سياسة عربية

السلطة الفلسطينية: انجازان يحرجان اسرائيل

نجحت السلطة الفلسطينية في الايام القليلة الماضية، في تحقيق انجازين اثنين. الاول: انها «حشرت» اسرائيل في الزاوية عندما اتهمتها بقتل الزعيم الفلسطيني التاريخي الراحل ياسر عرفات اغتيالاً بعدما اثبت تقرير المختبر السويسري العثور على كميات عالية من مادة «البولوتيوم» في جثمانه. الثاني: انها نجحت في تظهير نفسها بمظهر «المظلوم» في مفاوضات السلام الدائرة منذ فترة بين ممثلين عنها، وبين الجانب الاسرائيلي.

 نجحت السلطة الفلسطينية بإظهار الكيان الصهيوني بمظهر المعتدي الاثيم من خلال استمراره في عملية بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، الى درجة ان وزير الخارجية الاميركية جون كيري الذي زار بيت لحم وتل ابيب اخيراً، في اطار جولة له في المنطقة تحدث صراحة بعد لقائه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عن ان الاستيطان الاسرائيلي المستمر عمل غير شرعي ومضر بمسار المفاوضات. واكثر من ذلك، لوح بورقة انتفاضة فلسطينية في وجه الجانب الاسرائيلي اذا ما استمر هذا الجانب في تعنته وعدم تعامله الجدي مع مسار مفاوضات السلام ومقتضيات هذه المفاوضات.
وهكذا وخلال اقل من اسبوع ومن خلال هاتين الضربتين نجحت سلطة رام الله في «قلب الطاولة» وخرجت مما كان يعتقده البعض من انه ازمتها، وبدت تماماً في موقع المواجه والواقف بالمرصاد لمخططات الاحتلال الاسرائيلي ومؤامراته ومكائده.
فالمعلوم ان هذا الاحتلال شاء ان تكون مفاوضاته مع الجانب الفلسطيني محطة لتكبيل يدي هذا الجانب عن اي فعل من جهة، ولافتعال المزيد من التصدعات والخلافات داخل الشارع الفلسطيني المتشطر بشكل نصفي تقريباً بين مؤيد لهذه المفاوضات ومراهن على نتائجها، ومعارض لها بشدة، معتبراً انها مضيعة للوقت واهدار للكرامة الفلسطينية من جهة ثانية.

محطة استنزاف
وعموماً، اراد الاسرائيليون ان تكون جلسات المفاوضات البعيدة عن الاضواء التي عاد اليها الفلسطيني رغماً عنه وبفعل ضغوط اميركية – غربية شديدة، محطة لاستنزاف الفلسطيني واغراقه في المزيد من الازمات، وجعل هذه المفاوضات غطاء لمزيد من مشاريع التوطين.
وبالفعل عانى الجانب الفلسطيني المفاوض من سلبيات عدة خلال اشهر المفاوضات الستة، وخصوصاً ان الفصائل الفلسطينية المعارضة للمفاوضات استمرت في نهج التشكيك شبه اليومي بهذه المفاوضات وبنتائجها ومستقبلها ومخاطرها، وهو تشكيك كان منسوبه يرتفع مع كل «صدام» يحدث بين الفلسطينيين والمستوطنين، خصوصاً في المسجد الاقصى في القدس، ومع كل اعلان اسرائيلي عن استدراج عروض جديدة لبناء وحدات استيطانية جديدة في اراض الضفة الغربية، ومع كل اعتداء يتم في قطاع غزة، وعلى بلدات وقرى اخرى في الضفة الغربية المحتلة.
وعليه، اضطرت السلطة الفلسطينية في الايام القليلة الماضية الى القيام بردة فعل ضد ممارسات الاحتلال بدأت بتلويح رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض صائب عريقات بالاستقالة من منصبه والانسحاب من جلسات المفاوضات. ومن ثم عملية الكشف عن معطيات ووقائع جديدة تؤكد ان اسرائيل هي التي كانت وراء تسميم ياسر عرفات بشكل بطيء مهد لموته لاحقاً في احد المستشفيات الفرنسية قبل اعوام.
كما هو معلوم، المسألة برمتها ليست جديدة على الاطلاق، فهي ظهرت منذ وفاة عرفات، بل ابان نقله عليلاً وفي حالة يرثى لها من قصر اقامة السلطة الفلسطينية في رام الله، الى باريس، لخضوعه للمعالجة بعدما عجز «كونسلتو» الاطباء الفلسطيني والعربي والدولي عن تحديد نوع مرضه
ومعالجته في الضفة الغربية المحتلة.
وبالطبع، كلف اطباء اختصاصيون من الجانب الفلسطيني لجلاء ملابسات وفاة المؤسس العملي لحركة النضال الفلسطيني حتى منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي، والرمز الفلسطيني الاول وبلا منازع حتى لحظة انتقاله الى الرفيق الاعلى. لكن ملف الموضوع طوي ثم عاد ليخرج من الادراج مجدداً بين مناسبة واخرى، الى ان تمت اعادته الى الضوء بشكل كلي ومباشر في الاسابيع القليلة الماضية.

 استغلال
وبصرف النظر عما يمكن ان تؤول اليه هذه القضية التي ستظل ولا ريب حبة تتفاعل على مدى الايام، وبصرف النظر عن رفض اسرائيل لهذه التهمة، فالواضح ان الجانب الفلسطيني استغل هذه القضية الحساسة والمهمة احسن استغلال، وساهم في اثارتها محلياً ودولياً في وجه الاحتلال الاسرائيلي الى درجة انها احرجت فعلاً الحكومة الصهيونية ودفعتها الى التعامل معها، والرد عليها بشكل اكثر جدي
ة من ذي قبل، خصوصاً ان التقرير الطبي الذي يكشف عملية اغتيال «ابو عمار» بواسطة مادة سامة جاء من مختبر سويسري لا يرقى اليه الشك.
فضلاً عن ذلك، فإن السلطة الفلسطينية اعلنت انها ستأخذ على عاتقها اثارة هذه القضية في اعلى المحافل الدولية المختصة، وخصوصاً مع فرنسا، وانها قد تلجأ الى خيار مقاضاة الكيان الاسرائيلي على ارتكابه «هذه الجريمة».
وبطبيعة الحال، اتت اثارة هذا الملف في وقت وصول رئيس الديبلوماسية الاميركية كيري الى المنطقة واطلاقه كلاماً ربما لم يقله اي مسؤول اميركي سابق، ولا سيما عن الاستيطان الاسرائيلي ومخاطره وعن التلويح بورقة الانتفاضة الثالثة التي لم يكن الفلسطينيون انفسهم يجرأون على الحديث عنها لتشكيل مادة اساسية تصب في خدمة السلطة الفلسطينية التي كانت حتى تلك اللحظة تبدو في حالة انكفاء وقصور عن فعل اي شيء يدفع عنها اتهامات الفصائل الفلسطينية المعارضة من جهة و«نظرات» الشارع الفلسطيني القلقة من مسار الاوضاع في الضفة الغربية، ولا سيما في ضوء تصاعد الممارسات العدوانية الصهيونية في المسجد الاقصى في القدس وسواها من الامور الاخرى، مثل موضوع الاستيطان الذي بات يشكل ورقة تحد دائمة واستفزازاً للانسان الفلسطيني مهما كان انتماؤه وميوله.


طرف مبادر
وبناء على كل هذه العوامل التي تعد ايجابية وتصب في خانة الجانب الفلسطيني، انتقلت السلطة ورموزها من كونها الطرف المحكوم عليه بالحصار والقصور والاستنزاف المادي والمعنوي الى كونه طرفاً  مبادراً بمقدوره الوقوف في وجه الصلف والخبث والمكر الاسرائيلية وقلب الطاولة والمشهد.
وهكذا سارع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى زيارة القاهرة، للقاء كبار المسؤولين المصريين في اطار جولة خارجية له ستشمل العديد من العواصم العربية وغير العربية.
وفي غضون ذلك اعدت السلطة الفلسطينية مجموعة وفود ستزور عواصم عربية واسلامية عدة، لاثارة موضوع الانتهاكات والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على احد  مقدسات المسلمين كافة وهو المسجد الاقصى، ولالقاء الضوء على مخاطر التهويد الحقيقية لهذا المسجد وما يمثله، وضرورة الشروع بعمل عربي – اسلامي موحد لمواجهة هذه المخاطر ولمنع اسرائيل من الاستمرار في تنفيذ اعتداءاتها وم
خططاتها التي باتت مكشوفة ومعروفة.
بالطبع ليست المرة الاولى التي تقرع فيها السلطة الفلسطينية ناقوس الخطر على المسجد الاقصى، وليست المرة الاولى التي يتنادى فيها العرب والمسلمون للقيام بعمل مشترك لحماية هذا المقدس، ولكن الحراك هذه المرة وفي هذه المرحلة بالذات سيكون له معنى خاص، اذ سيعيد هذا الموضوع الى دائرة الضوء والاهتمام، واستطراداً سيعيد القضية الفلسطينية برمتها الى دائرة الاهتمام بعدما خال الكثيرون وبنوا الحسابات على اساس انها ستكون احدى ابرز ضحايا ثورات «الربيع العربي» حيث سينشغل العالم العربي بثوراته وبربيعه وبما يمكن ان ينتج عن هذه الثورات من تعديات ومشاكل وانقسامات، وبالتالي
سيسهل على الكيان العبري اسقاط كل مواقع الممانعة والصمود في الجسم الفلسطيني الذي يعاني اصلاً من علل وامراض عدة زادتها بطبيعة الحال الانقسامات الفلسطينية العمودية والتي بلغت حد التصارع على الارض وعلى السلطة وعلى زعم تمثيل الشعب الفلسطيني وتطلعاته.

 تطورات ايجابية
ولم يعد خافياً ان الكثير من المراقبين وضعوا في حساباتهم ان الفلسطيني دخل في مرحلة ضياع ونسيان، وخصوصاً مع صعود الاسلاميين ابتداءً من رأس هرم السلطة في مصر قبل اشهر عدة، ومع اشتعال فتيل الاحداث في الساحة السورية التي كانت تشكل سنداً حقيقياً للقضية الفلسطينية وملاذاً لقيادة حركة «حماس».
لذا فإن ثمة من ينظر بإيجابية بالغة الى التطورات الاخيرة على المستوى الفلسطيني والى اداء السلطة الفلسطينية وحراكها المفاجىء الذي رغم تواضعه، نفض الى حد بعيد غبار النسيان عن هذه القضية واعادها الى دائرة الضوء والى الوجدان العربي على وجه التحديد، ومن خلال قضية اغتيال الرمز الفلسطيني التاريخي عرفات.
وثمة امر مهم يتوقف عنده المراقبون بإهتمام، وهو الدور الذي تضطلع به السلطة الفلسطينية في الساحتين اللبنانية والسورية، حيث نجحت الجهود المكثفة التي بذلها مبعوثو السلطة المركزية في رام الله الى بيروت في تحييد المخيمات الفلسطينية في لبنان عن الخلافات والصراعات التي عصفت بمناطق لبنانية عدة، وخصوصاً في شرقي صيدا، وهو امر اقر به واثنت عليه كل الاطراف اللبنانية وكانت قاسماً مشتركاً بينها.
وفي الساحة السورية، نجح موفد السلطة الفلسطينية في ابقاء جسور التواصل مع النظام في سوريا من جهة، وهم يبذلون عبر القيادي زكي الاغا جهوداً كبرى لحماية مخيم اليرموك القريب من دمشق من جهة، ولاخراج الفلسطيني من شبهة التدخل في الصراعات السورية المتفاقمة بلا هوادة منذ عامين ونصف العام، وهي الصراعات التي تهدد عملياً الوجود الفلسطيني اللاجىء في سوريا، وعلاقته بالنسيج السوري.
ومهما يكن من امر، فإن الواضح ان السلطة الفلسطينية بدأت تعيد وضع نفسها في قلب المعادلات في المنطقة.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق