رئيسيسياسة عربية

العراق على شفير مهاوي الحرب الاهلية

كل الظواهر الامنية والسياسية في كل الساحة العراقية، تذكر العراقيين بسنوات الحرب الاهلية التي اتفق الكثيرون على انها ولّت وصارت جزءاً من ماض بغيض ومقيت. وعليه فالسؤال المطروح الذي يقض مضاجع العراقيين: هل ما زال بالامكان تلافي هذه الكأس المرة مجدداً؟

ظاهرة التفجيرات بواسطة سيارات مفخخة واحزمة ناسفة يرتديها انتحاريون في المساجد ومجالس العزاء والتي حصدت حتى الان المئات، تذكر بالحقبة الكريهة الممتدة بين عامي 2006 و2008 التي ألقت بظلالها الثقيلة الوطأة حيث كانت المجازر ترتكب بالجملة في وضح النهار.
ظاهرة الجثث المجهولة الملقاة في شوارع بغداد التي تكاثرت خلال الايام القليلة الماضية، تعيد العراقيين بالذاكرة الى تلك الايام حيث كانت فرق الموت والتصفيات والخطف، تجول باحثة تحت ظلمة جناح الليالي او حتى في وضح النهار لتخطف العابرين او القابعين في منازلهم، الى مصير مجهول، حتى ان الناس في طول العراق وعرضه، ما زالوا يتذكرون كيف امتلأت مياه نهر دجلة على ضحالتها بعشرات الجثث، حتى بات هذا النهر الذي كان على مدى اعوام بالنسبة الى العراقيين مصدر متعة او انس او بهجة، نذير شؤم.

 تهجير جماعي
وظاهرة التهجير الجماعي للمواطنين على اساس مذهبي وطائفي وعرقي من مناطق معينة، والتي عانى منها العراقيون في الماضي القريب، وادت الى خروج ما يقارب من مليوني نسمة من ديارهم واحيائهم، فارين الى خارج حدود العراق او حاملين وجعهم واحباطهم وخوفهم، نازحين الى مناطق اخرى بحثاً عن امان واستقرار، عادت لتدق بعنف ابواب ونوافذ الذاكرة العراقية، ولا سيما بعدما تناهت الى سمع العراقيين انباء ومعلومات عن عمليات تهجير لشريحة عراقية معينة من مدن وقرى من محافظات الجنوب العراقي الى درجة ان مشايخ ووجهاء هذه الشريحة اوصدوا ابواب مساجدهم وامتنعوا عن تأدية الصلاة فيها، كمظهر من مظاهر الاحتجاج الشديد اللهجة على ما يتعرضون له من صنوف المضايقات.
والظاهرة عينها عادت لتتكرر في بعض مدن وبلدات محافظات الوسط العراقي، والهدف مجموعات تنتمي الى لون مذهبي معين، ما برحت تقطن في هاتيك النواحي، كما كان دأبها ودأب اسلافها منذ عقود وعقود.
وفي محافظات الوسط ايضاً، ما زال المعارضون لحكومة نوري المالكي يعتصمون في الساحات والميادين احتجاجاً على اداء هذه الحكومة ومنهجها ولا سيما لجهة اقصائهم وتهميشهم، وبعد صلاة كل جمعة يخرجون الى الساحات ليطلقوا رؤاهم وشعاراتهم السياسية التي ما زالت تتراوح بين حد اقصى يدعو الى اللجوء الى المطالبة بإقامة الاقاليم الفيدرالية، توطئة للاستقلال عن المركز، وحد ادنى يدعو الى رحيل حكومة المالكي بأي شكل من الاشكال.
التظاهرات والاعتصامات واطلاق الشعارات ليست بالامر المستجد فهي تعود الى مطلع العام الجاري، وتعبر ضمناً عن امرين:
الاول: عجز الحكومة العراقية عن فتح قنوات حوار جدي معهم يخرجهم من الشارع ويعيدهم الى كنف الدولة العراقية، وينهي هذه الظاهرة المسيئة للواقع العراقي والمعطلة لمسار العملية السياسية.
الثاني: يعبر عن عجز المحتجين عن تطوير حراكهم على نحو يجعلهم ينتزعون المطالب التي يرفعون لواءها، او يحققون القسم الاكبر منها، فظلوا يراوحون في العجز ويظهرون التباينات بين بعضهم.

انقسامات وخلافات
واللافت في الايام القليلة الماضية، ان هؤلاء المحتجين اضافوا مادة جديدة الى خطابهم السياسي والى لائحة شعاراتهم الطويلة، تعبر فعلاً عن حدة الانقسامات والخلافات في الشارع العراقي، وعن مدى الاحتقان السياسي الذي بات سمة من سمات الوضع في العراق، وهي مادة اتهام الحكومة العراقية بالسكوت عن عمليات التهجير التي تطاول عائلات بعينها من محافظات الجنوب العراقي، الى درجة انهم اطلقوا على تحركهم نهار الجمعة ما قبل الماضي، اسم «النصر لمساجدنا وعشائرنا في الجنوب».
اذاً كل الوقائع والمعطيات السياسية في الساحة العراقية، تنم بوضوح عن مخاطر كامنة قد تعيد عجلة الامور الى المرحلة التي كلما تذكرها العراقيون على اختلافهم، تجرعوا المرارة والاسى نظراً لما انطوت عليه من ذكريات كارثية وصور اجرامية مأساوية.
وعليه، سارع المرجع الاعلى في النجف علي السيستاني الى اطلاق صرخة التحذير من مآل هذا الوضع داعياً الى عمل سريع يحول دون انزلاق الاوضاع الى ما لا تحمد عقباه، اذ حرم على لسان ممثله الابرز في كربلاء عبد المهدي الكربلائي من عمليات التهجير الطائفية المتبادلة التي شهدتها محافظات عدة اخيراً، معتبراً انها اشد فتكاً من التفجير بالسيارات المفخخة.
وقال الكربلائي: «ان هذه الاحداث تستدعي من العقلاء الحذر من استمرارها لأنها ستكون لها نتائج خطيرة على وحدة النسيج الاجتماعي والوطني في العراق، بل يصبح كل شيء في خطر مع استمرار الاستهداف الطائفي المتقابل».

 ايجابيات
هذا الكلام الذي اعتبر بمثابة فتوى بتحريم حازم وجازم للاقتتال وعمليات التهجير والرد على التفجيرات باستهداف فئة معينة او التعرض لمساجدها ومقدساتها، يحمل في طياته ايجابيات عدة تعزز الثقة لدى فريق من المراقبين للشأن العراقي ما برح يراهن ضمناً على الحيلولة دون انزلاق الوضع العراقي المحتقن نحو مهاوي الفتنة
والانفجار على نطاق واسع يقرب البلاد من شكل من اشكال الحروب الاهلية. ومن هذه الايجابيات:
– ان فتاوى مماثلة صدرت عن السيستاني خلال السنوات الممتدة بين 2006 و2007 ساهمت الى حد بعيد بشهادة معظم الافرقاء العراقيين في الحؤول دون الانزلاق اكثر نحو مستنقع الحرب الاهلية، وكانت هذه الفتاوى التي لجمت من اندفاعة شيعة العراق الى الانخراط كلياً في اتون المواجهات الطائفية، بمثابة عنصر مكمل لجهود قوى وتيارات سنية اساسية وقفت حينذاك بشكل حازم وجازم في وجه ممارسات المجموعات التكفيرية والارهابية ولا سيما تلك المنضوية تحت لواء تنظيم «القاعدة» وحالت دون امساكها بالوضع في محافظات الوسط ذات الغالبية السنية، ومنعتها من اقامة امارتها، ومن المضي قدماً في اتجاه فرض مناخات حرب اهلية على اساس مذهبي، ولا سيما بعدما برزت في ذلك الحين، مجالس الصحوة واخذت دورها المباشر في مواجهة تنظيم «القاعدة» وحالت دون تمدده وترسيخ هيمنته وقبضته واجبرته لاحقاً على الانكفاء والاختفاء.
– ان فتوى السيستاني الاخيرة بتحريم الانجرار نحو ردات الفعل والتهجير والتطهير الطائفي، كانت مقدمة لفتوى مماثلة اصدرها الزعيم السياسي الديني مقتدى الصدر، وحرم فيها «الاعتداء على اهل السنة ومساجدهم كرد فعل على استهداف تجمعات شيعية»، معتبراً ان «ذلك قد يؤدي بالعراق الى هاوية سحيقة لا يمكن الخروج منها وخيانة الامانة التي في اعناقنا اي الحفاظ على وحدة العراق».
– ان صدور هذه المواقف والفتاوى عن المرجع الاعلى في النجف وعن رجل دين هو ايضاً بمثابة زعيم لتيار سياسي واسع ووازن في طول البلاد وعرضها، ترك ارتياحاً لدى مراجع الطرف الاخر، وهو واقع جديد يمكن البناء عليه لعمل مشترك وجامع من شأنه ان يعيد الامور الى نصابها، ويخفض الى حد بعيد من منسوب التوتر والاحتقان المتأتي بالاصل من عودة المجموعات الارهابية والتخريبية الى توجيه ضرباتها الموجعة عبر العودة الى اسلوب السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة للتجمعات المدنية.

مؤتمر وطني
واذا كانت المرجعية الدينية في النجف قد بادرت سريعاً الى الاضطلاع بدور يقف في وجه الانزلاق السريع نحو عودة الاحتراب الاهلي عبر فتاوى التحريم، فإن قسماً من الطبقة السياسية العراقية قد بادر ايضاً الى حراك مشابه، تمثل في دعوة الحكومة العراقية برئاسة المالكي الى عقد مؤتمر وطني خلال الاسبوع الماضي في بغداد، تمخضت عنه وثيقة «الشرف والسلم الاجتماعي» التي وقعها زعماء معظم الكتل السياسية الممثلة بالبرلمان العراقي.
ولقد تميز هذا المؤتمر بجملة امور ابرزها:
– ان المالكي دعا الى الالتزام ببنود هذه الوثيقة نظراً الى خطورة ما تمر به البلاد من هدر للدماء واثارة للطائفية، لافتاً الى ان «العراق في لهيب هذه الفتنة لان المنطقة اصبحت مرة اخرى ساخنة كما كانت في الاعوام الماضية وتشهد حالة انفجار وانتشار الارهاب والعراق اصبح مسرحاً لها».
وعليه، يقر المالكي بحقيقة ان العراق صار في عين العاصفة التي تهب رياحها الحارة على المنطقة عموماً، انطلاقاً من الساحة السورية.
– لذا فإن ثمة من يشبه وثيقة «الشرف والسلم الاجتماعي» بأنها مشابهة الى حد ما في كثير من جوانبها بـ «اعلان بعبدا» الذي توصل اليه الافرقاء اللبنانيون في بداية الاحداث المشتعلة في سوريا، على امل ان تكون تكريساً لسياسة النأي بالنفس عن الحدث السوري قبل ان يخرق هذا المبدأ بفعل تدخلات الاطراف اللبنانية في الحدث في سوريا.
– ان اللافت كان تغيب افرقاء اساسيين عن المؤتمر وهم: زعيم «القائمة العراقية» اياد علاوي وزعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر واحد ابرز الزعامات السنية ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك، لكن ذلك لم يقلل من اهمية المؤتمر واهمية الوثيقة التي صدرت عنه بعدما تم التوقيع عليها من جانب اطراف اساسية تمثل مختلف الوان الطيف السياسي والطائفي العراقي.
ومما لا شك فيه، ان ثمة حركة لافتة يقوم بها رئيس مجلس النواب العراقي اسامة النجيفي في اطار حماية الساحة العراقية من ارتدادات الزلزال الذي يهز المنطقة، وخصوصاً في الساحة السورية التي تركت تأثيراتها وتداعياتها على كل دول الجوار.
فالمعلوم ان النجيفي هو الذي اعطى نصاباً وطنياً بمشاركته في هذا المؤتمر واضطلع بدور اساسي في انجاحه، فضلاً عن انه يجول على كل عواصم ودول الجوار العراقي حاملاً مشروع حل في سوريا والعراق.

سباق بين السلام والفتنة
وفي كل الاحوال، يبدو جلياً ان العراق بات في ربع الساعة الاخيرة قبل الانزلاق نحو الفتنة، ولا شك في ان النخبة السياسية والدينية هي في سباق مع الوقت للحيلولة دون هذا الانزلاق المنطوي على مخاطر جمة، خصوصاً ان المجموعات الارهابية ضاعفت جهودها وغيرت من انماط عملياتها واعدت العدة بشكل شبه كامل بغية تهيئة مناخ اعادة تفجير الساحة العراقية، مستفيدة من حال الانقسام التي تسود المنطقة بفعل الصراعات في سوريا وامتداداتها الى لبنان والعراق وتركيا.
والسؤال المطروح بإلحاح: هل تنجح فعلاً هذه الجهود في هذه المرحلة بالذات كما نجحت قبل نحو 5 اعوام في ضبط الوضع والحؤول دون الانزلاق نحو الفتنة والحرب الاهلية؟
حتى الان ما برحت القوى العراقية الاساسية تتعاطى مع الاحتقان الحاصل على كل المستويات على اساس انه تحت السيطرة ويمكن استيعاب تداعياته ونتائجه.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق