سياسة لبنانية

انطلاقة متعثرة لـ «الحوار المحاصر» بالضغوط الشعبية والشروط السياسية

في لبنان هذه الأيام حراك وحوار. حراك شعبي ترتفع فيه نسبة التسييس ويتقدم على وقع شعارات ومطالب سياسية بعدما كانت انطلاقته «مطلبية»… وحوار محاصر ليس فقط من الخارج ومن طبقة شعبية تصفّي حساباتها مع الطبقة السياسية، وإنما أيضاً محاصر من داخله بخلافات أطلت برأسها قبل أن يبدأ وتهدد ليس فقط فرص نجاحه وإنما أيضاً إمكانية استمراره وصموده لفترة طويلة…

إذا كان الحوار الذي دعا إليه الرئيس بري قد استند الى قوة دفع دولي وضغط شعبي، فإنه فقد الكثير من زخمه واندفاعته وارتفعت درجة التشكيك بجدواه ونتائجه لأسباب عدة يمكن اختصارها على النحو الاتي:
1- تيار المستقبل أقدم على الحوار واستجاب سريعاً لدعوة الرئيس بري لأن لا خيارات لديه ولا أوراق يلعبها في هذه المرحلة الانتظارية والانتقالية على مستوى المنطقة، ولأنه يراهن على الرئيس بري وتمايزه عن حزب الله ودوره في الدفع باتجاه «الرئيس التوافقي»… ولكن «المستقبل» الذي كان السبّاق الى ملاقاة دعوة بري والموافقة على الحوار من دون شروط مسبقة، بات يتعاطى بحذر شديد ويصل الى حد التلويح بمراجعة موقفه وتعليق مشاركته في الحوار إذا لم ينحصر بموضوع انتخاب رئيس الجمهورية ولم يحقق اختراقاً في هذا المجال… وثمة أسباب تدفع «المستقبل» الى إعادة النظر بموقفه منها:
– موقف «الحليف المسيحي» الذي لا بد من أخذه في الاعتبار. فبعدما أعلنت «القوات» مقاطعتها للحوار وقال جعجع كلمته ومشى… الى جولة خارجية، فإن الكتائب تلوّح بموقف مماثل إذا تبيّن أن الحوار سيتجاوز موضوع الرئاسة.
– وجود تململ داخل تيار المستقبل من شخصيات تصنف في فئة «الصقور» وتعتبر أنه لم يكن على الحريري أن يقبل الدعوة للحوار من دون تحديد جدول الأعمال وحصره في بند وحيد هو إتمام الاستحقاق الرئاسي، وكان عليه عدم القبول بإسقاط البند الأهم في جدول أعمال أي حوار وطني وهو بند سلاح حزب الله والاستراتيجية الدفاعية.
– الموقف المفاجىء للرئيس نبيه بري الذي أحدث نقزة وعزز تحفظات وشكوك «المستقبل» وجاء فيه: «إذا لم ننجز بند الاستحقاق الرئاسي (وهو البند الأول على جدول أعمال الحوار) سننتقل الى بند آخر. وقد نتفق على قانون الانتخاب ونحقق اختراقا مما يساعد في أشياء كثيرة فنتجه للانتخابات النيابية وننتخب بعدها الرئيس المقبل، فلا يكون عندها للخارج تأثير». وهذا الانتقال من بند الرئاسة الى بنود أخرى لا يوافق عليه «المستقبل» سواء كان الانتقال الى قانون الانتخابات على أساس النسبية الذي لا يرتضيه، أو الى بند آلية عمل الحكومة وما يعنيه ذلك من تعرض لصلاحيات رئاسة الحكومة.
2- حزب الله له نظرته الخاصة الى الحوار وأهدافه منه. فمما لا شك فيه أن الحزب لا يعلق آمالاً كبيرة على الحوار، ولكنه يرى أنه مفيد في هذه الظروف الحساسة إذا ما نجح في تبريد الأجواء الداخلية بعدما وصلت الأمور الى «حائط مسدود»، وهذا حوار اللعب في الوقت الضائع بانتظار التسويات الكبرى في المنطقة، ولا بأس من استمرار المراوحة إذا كان البديل هو الانفجار، ولا بأس من فتح باب الحوار الوطني وفق نموذج الحوار بين «المستقبل» وحزب الله الذي يهتم بمنع الانفجار أكثر مما يهتم بالبحث عن حلول…
حزب الله يدخل الحوار من باب التكتيك السياسي وربما هو من أوعز الى بري بالدعوة إليه وشجعه على ذلك. فالحوار هو كسب للوقت الذي يحتاجه حزب الله على مستوى المنطقة للتأكد من انتقال الاتفاق النووي الى مرحلة التنفيذ، وللانتهاء من معارك عسكرية حاسمة في سوريا (الزبداني والقلمون) قبل الشتاء… وفي الداخل الحوار الوطني يحقق ما كان حزب الله يطالب به منذ أشهر من فتح حوار بين المستقبل والتيار الوطني الحر، كما يحقق ما أصبح يريده بإلحاح هذه الأيام وهو مصالحة بري وعون وتطرية الأجواء بينهما بعدما ساءت العلاقة كثيراً وكادت أن تخرج عن السيطرة…
وبالانتقال الى مضمون الحوار، فإن حزب الله لا يجاري «المستقبل» في مطلبه حصر النقاش في موضوع رئاسة الجهورية، وما لم يفعله في حوار عين التينة لن يقبله في حوار ساحة النجمة، لا بل ازداد موقفه تشدداً لناحية التمسك بالعماد عون رئيساً للجمهورية بعد العرض الشعبي الناجح الذي قدمه مثبتاً أنه المسيحي الأول، وبالتالي فإنه أفشل خطة إضعافه وعزله كممر إلزامي الى الرئيس التوافقي… وحزب الله ماضٍ في دعمه للعماد عون الذي يضع خصومه أمام خيارين للخروج من الأزمة:
– إما الاحتكام الى الشعب عبر انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، أو من مجلس نيابي جديد منتخب على أساس قانون النسبية.
– وإما انتخابه هو رئيساً للجمهورية على يد المجلس النيابي الحالي.
أعد الرئيس نبيه بري العدة اللازمة للحوار الذي فاجأ الجميع بالدعوة إليه، فيما هو لم يفاجأ بالتلبية السريعة لدعوته. فهو يعرف أن كل الأفرقاء بحاجة الى فتح باب الحوار والتمسك به كـ «طوق نجاة»، وأن أحداً لا يملك فرصة تقديم خيارات بديلة عن الحوار، ولا يملك جواباً ورداً على الحراك الشعبي ومطالب الشارع.
يريد الرئيس بري لفرصة الحوار أن تأخذ مداها ويتعاطى بمرونة مع التحفظات والهنهنات وعملية التشويش التي تدرج من ضمن قواعد اللعبة والتفاوض. ولذلك فإن ما صدر عن قوى 14 آذار من مواقف تُشدد على أولوية الاستحقاق الرئاسي وربط مصير الحوار به، وما صدر عن كتلة المستقبل النيابية من هجوم على حزب الله واتهامه بأنه على رأس جوقة الفساد وأنه يمارس التحريض على وسط بيروت وحاقد على إرث رفيق الحريري… كل ذلك لا يؤثر على انطلاقة الحوار وعلى جدول الأعمال وعلى خطة بري لإدارة الحوار بطريقة سلسة: البحث يبدأ من بند رئاسة الجمهورية، والنقاش فيه سيكون مفتوحاً الى أن يقرر المتحاورون مصيره والبت به. فإذا حصل اتفاق يتم الشروع في تنفيذ ما اتفق عليه، وإذا لم يحصل اتفاق، ينتقل البحث الى البنود الأخرى في جدول الأعمال… فإذا لم يحصل اتفاق على بند الرئاسة فإن البند الذي يليه هو تفعيل عمل الحكومة والبرلمان لأنه إذا لم تكن هناك انتخابات رئاسية فعلى الفرقاء أن يبحثوا في كيفية إدارة المرحلة بغياب الرئيس، وبالتالي فإن قيادات 14 آذار لا يمكنها الانسحاب وفرط عقد الحوار إذا لم يتم الاتفاق على بند انتخاب رئيس الجمهورية ولا يمكنها تحمل مسؤولية فشل الحوار…
«الفشل ممنوع والنجاح متعذر»، هذه هي المعادلة التي تحكم الحوار في نسخته الجديدة القريبة شكلا من النسخ السابقة والمختلفة مضمونا عن حوار 2006 بعدما باتت المحكمة الدولية من الماضي، وعن حوار قصر بعبدا بعدما وضعت الاستراتيجية الدفاعية جانباً ومعها سلاح حزب الله وتدخله في سوريا.
لا أحد لديه توقعات أو أوهام بأن هذا الحوار، في مكانه وتوقيته وظروفه الإقليمية، قادر على تحقيق إنجازات كبيرة ومفاجآت من العيار الثقيل من نوع التوصل الى اتفاق حول رئاسة الجمهورية أو في موضوع قانون الانتخابات، نظرا للهوة الواسعة التي تفصل بين المتحاورين حول هذين الملفين وتضارب المصالح والأولويات… وبالتالي فإن الحوار يتحرك بين حدين  واحتمالين:
– الحد الأدنى هو الاستمرار في «حوار مفيد وغير منتج»، بمعنى إن عدم التوصل الى اتفاقات وتفاهمات ليس سبباً لوقف الحوار حتى لو أصبح «حواراً للحوار» وفق نموذج حوار عين التينة بين «المستقبل» وحزب الله. فيكون الحوار إطاراً سياسياً ناشطاً وبديلاً عن الحكومة «المكربجة»، ويكون الهدف منه تهيئة الأجواء والأرضية اللبنانية استباقاً لانفراجات محتملة في المنطقة تبدأ بحوار سعودي – إيراني، ولملاقاة اللحظة الإقليمية التي يتقرر فيها فتح الملف اللبناني والتحرك في اتجاهه إيجاباً.
– الحد الأقصى المتاح في ظل المعطيات والظروف السائدة، هو التوصل الى اختراقات وحلول جزئية وموضعية من شأنها أن تلجم اندفاعة الشارع وتحد من التوتر السياسي وتهدىء اللعبة التي تكاد تفلت من يد الجميع. وهذا الاختراق يتمثل في إعادة الحكومة الى دورة العمل والإنتاج بدءاً من إيجاد حل لأزمة النفايات التي هي شرارة الشارع ومعها طفح الكيل الشعبي، وإعادة فتح أبواب البرلمان تحت عنوان «تشريع الضرورة»… وفي سياق هذا الانفراج يتم حل مسألة التعيينات والترقيات العسكرية… هذا أقصى وأفضل ما يمكن تحقيقه حالياً…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق