان مصيره سيكون الاقصاء والعزل، دون ان تكون له القدرة على الاعتراض. وقد سمعنا قبل ايام احد السياسين يقول ان الانظار متجهة الان الى مسؤولي ادارة المناقصات، لانهم لم يذعنوا في القبول بمناقصات رأوا فيها تجاوزاً على القانون وحقوق الخزينة. وقبل ذلك رأينا موظفين كباراً يخلعون من مناصبهم، فقط لانهم خالفوا الاوامر السياسية، وذنبهم انهم رأوا فيها خطأ يمس مصالح الناس، فمصالح السياسيين هي اهم بكثير من مصالح الناس والدولة والخزينة، ومن لا يريد ان يقر بهذا الواقع فليتحمل النتيجة.
لقد انصرف عدد من الخبراء الاقتصاديين بعد اقرار قانون الضرائب الظالمة الى تعداد الابواب، وهي تكاد لا تحصى، التي يمكن منها جني المال للخزينة وتجنيب المواطنين الكأس المرة، ولكن احداً من السياسيين لا يريد ان يسمع، لان كل الابواب التي ذكرها الخبراء تمس مصالح السياسيين، فكيف يمكن التطرق اليها. نحن نعلم ان الشفافية غائبة نهائياً عن الوسط السياسي. فهل ان المحاسبة لا تزال ممكنة؟
ومن يتأمل بالوضع الحكومي ينتابه العجب، وقد سقط البيان الوزراي وسقطت كل الاتفاقات، على الاقل بالنسبة الى فريق من الوزراء، فتحول كل وزير الى مجلس وزراء قائم بذاته، يتخذ القرارات التي تناسبه دون الرجوع الى مجلس الوزراء او الى رئيس الحكومة الذي يفترض فيه ان يضبط الوضع. غير ان رئيس الحكومة يدير ظهره ويلتزم الصمت بذريعة عدم ضرب الاستقرار. ولكن هل يبقى الاستقرار مؤمناً عندما يتصرف كل وزير على هواه، وهل ان الانسجام الحكومي الغائب نهائياً في هذه الايام، لا يؤثر على الاستقرار؟ فهنا وزير يهاجم آخر. فيرد الاخر عليه بما هو اقذع مما وصفه به، فاي احترام يبقى للحكومة وللدولة معاً في ظل هكذا اجواء؟ وهل يضمن الجميع ان الحكومة ستبقى في موقعها؟
هذا كله يجري امام اعين المواطنين الذين يتحسرون على ايام مضت كان في لبنان سياسيون حقيقيون رجال، يعرفون اصول السياسة. فاين كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميل، اين شارل مالك وفيليب تقلا، اين صائب سلام… السلسلة تطول في تعداد الرجال الذين عرفهم لبنان، ولكن الحديث عنهم يزرع في القلب غصة عندما يقارن بين الامس واليوم.
وكأن الشاشات التلفزيونية ارادت ان تشارك السياسيين في قهر اللبنانيين، فالغت برامجها وراحت تنقل «روائع» المتكلمين في المجلس النيابي الذين ملهم الناس واصابهم الغثيان من كلام معسول لا ينم عن حقيقتهم ونواياهم، فانصرف اللبنانيون الى المحطات التي بقيت بعيدة عن هذه المسرحيات.
النائب وليد جنبلاط اصاب الهدف فوصف خطبهم بـ «الروائع السندسية» يا له من تشبيه، لا يشبه ابداً النواب وخطبهم. فلا روائع بين الرجال ولا سندس في الخطابات، بل انها خطابات مقرفة بعيدة عن الحقيقة مجها الناس منذ زمن بعيد. فعلى امل ان يحاسب في صندوق الاقتراع والاتي قريب.
«الاسبوع العربي»