آدب

ندوة: حيرة «الرجل المريض» في زمن تفكك الأمبراطوريات

منذ سنوات، وفي ظل حكم «حزب العدالة والتنمية»، تعيش تركيا عند المنعطف، تارة تنظر صوب جهة معينة، وطوراً نحو اخرى، يراودها حلم الامبراطورية في زمن التحولات الكبرى وتفكك الامبراطوريات… حيث ما زال رجب الطيب اردوغان وامثاله في تركيا، يعتقدون بأن الماضي وبأبوابه العالية من الممكن عودته على انقاض «الرجل المريض» الذي ما زالت ذكرياته المريرة تخيّم في كل مدينة وقرية، وفي كل بيت وكوخ… ضاربين عرض الحائط بكل ما نادى به قائدهم التاريخي مصطفى اتاتورك الذي كان يدرك ابعاد التغييرات التي طرأت على العالم بعد الحرب العالمية الاولى في القرن الماضي. والسؤال الآن هو: الى اين تتجه تركيا اليوم؟ وقد حاول كتاب «السياسة الخارجية التركية» الصادر حديثاً، عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت، الاجابة عليه من خلال السياسة التي تنتهجها تركيا تجاه القوى العظمى والبلاد العربية، ولا سيما بلدان الجوار، منذ سنة 2002، وهو من تأليف موريال ميراك – فايسباخ، وجمال واكيم. وفي اعقاب صدور هذا الكتاب عقدت ندوة سلطت الاضواء على محتواه. ويقع في 266 صفحة من القطع الكبير، ويتألف بعد كلمة الناشر والتمهيد والمقدمة، من عشرة فصول وفي طياته مجموعة من الصور الملونة، ترمز الى معالم تركيا التاريخية، وفي الوقت نفسه، ترمز الى ابعاد السياسة التي انتهجتها على مدى العصور، نذكر منها: بوابة الباب العالي – كاتدرائية آيا صوفيا – مضيق البوسفور – رقصة الدراويش – النصب التذكاري للاستقلال – الترامواي الذي اقيم في زمن السلطان عبد الحميد – وغيرها…

الكاتبة نوهيتا ابرهيم قدّمت الندوة وادارتها، مستهلة كلمتها بالتعريف بالكاتبة موريال ميراك – فايسباخ – الاميركية الجنسية من اصل ارمني – التي اصبحت ناشطة سياسية في الثمانينيات وعملت طويلاً في الصحافة، حيث ركزت اهتمامها على العالمين العربي والاسلامي. تناولت في كتابها الاول «عبر جدار النار: ارمينيا – العراق – فلسطين» مسألة ما اذا كان في امكان الشعوب التي تقاتلت، او تم تأليب بعضها على بعض في ما تمت اثارته وتحريكه من نزاع جغرافي، ان تتوصل الى المصالحة الحقيقية والسلام.
اما في كتابها الثاني «مهووسون في السلطة» فهو دراسة في الثورات السياسية، وفيه تحلل الكاتبة نفسية اربعة من الزعماء العرب الذين اخرجوا من السلطة خلال «الربيع العربي»، وهم: معمر القذافي – حسني مبارك – زين العابدين بن علي – علي عبدالله صالح.
كما عرفت بالدكتور جمال واكيم، الذي ركّز اهتمامه على الشرق الاوسط، ونشر اول كتاب له في سنة 2010 بعنوان «سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الاوسط» وهو ما كان موضوع اطروحته للدكتوراه، وفيه يعالج اسباب تعثر المفاوضات السورية – الاسرائيلية. وفي كتابه الثاني «صراع القوى الكبرى على سوريا» الصادر في سنة 2011، عالج الكاتب السياسة والتاريخ السوريين من وجهة نظر البُعد الجيو-سياسي، وركز على اهمية سوريا الكبرى التاريخية.

ابعد من العمل التوثيقي الجاف
الصحافي والباحث سركيس ابو زيد، اعتبر ان هذا الكتاب يحاول تقديم تحليل تاريخي، استراتيجي وسياسي، في محاولة لمساعدة القارىء على التوصل الى اجابة، على سؤال حيّر تركيا وجيرانها والمهتمين، مشيراً الى انه اكثر ما لفته – كقارىء ومتابع سياسي – في الكتاب هو اسلوبه العلمي الشائق، متخطياً العمل التوثيقي الجاف، الى الجمع بين تقنية البحث الاكاديمي والشواهد الحية والحوار مع باحثين معاصرين في مراكز دراسات دولية عدة، خصوصاً ان الحدث ما زال متفاعلاً ومستمراً بسياقه وتداعياته، وليس مرجحاً اكتماله قريباً، ما يحمل الباحثين مسؤولية اضافية للتحول في استقراء الاحداث.
وتطرق الى الفصل الاول «الى اين تتجه تركيا؟» الذي تضمن نقداً علمياً لسياسة «حزب العدالة والتنمية» والحاجة الى اجراء نقد ذاتي وحركة تصحيحية سياسية حتى يتمكن «الحزب» من الاستمرار في الحكم. وانتقل الى الفصل الخاص بتركيا وايران بعد «الاتفاق النووي»، مشيراً الى وجود اكثر من سبب يمكن ان يكون دافعاً لتركيا من اجل تغيير اسلوبها في السياسة، منها: التغييرات في مصر واطاحة نظام «الاخوان المسلمين». المتغيرات الميدانية على الارض في سوريا مع تراجع «الجيش السوري الحر»، ما سيجعل انقرة امام محاولة العودة الى سياسة الانفتاح على المعسكر القديم، والذي يضم ايران والعراق وحزب الله في لبنان، عبر اطلاق سراح مخطوفي اعزاز.

أمة حائرة بين التحوّل والتدحرج
توصل سركيس ابو زيد الى نتائج عدة في الكتاب، منها ان تركيا امة حائرة بين نعمة التحوّل الى امبراطورية ونقمة التدحرج الى واقع «رجل مريض»، وفي حيرتها خطر عليها وعلى جوارها…وان العرب فقدوا السيطرة على قرارهم السياسي، كما فقدوا وحدتهم وانحدروا نحو التشرذم والانقسام… وان كلاً من تركيا وايران تمتعتا بعلاقات طيبة كأمتين جارتين وحليفتين مع الغرب، وتمكنتا من الحفاظ على وحدتهما القومية ومواكبة التحديث، بينما العرب تحالفوا مع الغرب، فوظفهم في سياق مصالحه للسيطرة على النفط وضمان أمن اسرائيل…
وخلص سركيس ابو زيد الى القول، ان الكاتبين اصابا بقولهما – بمعزل عن النتيجة النهائية – فان ما سيبقى كرمز لسعي المواطنين الاتراك لبلورة هوية وطنية جديدة، لن يكون بأي حال من الاحوال «العثمانية الجديدة» او «الاسلام المعتدل»، بل سيكون «حديقة غيزي» كرمز لفعل الارادة الشعبية القادرة على تغيير مجرى التاريخ، واخراج تركيا من حيرتها، الى التعاون مع جيرانها من اجل بناء قوة اقليمية بين امم الشرق الآسيوي يكون لها دور فاعل في الحضارة الانسانية.

كلام تمحوه «حديقة غيزي» في اسطنبول
الكاتب سماح ادريس القى كلمة الباحث سعد محيو الذي تغيّب بداعي المرض، روى في مستهلها انه حين سُئل نائب رئيس الوزراء التركي بشير ألتاي: «متى سنحتفل بالربيع التركي؟» اجاب: «نحن قمنا بـ «ثورة هادئة» قبل ثورات «الربيع العربي» بعقد من الزمن. وهذا تجسد في التعديلات الدستورية، وفي الخطوات العملية لتعميق الديمقراطية واطلاق الحريات المدنية. ربما هذه ليست ثورة شعبية كالثورات العربية، لكنها مدعومة من الشعب بدليل الدعم المتصاعد لها في الانتخابات…»، ليندلع بعد اسبوعين من هذا الكلام انفجار «الشارع العلماني» في «حديقة غيزي» باسطنبول ونحو 40 مدينة وبلدة تركية، وهو كان دليلاً فاقعاً على ان القادة «العثمانيين الجدد» أُخذوا على حين غرة بهذه التطورات، وان قراءتهم للتمخضات العنيفة التي يمرّ بها المجتمع التركي كانت متسرعة او تطغى عليها الثقة الزائدة بالنفس.

صراع على الهوية التركية الجديدة
لفت سعيد محيو الى ان تركيا تمرّ منذ سنة 2002 بتحولات تاريخية كبرى، لا تزال نتائجها ومحصلاتها النهائية مجهولة، او على الاقل تتسم بعدم اليقين، والمحرك الرئيسي لها، ليس فقط الاقتصاد ولا الصراعات الطبقية، بل «الحروب الثقافية» التي تتجلى في الصراع على الهوية التركية الجديدة بين المعسكرين المتصارعين «الاسلاميين الجدد» او «العثمانيين الجدد»، والذين يريدون المحافظة على الهوية التي ارسى دعائمها مصطفى كمال اتاتورك في عشرينيات القرن العشرين.
معتبراً، ان اردوغان وصحبه يخطئون ان هم اعتقدوا انهم يستطيعون حل معضلة الهوية عبر الاصلاحات السياسية والاقتصادية وحدها، او حتى عبر الديمقراطية، اذ ان بناء الهوية يتطلب اجماعاً وطنياً حولها لا اغلبية برلمانية، لانها تطاول كل نمط العيش والتوازنات النفسية والحريات والحقوق في المجتمع المدني، لذلك وبعد ان نجح متظاهرو «ساحة تقسيم» في حمل اردوغان على التراجع عن بعض مواقفه المتصلبة، سيكون عليه القيام باعادة نظر جذرية في طريقة مقاربته لمسألة حروب الثقافة والهوية في تركيا.

خروج عن المقاربة الاكاديمية البحتة
وخلص الى القول، ان لم يفعل اردوغان ذلك، وسريعاً، قد يصبح تحذيره من «وجود مؤامرات خارجية لتفجير الاوضاع الداخلية»، نبوءة ذاتية التحقق. هذه النقطة الاخيرة بالتحديد، هي محور الكتاب الجديد والجميل للدكتور جمال واكيم الذي وضعه بالمشاركة مع موريال ميراك – فسباخ. انه جميل، لان هذا المؤلف، جاء كموجة رقيقة ناعمة فوق بحر صاخب من الابحاث الاكاديمية الجافة والمملة لغير ذوي الاختصاص. فهو صيغ باسلوب سلس وسوي، ونجح في تطويع اعقد النظريات حول الجيوبوليتيك والاستراتيجيات العليا وجعلها في متناولنا نحن القراء العاديين… وفوق هذا وذاك، خرج المؤلف عن المقاربة الاكاديمية البحثة التي تركز عادة على محور واحد، لمسألة السياسة الخارجية التركية، واختار ان يأتي الكتاب شاملاً الجغرافيا والتاريخ والاستراتيجية والاقتصاد والثقافة والهوية، اضافة بالطبع الى القضايا الاقليمية والدولية.

اسكندر داغر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق