سياسة لبنانية

حزب الله والمستقبل «يلعبان على حافة الهاوية»

الوضع إما ينتقل الى «مرحلة المواجهة» أو يعود الى «مربع المساكنة»    

من الواضح أن الحالة العامة في البلد تسير من سيىء الى أسوأ وأن الوضع السياسي يسلك خطاً ومساراً تصعيدياً وتصاعدياً في ظل فراغ يزداد رسوخاً وتمدداً، واشتباك سياسي بدأ يلامس خطوطاً حمر وما يعتبر ثوابت المرحلة: الحكومة والحوار.

التأزم موجود منذ أشهر ولكن التدهور حصل منذ أيام وتحديداً منذ سقوط التسوية الجزئية التي اشتغل عليها بري وجنبلاط بطلب وتشجيع من حزب الله لـ «تهدئة اللعبة»، وكانت تقوم على فكرة تهدئة عون وإرضائه مقابل تحريك عمل الحكومة وتفعيلها… بعد سقوط هذه التسوية، لوّح عون بورقة «تعطيل الحكومة» فاشترط أن يكون بند التعيينات الأمنية (والمقصود تحديداً تعيين قائد جديد للجيش) مدرجاً على رأس جدول أعمال أي جلسة لمجلس الوزراء وإلا لا جلسات منتجة ولا قرارات… وهذا التوجه بدا منسقاً مع حزب الله ما اضطر الرئيس بري الى أن يعدِّل في سياسته ويوقف تغطيته السياسية للجلسات الحكومية، الأمر الذي دفع الرئيس تمام سلام الى الإحجام عن الدعوة الى عقد جلسات جديدة (باستثناء «جلسة النفايات» التي وضعت خارج المعركة السياسية والحكومية) طالما لا يتوافر التوافق السياسي.
التلويح بـ «تعطيل الحكومة» من جانب عون وحزب الله قابله تلويح من المستقبل بـ «الخروج من الحكومة»… فإذا كان الطرف الأول حاذر الوصول في موقفه الى نقطة تفجير الحكومة وإسقاطها، فإن الطرف الثاني ذهب الى هذه النقطة والتهديد بـ «قلب الطاولة»… وهذا الموقف شبه الرسمي أعلنه الوزير نهاد المشنوق (في احتفال جرى في قصر الأونيسكو في ذكرى اغتيال اللواء وسام الحسن) قائلاً: «إن بقاء الوضع على ما هو عليه هو الخطوة الأولى نحو الاستقالة من الحكومة التي أردناها ربطاً للنزاع ونحو الخروج من الحوار الذي تحولنا فيه الى شهود زور».
شكل كلام المشنوق مفاجأة سياسية لأنه أوحى بوجود استعداد لدى تيار المستقبل لتغيير قواعد اللعبة والانتقال ليس الى وضع ما قبل الحكومة والحوار وإنما الى وضع أكثر خطورة وتعقيداً… وأما المفاجأة الثانية فإنها جاءت من أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الذي تولى شخصياً الرد على المشنوق متعاطياً مع كلامه بمنتهى الجدية والحزم من دون التفات الى أعذار ومبررات وأسباب تخفيفية كالقول إنه اجتهاد شخصي من الوزير المشنوق أو لشد عصب جمهور المستقبل أو لاستعادة المشنوق رصيداً خسره أو تعبيراً عن مشكلة داخل المستقبل مع نشوء محاور ومراكز قوى وتأخذ في الغالب شكل «توزيع أدوار»… قال السيد نصرالله بوضوح و«ازدراء»: «إذا كنتم تمنون علينا بالحوار «بلاه»، وإذا كنتم تشعرون أنكم  تحرصون أو تفضّلون علينا من خلال بقائكم في الحكومة، فلا تشعروا بحرج. وبلا هذا الفضل والله معاكم. نرفض الابتزاز».
هذه أول مرة يرد فيها نصرالله شخصياً على كلام صادر عن تيار المستقبل بعدما كان تجاهل وتجاوز حملات وانتقادات لاذعة صدرت تكراراً عن الرئيس سعد الحريري، وأن يبادر نصرالله الى الرد ويتولاه شخصياً، فإنه يفعل لثلاثة أسباب:
– الأول أن الكلام الصادر عن المشنوق ليس كلاماً للاستهلاك وإنما إعلان لموقف سياسي يتعلق بخطين أحمرين وإطارين ضابطين ومنظمين للصراع السياسي: الحكومة والحوار…
– الثاني أن هذا الكلام صادر عن «نهاد المشنوق» المصنف من فئة «الصقور المعتدلين» في المستقبل والأكثر تفاعلاً مع حزب الله والأكثر حماسة للحوار معه، وهو من يتولى الحوار فعلياً. فإذا كان هذا كلام المشنوق وموقفه فإنه لم يعد هناك، بالنسبة لحزب الله، من يمكن الرهان عليه في تيار المستقبل وما يمكن انتظاره من تيار المستقبل.
– الثالث أن هذا الموقف يعيد ربط الوضع اللبناني بالوضع الإقليمي المتفجر على جبهتي: ما بعد التدخل الروسي في سوريا، وما بعد انهيار العلاقة بين إيران والسعودية…
في الواقع، انصرفت دوائر المستقبل الى قراءة الرد العنيف لأمين عام حزب الله بتمعن وتأنٍ. وبدا أن أقطاب المستقبل بمن فيهم الوزير المشنوق، قد فوجئوا بهذا الرد وقساوته مع أن مواقف كثيرة أكثر عنفاً وحدة صدرت عن قيادات المستقبل ولم تقابل بمثل هذا الرد، ومع أن المشنوق نفسه لم يختلف في النبرة واللهجة التي تتناسب مع طبيعة المناسبة (ذكرى اغتيال اللواء الحسن) عما كان عليه العام الماضي. ولكن ما اختلف هذه المرة أن حزب الله لم يكن «رحب الصدر» ولم يكلف نفسه عناء تفهم ظروف المشنوق والأسباب التي دفعته الى قول ما قاله…
ومن الواضح أيضاً أن أوساط المستقبل عمدت الى توضيح مقاصد المشنوق والتخفيف من وقع كلامه. وتقول هذه الأوساط: «إن المشنوق لم يهدد بالاستقالة من الحكومة أو من الحوار، وتيار المستقبل لم يتخذ إصلاً قراراً بهذا المنحى. وما أشار إليه المشنوق هو أنه في حال استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون الخطوة الأولى نحو الاستقالة، بمعنى أن حزب الله يدفعنا من خلال سياسته وممارساته الى هذا القرار. فهل هذا ما يريده حزب الله؟! وتمضي الأوساط في القول إن المشنوق عكس في كلامه جواً سائداً ونقاشاً لم يكتمل على طاولة المستقبل، وموقفه لم يأتِ من فراغ أو من عندياته ولم يكن اجتهاداً شخصياً، ولكن تيار المستقبل حريص على الحوار وعلى البقاء في الحكومة. والبيان الذي سيصدر اليوم سيعكس هذا الموقف وسيكون بمثابة تأكيد على الثوابت.
وتلفت هذه الأوساط الى أن ما قاله المشنوق هو توصيف دقيق للوضع لجهة عدم تعاون حزب الله في مسائل الأمن  والحكومة ورئاسة الجمهورية، وهو تعبير عن انزعاج المستقبل من هذين النهج والسلوك من جانب حزب الله الذي كأنه يقول للمستقبل لا نريد شراكتك ولا الحوار معك، وبالتالي من حق المستقبل أن يطرح إمكانية انسحابه من هذه الشراكة غير المتكافئة القائمة على الابتزاز والتهديد بالتعطيل…
من الواضح أيضاً وأيضاً أن تيار المستقبل يبذل جهوداً مركزة ليس لتوضيح ما قاله المشنوق والتخفيف منه، وإنما لتصحيح الوضع الذي استغله حزب الله سريعاً وكثيراً، والذي بدا فيه المستقبل محشوراً في زاوية الاتهام بأنه يعطل التسويات ويهدد بالاستقالة من الحكومة والخروج من الحوار… لقد بدت الصورة وكأن الكرة السياسية استقرت في ملعب المستقبل أو أنه سجل هدفاً في مرماه ونقطة عليه… وإذا كان نجح في معركة الترقيات مع عون فإنه أخطأ في التكتيك والتعبير… وفي الاصطدام بحزب الله فعلاً لا قولاً عندما لوّح بخطوة عملية هي الانسحاب من الحكومة والحوار…
لم يعد مهماً تحديد الأسباب التي دفعت المشنوق الى هذا التلويح بالخروج من الحوار والحكومة، ولا الأسباب التي دفعت نصرالله الى الرد على التحدي بالمثل… المهم الآن هو أننا وصلنا الى وضع بالغ الدقة والحساسية لأن الطرفين الرئيسيين يرفضان أو يلعبان عند «حافة الهاوية»، ولأن السقوط في الهاوية يمكن أن يحصل وأن ينتج عن دينامية تصعيد لا يتوقف أو عن لعبة تحدٍ متبادل تحت عنوان رفض الابتزاز أو عن أخطاء في التقدير، كأن يقدر المستقبل مثلاً أن حزب الله متورط ومنهمك في سوريا وأن الحكومة هي نقطة ضعفه ويريدها وله مصلحة حيوية فيها، وهو إذا وصل الى نقطة شعر أنه سيخسر الحكومة أوقف ضغوطه وابتزازه… أو كأن يقدر حزب الله مثلاً أن الحكومة هي حكومة المستقبل الذي يمسك برئيسها وأهم وزاراتها، وأنه إذا وصل الى نقطة شعر فيها أنه سيخسر الحكومة سيتراجع ويتنازل…
ما كشفه الاشتباك السياسي بين المستقبل وحزب الله أن أياً منهما لم يعد يناسبه الاستمرار في الوضع الراهن. فالمستقبل لم يعد يناسبه الاستمرار في حكومة أصبحت عمليا حكومة تصريف أعمال وتشكل غطاء لحزب الله وتحمي ظهره سياسيا من دون أن يعطي في المقابل… وحزب الله لم يعد يناسبه الاستمرار في وضع أصبح عمليا وضع مواجهة مع تيار المستقبل ولكن مغلفاً بمظاهر حوار وحكومة…
ولذلك فإن الوضع يقف حالياً عند نقطة حساسة وعند مفترق طرق:
– فإما أن ينتقل الى حال مواجهة مكشوفة ومفتوحة على انهيارات أمنية واقتصادية في ظل أزمة أفقها الرئاسي والسياسي مسدود واحتمالاتها مفتوحة…
– وإما أن يعود الى «مربع المساكنة» تحت سقف الحكومة والحوار، فيكون هذا الاشتباك قد أحدث صدمة كافية للعودة الى الوضع القائم وقواعد اللعبة المطبقة منذ الشغور الرئاسي. وهذا يعني استمرار الحكومة بالصيغة التي حددها حزب الله، واستمرار الحوار وفق البرنامج الذي وضعه بري…
تقول مصادر في 14 آذار إنه لا رغبة موضوعياً لدى «المستقبل» و14 آذار بفك النزاع مع حزب الله والعودة إلى قواعد المواجهة السابقة تحت عناوين قتاله في سوريا وسلاحه في لبنان والمحكمة الدولية، ولكن لا رغبة أيضاً في التسليم بالواقع التعطيلي القائم الذي تمدد من الرئاسة إلى الحكومة، ومن الأمن إلى السياسة. فالحزب أخذ ما أراده من المساكنة على مستويَين: تبريد الساحة السنّية التي تكفل الاعتدال فيها بمواجهة التطرف وتوفير الغطاء السياسي للأجهزة الأمنية من أجل ضرب كل المجموعات المتطرفة، والمستوى الآخر سحب عناوين سلاحه وقتاله ودوره من التداول السياسي، ولكن ماذا قدم الحزب في المقابل؟ لا شيء، بل الأسوأ فهو وفر الغطاء السياسي لكل مطالب العماد ميشال عون تحت عنوان الشراكة. وإذا تم غض النظر عن التعطيل الرئاسي المخالف للدستور، فإن الاستمرار بغض النظر عن التعطيل الحكومي سيُدخل البلد عاجلاً أم آجلاً في الفوضى، وبالتالي كان لا بد من صرخة تحذيرية تدفع الحزب إلى مراجعة سياسته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق