تحقيقسياحة

سوق نزوى في سلطنة عمان… مدينة تزدهر فيها التجارة

اليوم التجاري يبدأ مع تباشير الفجر وينتهي بعد منتصف الليل وسوق الجمعة حالة خاصة

لسوق نزوى في سطلنة عمان حالة خاصة ونكهة خاصة، فهو أشبه بمدينة كبيرة تزدهر فيها التجارة، ومنذ قديم الزمان كان سوق نزوى مركزاً تجارياً تحتشد فيه مختلف أصناف المبيعات، فهناك سوق شعبي تتكدس في دكاكينه بطريقة تقليدية أصناف من المبيعات، وسوق آخر خاص بالثياب، وآخر للأغنام والأبقار، وآخر للحرفيات والفضيات والنحاسيات والذهب والفخاريات، وسوق للمنتجات الخضرية والفواكه والحلوى والمكسرات، وحيثما يمّم الزائر وجهته داخل سوق نزوى سيجد فيه بغيته، وما يميزه أنه محافظ على نمطه القديم في البيع، بين بائع يجلس أمام دكانه، ينتظر من يأتي إليه، وآخر ينادي على بضاعة معروضة، فيتحلق حوله الناس، ويزايدونه.
ومن يزر سوق نزوى صباح يوم الجمعة سيجده مأهولاً بالناس، وبالمنتجات التي يعرضها الناس للبيع من مختلف القرى والمدن المجاورة، وبعضها من قرى الجبل الأخضر، ويتزاحم الناس هذه الأيام على هبطة بيع المواشي، مشكلين حلقة كبيرة تحت مظلة خصصت لهذا الغرض، وخلال مدة لا تزيد عن ساعتين، تبدأ من الساعة السابعة وتنتهي بالتاسعة، تباع عشرات المواشي، يدفع ثمنها المشتري ويقبضه البائع في الحال، وللدلال نصيب منه يصل إلى خمسة ريالات لكل مائة ريال بتراض بينهما.

سوق نزوى حالة خاصة
إن سوق نزوى يشكل حالة خاصة عن بقية الأسواق المجاورة بمحافظة الداخلية، باعتبارها حاضرة ومركزاً تجارياً عريقاً منذ فجر التاريخ، أكسب المدينة شهرة واسعة في مجال التجارة، كما أكسب التجار وهم أحفاد التجار الأوائل خبرة طويلة في هذا المجال، وفي كل ركن من أركان السوق العريق يوجد باعة من كبار السن، لهم خبرتهم في هذا المجال، سواء أكانوا دلالين وهم أصحاب خبرة في المناداة على المواشي، أو تجاراً ورثوا التجارة عن آبائهم وأجدادهم، والجميل في هذا المشهد الرائع هو التعانق ما بين الأجيال، بين كبار السن والصبية الصغار الذين يتعلمون مهنة التجارة من آبائهم.
أسر عريقة في مهنة التجارة، وسوق بعراقة المدينة، فسيح الأرجاء، يشكل مع القلعة الأثرية والجامع والحارات القديمة المجاورة، مدينة تتكامل فيها كل مكونات ومقومات الحياة، فالزائر للسوق لا يخرج فقط بالمشتريات، وإنما تتفاعل نفسه ومشاعره مع كل المفردات التي يشاهدها ويصادفها ويراها بعينه، وليس داخل السوق معروضات ومبيعات فقط، بل مكونات حضارية وثقافية لمجتمع خبر الحياة التجارية، يحس بها البائع والمشتري، وإذا كان التاريخ يقص حكايته في صفحات الزمان، فإن تاريخ سوق نزوى العريق يسرد حكايته أيضاً، خصوصاً في الأيام التي تسبق العيد، ولطالما شهد السوق أياماً كثيرة لآلاف الأعياد التي مرت عليه، أيام تجارية تعطي للعيد أكبر وأجمل فرحة، وتزرع في النفس حبها من الزيارة الأولى له.

هبطة بيع الأغنام والأبقار
اذا  زرت السوق، يوم الجمعة تراه مزدحماً بالناس، يتوافدون إليه بعد صلاة الفجر مباشرة، لشراء الخضار والفواكه الطازجة، تباع بالمناداة والتجزئة، وأغلب الناس يتسارعون إلى هبطة بيع الأغنام والأبقار، فهنا تباع الأغنام والأبقار بالمناداة، ومن يرغب في الشراء فعليه أن يزيد في السعر، والرائع في هذه الحلقة أنها تشبه شاشة كبيرة متحركة، تبث وجوها من مختلف الأعمار، وتبدأ المناداة الساعة السابعة، والناس يصطفون في الحلقة قبل هذا الوقت، وكلهم في انتظار لبدء المناداة على الأغنام، وتتلوها الأبقار، وقد بلغ أعلى سعر للغنم الجمعة الماضية 370 ريالاً، فيما بلغ أعلى سعر للبقر ألف ريال، بعض هذه الأبقار تجلب من القرى المجاورة لنزوى، وبعضها من الباطنة ومحافظة ظفار.
ومن حلقة بيع الأغنام والأبقار ينفتح السوق في جانب آخر منه على سوق بيع الفواكه الطازجة والخضروات، حيث يباع التين والرطب والعنب، كما يباع فيه البوت أيضاً، وهو ثمر يشبه العنب في استدارته، لأشجار معمرة تنمو في سفح الجبل الأخضر، وإذا سألت أحد الباعة عن العنب من أين يُؤتى به، فسيرد عليك من (الوطى)، أوالقرى الواطئة المجاورة لسفح الجبل.

فواكه الصيف اللذيذة
وفي الساحة الخارجية للسوق، باعة يفترشون الأرض، ويتظللون بالأقواس وظلال الأشجار، يعرضون فواكه الصيف اللذيذة، ورغم توقد الطقس إلا أنهم يحتملون ارتفاع درجة الحرارة، حيث يباع الكيلو من التين بثلاثة ريالات، وثمر البوت بثلاثة ريالات ونصف الريال، والعنب المحلي بريالين، ورطب الخنيزي بريالين، هذه المعروضات تباع بالتجزئة، يكون التاجر قد اشتراها بالجملة في الصباح الباكر، ويظل يعرضها للبيع طيلة النهار، وأغلب المعروض ينفد خلال الفترة المسائية، وفي اليوم الثاني يعاود التجار شراء الفواكه من ساحة المناداة، ليبيعه للناس بالتجزئة من جديد، وهكذا الحال كل يوم، وقد تتغير المواسم وتأتي بأصناف جديدة، كالخوخ والمشمش والرمان أو مختلف أصناف الرطب.
ولأن الأيام التي نعيشها هي أيام عيد، والعيد يطرق الأبواب بمباهجه، ورمضان يودعنا بروحانية أيامه ولياليه، فإن كثيراً من الناس يرون في السوق فرصة للتبضع، وشراء ما يحتاجونه مما يخص حاجات العيد، بدءاً من (المشاكيك) لشي اللحم وتقديده، والجواني السعفية والخيطية للشواء، ويعرف لدى الأهالي باسم (خصفة الشواء)، تصنع عادة من خوص النخيل، والبعض يفضل الجواني، أكياس تستخدم لحفظ الأرز، فيعاد استخدامها للشواء.

رائحة الحلوى الشهية
وتفوح في الأرجاء رائحة الحلوى الشهية، وفي نزوى لها صناع مهرة، واشتهرت حلوى أولاد نصير الصباحي، والسيفي والقصابي والعوفي والطيواني وغيرهم، بعضهم يصنع الحلوى في مواسم العيد فقط وبحسب الطلب، وبعضهم صارت لهم مهنة يومية، فالناس أصبحت تشتري الحلوى لتكون ضمن مكونات طبق القهوة العمانية.
الحلوى في نزوى لها تاريخ ضارب في القدم، واشتهرت أسرة أولاد نصير بصناعة الحلوى، حيث يتحدث سعود بن سيف بن نصير الصباحي، أن والده سيف هو صاحب الحلوى المشهورة لدى الناس، حتى أصبح يضرب بها المثل في جودتها ولذة طعمها، كما اشتهر والده بالكرم وحسن الضيافة، وكان الناس يأتون إليه من كل أنحاء المدينة، وبلغت شهرتها إلى خارج السلطنة، فكان المسافرون إلى الخارج يأخذون معهم الحلوى العمانية المصنوعة من مكونات محلية، كالنشاء والسمن البلدي والسكر الأحمر.
وفي سوق نزوى يصطف صناع الحلوى في قائمة مبيعات واحدة، بعضهم أكسب انتشاراً واسعاً بحسب الجودة والطاقم الذي يعمل في المصنع والكمية التي يصنعونها، وخلال أيام العيد يكثر صناعة الحلوى لدى كل صناعها، وبعضها يصنع أطنانا من الحلوى فيعرضها داخل السوق وخارجه، وبعضهم تأتيهم طلبات من خارج السلطنة، كل بحسب شهرته وإمكانياته في البيع والتوزيع والتصنيع، وتطورت الحلوى لدى صناعها، فأضافوا لها مكونات جديدة، بعضهم يدخل في صناعتها المكسرات بأنواعها، وصنعوا حلوى من التين.

عراقة السوق الشعبي
وفي جولة داخل السوق الشعبي بنزوى والمعروف باسم (سوق الصنصرة)، أو السوق الشرقي، لا يزال السوق قائماً على حاله كما كان منذ عهود غابرة، ورغم أنه آيل للسقوط إلا أن التجار متمسكون بالبقاء فيه، فهو يمثل لهم مكانهم المفضل، ويبدو أنهم تآلفوا معه وعاشوا فيه منذ نعومة أظفارهم، أغلب التجار فيه من كبار السن وأهل خبرة وتجربة، يعرضون مبيعاتهم بلا ترتيب ولا تنسيق، ولكن حين تسأل أحدهم عن شيء ما، فإنه في الحال يأتي به، ويستله من بين ذلك الركام المتكدس على جوانب الدكان. يباع في هذه الدكاكين مختلف أنواع السعفيات الملونة والخوصيات الجميلة، والحبال المفتولة، والمقتنيات القديمة، وبعضهم متخصص في بيع البهارات، وبعضهم يبيع العسل والسمن المحلي، وأنواع البذورات الزراعية، ورغم أن الدكاكين صغيرة في حجمها وسعتها الداخلية، إلا أنها تحوي الكثير من المبيعات والصناعات الحديدية، والزيوت والأعشاب الطبية، والعطور وغيرها، وتتبع هذه الدكاكين مخازن لحفظ الاحتياجات، فما يعرضه التاجر في دكانه هو الأكثر مبيعا، وفي المخازن يحتفظ بالكثير، يعرضه بعد أن ينتهي من بيع ما في دكانه.
كان سوق الصنصرة، مربطاً للخيول، وهذه المعلومة من باحث في علوم التاريخ، وهو الخطاب بن أحمد الكندي، حيث أكد أن السوق بشكله الحالي أروقة متداخلة كانت مرابط للخيول، وهذا ليس بمستبعد، فالقلعة والحصن الأثريان المجاوران للسوق كانا كرسي الحكم لأكثر من ألف عام. ورغم الحاجة إلى ترميم هذا السوق إلا أنه بشكله القديم يبدو رحباً وواسعاً، يفد إليه الزوار والمشترون خلال فترتي الصباح والمساء، حيث يفتح في الصباح الباكر ويغلق في وقت صلاة الظهر، ويفتح من جديد بعد صلاة العصر وحتى المغرب، وبين هاتين الفترتين تنشط الحركة التجارية داخل السوق، ويزداد الإقبال عليه خلال أيام العيد.

لوز وجوز وفستق وكاجو
وللمكسرات تجار خاصون، تجدهم في السوق القديم، أو قريباً من جناح بيع الحلوى العمانية، من بينهم محمد بن حمود الكندي الذي يبيع المكسرات منذ سنوات طويلة، يقول: إنه قمت بتوحيد ثمن المكسرات، حيث الكيلو غرام من اللوز والجوز والفستق والكاجو كل منها بقيمة خمسة ريالات، ويؤكد على ضرورة استقبال المشترين ببشاشة وجه ورحابة صدر، وهذه البشاشة هي مفتاح المحبة بين الناس، ولذلك فهو دائم الابتسام، ويستشهد في ذلك بقول الشاعر: بشاشة المرء خير من العطاء… فكيف إذا حاز البشاشة والعطاء.
ويستقبل خميس أمبوسعيدي أصدقاءه وزبائنه في جلسة صغيرة أوجدها بجانب محله الذي يزاول فيه حرفة الخياطة، حيث يمتهن خياطة الملابس منذ 50 عاماً، وهو أقدم خياط ثياب عماني في سوق نزوى، وحالياً يخيط العمائم ويبيع الثياب الرجالية، الجاهزة، وهو في جلسته مع الناس والزبائن يشعر بذاته، حيث يكسب رزقه من هذه المهنة، وأصبح دكانه متميزاً بنكهته العمانية.

السوق في العشر الأواخر
كما يؤكد البائع عبدالله السيباني أن الحركة التجارية تنشط كثيراً مع بدء العشر الأواخر من شهر رمضان، ففي النهار يشهد السوق حركة، نظراً لتنوع البضاعة فيه، وفي الليل يغلق السوق وتفتح المحلات الأخرى التي تبيع الثياب والمجوهرات. ويقول تاجر آخر: إن تجارة الثياب تزدهر في الليل، حيث تباع الكميم العمانية والمصار، ويقبل الشباب على شرائها بعد صلاة التراويح، وتبقى هذه المحلات مفتوحة إلى منتصف الليل. وعلى امتداد الشارع الداخلي للسوق، يقوم بعض الصبية الصغار بعرض أنواع من الكميم والمصار، يعرضونها بأسعار زهيدة، فيرسمون في المكان لوحة رائعة، يشعر فيه الزائر بالحيوية والحركة والنشاط.
ورغم تفاوت أسعار مبيعات الكميم إلا أنها غير منضبطة، بعضهم يستغل الموسم فيرفع الأسعار، وبعضهم بربح بسيط، مكتفياً بما سيكسبه حتى يوم العيد، وبعضهم يراهن على الجودة، فالكمة العمانية لا تصنعها اليد العمانية فقط، إنما أسهم الوافدون في صناعتها كثيرا، وأغرقوا السوق بأنواع منها، أنواع في أقمشتها وألوان مختلفة في نقوشها، كما تباع المصار الكشميرية بكثرة في مثل هذه الأيام، وكل نوع له تسعيرته الخاصة.

هبطة سابع
ويشهد سوق نزوى كغيره من الأسواق الشعبية حركة تجارية استثنائية في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان، أو (اليوم السابع) من شهر ذي الحجة، وتعرف باسم (هبطة سابع)، ولها في ذاكرة الناس ذكريات لا تنسى، حيث يكتظ السوق بحركة تجارية نشطة، لذلك فهبطة سابع لها اعتبارها ويحسب لها الناس من باعة ومشترين حسابات ربحية وفيرة.
إن لسوق نزوى حالة خاصة مثلما له نكهة خاصة أيضاً، وتنوع معروضاته وتعدد مبيعاته واحدة من أسراره الجميلة، وهو ما يجعله أشبه بمدينة متكاملة، يجد فيه المستهلك بغيته، فهو السوق الذي يبدأ يومه مع تباشير الفجر، ويغلق أبوابه بعد منتصف الليل.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق