.. ولا زالت اديث بياف رمز الاغنية الفرنسية في العالم
نصف قرن مضى على وفاة المغنية الفرنسية الاسطورية اديث بياف، ولا زالت أهم رمز من رموز الأغنية الفرنسية. سكتت بياف عن الغناء واغمضت عينيها عن الحياة في شهر تشرين الاول (اكتوبر) من العام 1963، وهي في السابعة والاربعين من عمرها… لكن صوتها لم يخفت بعد خمسين عاماً على وفاتها، وهو ما زال «يصدح» كالجرس ويعد الصوت الغنائي النسائي الفرنسي الاكثر شهرة، صوتاً حملها من ارصفة حيّها الباريسي في بيلفيل الى قمة عالم الغناء في العالم.
احيت العاصمة الفرنسية ومحبو اديث بياف الذكرى الخمسين لوفاة المغنية الفرنسية الاسطورية التي عرفت في العالم بأسره خصوصاً باغنية «لا في آن روز»، وتجمع نحو مئتي شخص امام مقابر بير لاشيز (Père Lachaise) في باريس حيث دفنت المغنية قبل ان يتوجهوا الى حضور مراسم دينية في كنيسة سان-جان-باتيست التي تعمدت فيها طفلة في حي بيلفيل (Belleville) حيث ولدت بياف وهجرتها والدتها.
«طفلة باريس» الاكثر شهرة
رغم مرور نصف قرن على رحيلها، لا تزال «طفلة باريس» بلا منازع من أعظم الأصوات الغنائية في فرنسا، حيث تبقى نموذجاً عن المغامرة الباريسية التي يصنع فيها الفنان نفسه بنفسه، إذ تمكنت بفضل عبقريتها من الخروج من حياة الشقاء إلى أنوار النجومية، وانتشلتها أذرع عشاقها من «الزحمة» لترتقي بها إلى «الحياة الوردية».
ولدت إديث جيوفانا غاسيون عام 1915 في حي «بيلفيل» الشعبي في الدائرة الباريسية الـ 11 حيث يتسنى اليوم لمحبيها وللسياح زيارة المقاهي التي صدحت فيها بأغاني الحب والعذاب طوال سنوات، وحيث شيد تمثال يخلد ذكراها في شارع «بلغران». وتنحدر بياف من عائلة ذات أصول مغاربية وإيطالية، وهي ورثت جمال الصوت عن والدتها ذات الأصول الجزائرية، والإيطالية والتي كانت مطربة شعبية معروفة. والدها هو لويس الفونس غاسيون مسرحي من أصول ايطالية وعارض بهلواني في الشوارع الباريسية. بعد طلاق والديها، تولت تربيتها جدتها لأمها الجزائرية عائشة سعيد بن محمد.
لقبت الفنانة بـ «طفلة باريس» التي كبرت على أرصفتها مستجدية في بداياتها كرم المارة بصوتها العذب، إلى أن فتح لها أحد أصحاب الملاهي الليلية في باريس لويس لوبليه أبواب محله لتخطو تدريجياً نحو الشهرة.
بين شعراء باريس وفنانيها
عاشت بياف حياة «الصعاليك» بين شعراء باريس وفنانيها. فخلال الهزات الكثيرة التي عصفت بحياتها، التقت بياف بالعديد من الفنانين الكبار، كالممثل موريس شوفالييه والشاعر جاك بورجيه و جان كوكتو الذي اصبح الصديق المقرّب لها.
ترك هذا الجو الفني والشعري بصماته عليها فصارت بياف تكتب الكثير من أشعار أغنياتها، وتشارك الموسيقيين ألحان معظم تلك الأغنيات. والى ذلك اهتمت بياف بالمواهب الغنائية والموسيقية الشابة آنذاك وقامت برعايتها، فكانت هي وراء ظهور نجوم مثل ايف مونتان عام 1944 وشارل ازنافور عام 1950 الذي ساندته كثيراً وكانت تصطحبه معها في سفرها الدائم خارج فرنسا الى اوروبا واميركا وغيرهما. كما اعطت الفرصة لاول ظهور لهيكتور روبرتو شافيرو مغني الفولكلور الارجنتيني الاشهر على مسرحها.
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية ، سارعت بياف بكل عاطفتها للتنقل بين الجبهات تغني للجنود الفرنسيين وسط دخان الموت لتخفف بعضاً من أحزانهم وأوجاعهم. وبعد نهاية الحرب، واصلت تجوالها الذي سيتخطى هذه المرة تخوم أوروبا ليصل الى أميركا، حيث ذاع صيتها ليمتد إلى كل الأرجاء، ولتصبح بياف اول فرنسية تغزو اميركا بصوتها وبأغانيها، خصوصاً مع الاغنية التي طارت شهرتها في كل أرجاء العالم «لافي آن روز».
لعوب مع الرجال غير لطيفة مع النساء
امضت بياف حياتها القصيرة وهي تغني الحب والحياة، أما حياتها الشخصية فكانت تسودها الفوضى والحركة الدائمة. كانت لعوباً مع الرجال، عشقها رجال كثيرون وعشقت هي القليل منهم، ولم يعرف عنها انها كانت لطيفة مع النساء على الاطلاق. وكانت قائمة علاقاتها العاطفية لا تحصى ولا تعد، ومنها قصتها مع الملاكم مارسيل سيردان والرياضي لويس جيراردان والمغني جورج موستاكي والمغني إيف مونتان الذي غنى بعد فراقها إحدى أجمل الأغاني الفرنسية «الأوراق الذابلة…».
وإن كانت بياف لعوباً مع الرجال وقضت حياتها في سلسلة مأساوية بين اللقاء والوداع، فلعل الأهم بالنسبة اليها كان حبها الأول مارسيل سيردان، الذي توفي عام 1949 في حادث طائرة كانت تقله إلى نيويورك حيث كانت بياف في انتظاره هناك.
صدمة فقدانه ألقت ببياف في دوامة من الإدمان على المخدرات والكحول فزادت مصيرها درامية، وتقاطعت حياتها الشخصية مع حياتها الفنية في ذروة الألم والولع اللذين صارا لا يفارقان أغانيها. وشاءت الأقدار أن تكتب بياف «نشيد الحب» لمارسيل سيردان حيث أعربت في كلماته عن خوفها من «يوم قد ينتزعك مني».
بحثاً عن «الحياة الوردية»
ولم تكف بياف عن البحث عن «الحياة الوردية» بين أحضان رجال أصغر منها، وتزوجت مرتين: الأولى عام 1952 ولغاية العام 1956 من المغني جاك بيلز. أما الثانية فمن المزيّن ثيوفانيس لامبوكاس الذي كان يصغرها بعشرين عاماً والذي تحول في ما بعد مغنياً وممثلاً، وقد تزوجا قبل عام واحد فقط من وفاتها.
وترتقي الصدف في مسيرة بياف إلى تراجيدية بمعناها المسرحي، اقترنت فيها الحياة بالموت الى حد الثمالة، فأسكرت صوتها ونحتت اسمها في سجلات التاريخ. فحتى أحد أقرب أصدقائها وهو الكاتب الشهير جان كوكتو والذي كرّس كتابة مسرحيته الشهيرة “Le Bel Indifférent” من أجلها، توفي بعد بضع ساعات من وفاتها، ويرجح البعض أن قلبه الضعيف توقف بعد أن علم برحيل صديقته.
ومن المؤكد أن شاعرية أغاني بياف مشحونة بالمرارة والأمل في آن واحد على غرار ما جاء في أغنيتها الشهيرة «لا أندم على شيء».
بياف الحاضرة ابداً
وأوصت بياف «بعد موتي أرجوكم لا تبكوني. بل عيشوا، وأحبوا وافرحوا، وإلا فلستم أوفياء لي». وعندما انطفأت المغنية عن عمر ناهز الـ 47 عاماً إثر نزيف داخلي بعد ان تمكن منها مرض سرطان الكبد، رافق عشرات الآلاف من المحبين نعشها إلى مقبرة «بير لاشيز» في باريس.
وما زالت إديث بياف حاضرة في فرنسا بالقوة نفسها في الذكرى الخمسين لوفاتها، حيث صدرت العديد من المؤلفات التي تحكي مسيرتها الفنية وحياتها الخاصة كما أقيمت الكثير من التظاهرات.
كما احتفل بالذكرى في الخارج كذلك، بعدما كانت قد غزت «الطفلة» قاعات نيويورك التي غنت فيها بالإنكليزية واكتسبت شعبية لم ينجح أي فنان فرنسي آخر في طمسها، فنظم في نيويورك أول حفل للفرنكوفونية وكان تكريماً لذكرى الراحلة.
ولا تزال روح بياف ترفرف في مختلف القارات التي تنتشر فيها أغانيها اليوم، روح ساحرة ومعذبة، تراوح بين الحزن والفرح، ويطغى فيها حب الحياة على القطيعة العاطفية، روح الحرية والاستفزاز: روح فرنسا كما خلدتها إديث في المخيلة الجماعية.
تركت اديث بياف وراءها ارثاً كبيراً من الاغنيات من أشهرها Rien de Rien, La Vie En Rose, Padam.. Padam وكان الألبوم الأخير الذي سجلته عام 1963 وهو L’Homme de Berlin. مثلت افلاماً عديدة أولها عام 1936 واسمه La garçonne وآخرها Les Amants de demain عام 1956 .