آدب

جوزف شيبان: أميركا اكتشفها أبناء فينيقيا لا كريستوف كولومبوس!

من الشخصيات البارزة التي التقيتها في الزمن الغابر، المحامي والمؤرخ والمغترب اللبناني جوزف شيبان الذي كان ينزل بين ظهرانينا خلال صيف سنة 1963، بمناسبة انعقاد احد المؤتمرات الاغترابية التي تقيمها «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم»، وكان للمحامي الدكتور نعمة اللّه شدياق – ابن بلدة غزير اللبنانية الذي تحوّل اسمه في ديار الاغتراب الى نتاليو شدياق – الدور البارز في تأسيس هذه المؤسسة اللبنانية العالمية في خدمة لبنان وابنائه المنتشرين في كل اصقاع الارض، بالتعاون مع رفيق دربه في كوبا، وأحد اركان «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» الأمين العام الاسبق مالك شلهوب. ولكن هذا الحلم الكبير الذي حققه نتاليو شدياق بعد جهود مضنية، لم يلبث ان اخذ يتبدد وينهار بعدما تحولت «الجامعة» الى «جامعات». ولنا في عدد مقبل حوار مع مالك شلهوب الذي يضيء من خلاله على دور ذلك الانسان المميز نتاليو شدياق، وذلك على هامش انعقاد مؤتمر «الجامعة» الجديد خلال الشهر الحالي.

اسباب عدة جعلتني ألتقي يومها بأحد أركان «الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم» المؤرخ جوزف شيبان، الذي كان يقيم في فندق فينيسيا مع عائلته.

سبعة اسباب
السبب الاول: لأن جوزف شيبان هو احد اولئك الذين غادروا وطنهم وهم لا يملكون شيئاً من حطام الدنيا… ولكنهم لم يلبثوا ان بنوا لأنفسهم، في دنيا الاغتراب، الامجاد الكبيرة، اين منها امجاد اجدادهم الفينيقيين… ورأسمالهم الوحيد في هذه الحياة، الرجولة والعبقرية والطموح.
ثانياً: لأن اسم جوزف شيبان هو من الاسماء التي ذاع صيتها في الولايات المتحدة الاميركية، وهو الرجل العصامي الذي يحتل مركزاً مرموقاً، في عالم المال والاعمال.
ثالثاً: لانه كان يحتل مركز رئيس الجمعية اللبنانية السورية في الولايات المتحدة الاميركية، ومن اكثر المغتربين تفهماً لقضايا وشؤون الشطر المغترب هناك.
رابعاً: لانه المحامي اللبناني البارع الذي سطع نجمه في ميدان المحاماة كأحسن ما يكون السطوع، وتبوأ المركز اللائق به.
خامساً: لانه الاديب اللامع. او بالاحرى، المؤرخ الذي كتب تاريخ هذه الرقعة الصغيرة من الارض، منذ آلاف السنين، بكثير من الصدق والحب والامانة.
سادساً: لانه الانسان المتوقد الذكاء، الذي يتقن لغات اجنبية عدة، الى جانب اللغة العربية التي يعمل كل ما في وسعه من اجل ان تبقى هذه اللغة حيّة ترزق بين صفوف الجالية، خصوصاً اولئك الذين وُلدوا في الغربة.
سابعاً واخيراً: لان جوزف شيبان هو ابن بيت شباب البلدة التي انتمي اليها، وتأتي في مقدمة القرى والبلدات اللبنانية، من حيث الهجرة نحو مختلف بلدان العالم، وبنوع خاص، البلدان الافريقية.

ذكريات عبرت
في ذهني الكثير من الذكريات عن هذا اللقاء الطويل الذي يعود تاريخه الى ما قبل نصف قرن بالتمام والكمال. ولست ادري ما مصير ذلك المغترب الذي لم يعد الى وطنه؟!
بكثير من الاهتمام والانتباه كنت استمع الى الاخبار المختلفة التي كان يرويها المستر شيبان… وتراني اليوم، استعيد بعض ما بقي في ذاكرتي.
حدثني اكثر ما حدثني عن الناحية الفكرية في حياته، خصوصاً حول الكتاب التاريخي القيّم الذي وضعه باللغة الانكليزية، متجاهلاً بقية الانجازات والانتصارات التي حققها في مختلف حقول الحياة… لعله من الذين يعتقدون بأن كل شيء في الحياة مصيره الزوال، ما عدا شيئاً واحداً، ألا وهو الفكر، وحده الخالد خلود الزمن.

خطوات الجبابرة
«لنتبع الآلهة» هو العنوان الذي اختاره المؤرخ جوزف شيبان لكتابه، وكان له الصدى العميق في نفوس الذين تتبعوا خطوات الآلهة الجبابرة، وهم اول من اقتحموا البحار على متن سفن صنعت من خشب الأرز، وتم لهم اكتشاف المجاهل البعيدة، وتلقين البشرية مبادىء الحضارة والمدنية، حاملين الى جانب البضائع والسلع النادرة حروف الابجدية التي هي في الاساس اول حجر في ارتفاع حصون العلم والنور.
ومن خلال ما سمعته من مؤلف «لنتبع الآلهة» تبيّن لي ان هذا الكتاب، هو من دون ريب، عمل فكري جبار، استغرق تأليفه 20 سنة في التنقيب والبحث والتدقيق في مختلف الكتب والمصادر التاريخية على اختلافها، منذ اقدم العصور وحتى الامس القريب… ذلك كله، من اجل ان يأتي الكتاب المذكور صورة صادقة، ومرجعاً تاريخياً شاملاً لكل من اراد ان يكوّن فكرة عن منطقة الشرق الاوسط بشكل عام، ولبنان بشكل خاص، في ذلك الزمن البعيد.

ما اهمله التاريخ
لقد ذكر المؤلف في هذه الدراسة التاريخية، كل شاردة وواردة حول الدور الرائد و العظيم الذي مثّله لبنان «مهد الفينيقية» - هذه الرقعة الصغيرة من الارض التي تضم  عدداً ضئيلاً من السكان بالنسبة الى سائر بلدان العالم – منذ القديم، في مختلف ميادين الحياة…
والعامل الرئيسي الذي دفع المؤرخ على وضع هذه الدراسة عن صفحة مضيئة من تاريخنا، هو في الدرجة الاولى، الحاجة الماسة الى من يسجل هذا التاريخ على حقيقته، لا كما سجلته الاقلام الغريبة، واعطاء ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه، وان يعرف الناس في كل زمان ومكان ان الذي اكتشف القارة الاميركية ليس كريستوف كولومبوس، كما يزعم البعض، بل ابناء فينيقيا بالذات، وذلك بالحجج والبراهين الدامغة التي لا تقبل الجدل… وان يعرف الناس في كل زمان ومكان ان اول اسطول بحري في العالم انطلق من هنا، من البحر الابيض المتوسط.
ويذكر جوزف شيبان، ان البحر الكراييبي يحمل اسماً من عندنا، من لبنان، اي «بحر الغريب»، وان كلمة فاشيست مصدرها «الفأس»، وغير ذلك من الحقائق التاريخية التي حاول الغرب طمسها بكثير من الجرأة والوقاحة!
وكانت امنيته ان يُترجم كتابه الى مختلف لغات العالم ليكون مرجعاً لكل طالب معرفة.

تحت كل سماء!
كما سبق وذكرت، فان جوزف شيبان ينتمي الى بلدة بيت شباب التي ابصر فيها نور الحياة سنة 1909، ثم لم يلبث ان هجرها عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره للالتحاق بوالديه اللذين غادرا لبنان في مرحلة من اقسى مراحل تاريخه حيث استفحلت هجرة ابناء هذا الوطن الصغير هرباً من ظلم وشظف عيش وإرضاء لطموح يضج في الصدور فكان التوفيق حليف القسم الاكبر منهم في ديار الهجرة، وبنوع خاص في القارة الاميركية، حيث حقق اللبناني النصر تلو النصر في مختلف الحقول، في السياسة والادب والفن والعلم والتجارة والاقتصاد، والى ما هنالك من حقول المعرفة… حتى صار للبنان تحت كل سماء منزلة محترمة لدى جميع شعوب الأرض، وصار اللبناني رمزاً للعصامية والطموح.
… غادرا لبنان الى مدينة «بانغ ستونغ» في ولاية اوهايو، والطريف في الموضوع، هو ان ترجمة كلمة يانغ ستونغ بالعربية تعني بيت شباب.
وهكذا، يكون المستر شيبان، قد انتقل من بيت شباب البلدة اللبنانية الهادئة، الوادعة… الى «بيت شباب» الاميركية المدينة الشامخة، الصاخبة.

لقد تغيّر الزمن!
أذكر، انه عندما سألته عن الشبه بين هذه وتلك، أجابني بإختصار، والابتسامة على ثغره: «هذه مدينة صناعية… وتلك ايضاً، مدينة صناعية»! باعتبار ان بيت شباب كانت في الماضي البعيد والقريب، بلدة صناعية بامتياز، يوم كانت انوالها تنسج اجمل انواع النسيج (الديما)، ورنين الاجراس التي صنعت في مصانعها لا مثيل له في الدنيا، ومن الصلصال صنع اهلها اروع الاواني الفخارية المختلفة الاحجام والاشكال…
لقد تغيّر زمنك يا بيت شباب!
وسألته ايضاً: ما الفارق بين الاولى والثانية؟
اجابني: «الاولى عددها ضئيل جداً بالنسبة الى الثانية التي تعد ما يقارب النصف مليون نسمة… والجدير بالذكر، انه لا يوجد بين هذا العدد الكبير من الناس سوى عائلتي فقط من بيت شباب، واخرى من آل نفاع».

لولا الحنين
واخيراً سألت جوزف شيبان: ألا تتمنى العودة نهائياً الى لبنان والسكن في مسقط رأسك بيت شباب؟
كان جوابه وكأنه يعبّر عن الاغتراب بشكل عام، والمنتشر في كل بقعة من بقاع القارة الاميركية، قائلاً: «حنيننا الى الوطن دفعنا للقدوم اليه… ولولا الحنين الى الوطن وحرقة الفراق، لكنّا اسعد الناس في العالم. اننا نفاخر بأصلنا وبلبناننا، ونفاخر ايضاً، بأننا سكان اعظم دولة في التاريخ…».
ثم اخذ يردّد مع الشاعر العباسي ابو تمّام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب الا للحبيب الاولِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزلِ.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق