سياسة عربية

سر الانفتاح التركي على بغداد

قبل ايام قليلة، اطلقت تركيا اول اشارة صريحة وعلنية تدل على مخاوفها وخشيتها من «التمدد» الكردي في شمال سوريا، وبالتحديد في مناطق متاخمة لحدودها في محافظتي الحسكة بشكل رئيسي، والرقة بدرجة اقل، وبعض جيوب وبؤر في منطقة حلب، اذ قال ناطق بلسان انقرة ان بلاده تقف ضد اي تقسيم للجغرافيا السورية.

 يبدو الامر ليس جديداً بالنسبة الى راصدي ردة فعل حكومة رجب طيب اردوغان حيال سعي اكراد سوريا بزعامة حزب سياسي يعتبر امتداداً عسكرياً وعقائدياً اي «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبدالله اوجلان، الى تكريس واقع جيوسياسي جديد في بقعة جغرافية سورية تحوي عملياً ما لا يقل عن ثلاثة ملايين كردي يحمل قسم منهم الجنسية، والقسم المتبقي يقيم في الاراضي السورية منذ عقود عدة مستغلاً بطبيعة الحال وعداً ضمنياً من نظام الرئيس بشار الاسد بالاقرار بحقوق الاكراد قد تصل الى حدود الحكم الذاتي، اذا انهوا تذبذبهم السياسي، واخذوا خيار الوقوف في وجه المجموعات السورية المعارضة التي فتحت معركة اسقاط نظام دمشق، من دون اي مواربة وجعلته هدفاً ومضت قدماً بالسلاح لتحقيقه.
وليس جديداً ان انقرة استدعت صالح مسلم زعيم الحزب الديموقراطي الكردي الابرز في سوريا، وحذرته وجهاً لوجه من اي فعل يكرس واقعاً يشجع اكراد تركيا الذين قد يصل تعدادهم حسب معظم الاحصاءات الى نحو 20 مليون نسمة، على المضي قدماً في مواجهة انقرة وعلى الاستمرار في حربهم المفتوحة منذ عقود مع تركيا، بلوغاً لاهداف وغايات سياسية باتت معروفة.

خطوة وقائية
وبناء على هذه المخاوف المزمنة والمتجددة في آن، وفي خطوة وقائية لـ «تطويق» الميدان السوري وبالتحديد الجزء الذي يتمدد فيه اكراد هذا البلد عنوة على حساب الفصائل والمجموعات المتمردة على النظام السوري، كان الانفتاح التركي اللافت على العراق بشقيه العربي والكردي في الايام القليلة الماضية.
فبعد فترة من «الغزل» والتهدئة بين انقرة وبغداد من عناوينها اولاً وقف الحملات الاعلامية المتبادلة، وابداء حسن النيات والتأكيد على المصالح المشتركة وزيارات اولية كانت ذروتها في وصول وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو الى بغداد في زيارة وصفت بالتاريخية ان لجهة الزمان او لجهة الظروف التي احاطت بها وفرضتها، فضلاً عن كون هذه الزيارة اطلقت مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين التي شهدت فتوراً منذ اكثر من عامين.
زيارة اوغلو الذي رافقه وفد رفيع المستوى هي تمهيد لحدث متوقع اكثر دلالة وتطوراً يتجسد في زيارات متبادلة بين رئيسي حكومتي البلدين نوري المالكي ورجب طيب اردوغان توطئة لعلاقات ثنائية ثابتة ومستقرة ومتكافئة بين البلدين وفق بيان صدر عن مكتب المالكي بعد لقائه اوغلو.
وفي خطوة اتت من خارج كل الحسابات والتوقعات حط اوغلو رحاله في النجف حيث اجتمع الى المرجع الاعلى للشيعة في العالم علي السيستاني ومن ثم انتقل الى كربلاء المجاورة ليلتقي بـ «صديقه» (كما وصفه) زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
ولا ريب في ان الزيارة انطوت على ابعاد تتصل بـ «مسار السياسة الخارجية الجديدة لحكومة اردوغان التي يبدو انها ارادت اقصى درجات الانفتاح في الساحة العراقية، وبالتحديد الى مكون ولاعب تدرك انقرة، انه اساسي وان كان لا يظهر في مقدمة المشهد، اي المرجع الاعلى اضافة الى الشخصيات «المشاكسة» دوماً وهي الصدر الذي يسعى دوماً للسير في خط سياسي متفرد وحتى عن فريقه السياسي المتمثل بالائتلاف الوطني العراقي».

 مد الجسور
وبهكذا خطوة قدم اوغلو لمن يعنيهم الامر وبالتحديد للعراقيين ان بلاده باتت تمد جسور العلاقة مع كل مكونات المشهد السياسي الطائفي والمذهبي العراقي، بعدما «نصبت» نفسها لفترة طويلة «راعية» لمكون واحد في الساحة العراقية وهو المكون السني، ودافعت عنه في وجه ما قالت انه ممارسات طائفية لحكومة نوري المالكي مما ادى الى تصدعات ظاهرة في العلاقة بين الطرفين، ولا سيما بعد رد
المالكي مطالباً حكومة انقرة بالكف عن التدخل في الشأن العراقي.
وفي ذهاب مباشر الى الهدف الاساسي التركي في هذه المرحلة، وهو «تطويق» المخاطر الناجمة عن حراك اكراد سوريا، كانت الدعوة التي وجهتها انقرة الى زعيم كردستان العراق مسعود البرزاني لزيارة تركيا، مختارة ان تكون محطة الزيارة هي ديار بكر وليس انقرة على سبيل المثال.
وهذا الامر لمن يعرف خريطة المعادلات الجيوسياسية والديموغرافية لتركيا، يدرك ان ديار بكر هي العاصمة الاساسية للمنطقة الكردية التركية، ودائرة الحراك التاريخي الابرز لأكراد تركيا الذين دخلوا في حالة احتراب وتصارع تاريخي مع تركيا.
وفي هذه المدينة استقبل المسؤولون الاكراد الزعيم التاريخي لاكراد العراق وصاحب الكلمة الاولى في الاقليم الماضي قدماً وبثبات في طريق تعزيز استقلاله من بغداد وان طال الزمن، والذي يضم ايضاً نحو 7 ملايين كردي، فضلاً عن انه بين جنباته يتمركز آلاف المقاتلين التابعين لحزب العمال الكردستاني حيث يجد هذا الحزب بيئة حاضنة وشريحة متعاطفة كانت على الدوام هدفاً لغارات الطيران الحربي التركي، وهو يطارد جماعة اوجلان.
العلاقة بين البرزاني وانقرة لم تنقطع في يوم من الايام حتى في ذروة ازمات تركيا مع الاكراد، لكن زيارة الاول هذه المرة الى ديار بكر تنطوي على معان وابعاد تتصل بهدف تركيا الاساس في هذه المرحلة، وهو محاصرة قوة اكراد سوريا المنتشين بلحظة مؤاتية، ويتعاطون معها على اساس ان فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق اهداف ومقاصد وحقوق يعتبرونها مشروعة ويمكن انجازها، وعلى الاقل من خلال استغلال لحظة «الضعف» التي عاشها ويعيشها النظام السوري بعد انفجار ثورات معارضيه مما افضى الى ضعف قبضته الامنية وتراجع قدراته العسكرية وخصوصاً في العامين المنصرمين على وجه التحديد.

البرزاني في ديار بكر
ثمة ولا ريب من يزعم بأن حضور البرزاني شخصياً الى ديار بكر، لن يغير من واقع الحال شيئاً، واستطراداً لن يخفض من منسوب «عداء» اكراد تركيا لحكام انقرة، كون هؤلاء في توجهات وحسابات مختلفة عن الوادي الذي يقبع فيه البرزاني حساباته، فضلاً عن ان لاكراد تركيا زعيمهم السياسي التاريخي وهو اوجلان القابع في السجون منذ عام 1999، ولم تأت بعد فرصة مبايعة زعيم آخر ولم تقنعهم بعد التسويات التي قدمتها تركيا لحل معضلة الاكراد في تركيا، ولكن في المقابل ثمة من يرى ان انقرة تريد الا تترك فرصة معينة الا وتقف فيها على «خواطر اكرادها واكراد المنطقة عموماً»، وتسعى لمد الجسور معهم والتقليل من مستوى مخاوفهم، توطئة لتطبيع العلاقة معهم.
وليس افضل من البرزاني لهذه المهمة، ابن اكبر زعيم تاريخي كردي وهو الملا مصطفى البرزاني، وهو ايضاً الاقوى وبلا منازع بين قومه في شمال العراق. وايضاً وايضاً من بعث برسالة واضحة الى اكراد سوريا «المنتفضين» ضد الثوار في الساحة السورية، فحواها انه ليس في وارد دعمهم وانه يتوجب عليهم عدم الاتكال على اكراد العراق، في سعيهم المستجد هذا.
وقد ترجم هذا الموقف من خلال امور عدة ابرزها:
– رفضه دخول الزعيم الابرز لاكراد سوريا في هذه المرحلة اي صالح مسلم الى اقليم كردستان العراق، واقامته هناك او توفير مساعدات وعناصر دعم ورفد اخرى.
– انه لم يظهر اي «حفاوة» بـ «ثورة» اكراد سوريا، وسعيهم الجلي الى تحقيق الحكم الذاتي، فنأى بنفسه وبإقليمه عن هذا الوضع المعقد الناشىء على حدوده.
وفي كل الاحوال، فإن تركيا دخلت مجدداً الى الساحة العراقية اما لاسترضاء من كانت في حالة نفور معهم، وهم شيعة العراق، واما لتوثيق علاقتها مع مكون اساسي من المشهد العراقي وهو اكراد العراق، وعينها على مكان آخر تماماً، تسعى لبلوع جملة اهداف ابرزها وفق العديد من العارفين بالشأن التركي:
اولاً: ان انقرة ولجت فعلياً مرحلة الحد من تداعيات تدخلها الواسع والواضح في الساحة السورية وفتح ابواب الدعم المطلق لمعارضي النظام.
ثانياً: ان انقرة تدرك قبل سواها ان ثمة مرحلة من التسويات والتفاهمات ترتسم معالمها تدريجياً في المنطقة انطلاقاً من التفاهم الاميركي –  السوري وامتداداً الى الانفتاح الاميركي على طهران، وصولاً الى مؤتمر «جنيف – 2» وهي لا تريد ان تنضج هذه التفاهمات وهي خارج السياق، بل ربما تحمل اثماناً قد لا تكون في الحسبان.
ثالثاً: ان تركيا باتت كما هو معلوم طرفاً في الصراع السوري، واستطراداً في صراعات المنطقة فهي صارت راعية «الاخوان المسلمين» سواء في سوريا، حيث هم طرف سياسي في الصراع الدامي مع نظام الاسد وفي مصر حيث صاروا منذ فترة خارج السلطة وفي السجون ويصارعون بشق النفس للحصول على مكاسب خسروها بأسرع مما كانوا يظنون ويحتسبون.

تحولات
انها اذاً لحظة اقتراب التحولات في المنطقة في ضوء معطى اساسي وهو صمود النظام السوري واخفاق جهود كيري التي بذلت خلال نحو ثلاثة اعوام لاسقاطه وكانت انقرة شريكة اساسية في هذه الجهود.
اضافة الى ذلك، فإن الاخوان المسلمين صاروا طرفاً في صراعات تتعدى الساحتين السورية والمصرية على حد سواء، فهم ضمن محور تركي – قطري على درجة من القطيعة مع عواصم فاعلة في الخليج وفي مقدمها الرياض.
الى ذلك، فإن ثمة في انقرة من يخشى ان تدخل «الالوية» والمجموعات الاخوانية التي نشأت اصلاً لتقاتل قوات النظام في سوريا، في صراعات مع قوى ومجموعات اخرى معارضة للنظام وهي تسعى للامساك بزمام ساحة المعارضة في سوريا مثل دولة «داعش» وسواها.
ومهما يكن من امر، فالانفتاح التركي على بغداد ضمن سياقات غير مسبوقة هو عبارة عن عبور الى مراحل اخرى وحسابات اكثر تعقيداً ورهانات جديدة في ظل معطيات سياسية سريعة التحول.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق