سياسة عربية

العراق: فضيحة الفرار التاريخي من سجنين كبيرين تضع المالكي امام المواجهة الصعبة

فتحت عملية تهريب اكثر من 800 سجين من سجني ابو غريب والناجي في قلب بغداد، قبل فترة قصيرة وجلهم من تنظيم «القاعدة» ومنهم عدد كبير من قيادات هذا التنظيم، الابواب امام امور اساسية في المسرح السياسي العراقي، وانعكاساتها على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وعلى وضع حكومته وعلى العلاقة بين مكونات التحالف السياسي الذي يحمي المالكي ويصد الهجمات السياسية المتلاحقة عليه، واستطراداً يؤمن ديمومته في موقعه بعدما كاد خلال الاشهر السابقة ان يتهاوى، نظراً لشراسة حملات معارضيه وخصومه عليه.

ولعل ابرز هذه الامور:
1- ان المالكي اصيب بنوع غير مسبوق من الارباك والفوضى السياسية امام قاعدته وخصومه على حد سواء، فبدت كل وعوده واجراءاته السابقة لتحصين الوضع الامني هزيلة وواهنة وبلا صدقية، ولا سيما ان عملية اقتحام ابرز سجنين في بغداد واطلاق هذا العدد الكبير من السجناء، تمت للمرة الثانية خلال اقل من سنة.
اضافة الى ذلك، فإن العملية التي تمت في وضح النهار، قوبلت بردود فعل متعددة للمالكي نفسه ولاجراءاته ولادائه السياسي عموماً، من الحلفاء والخصوم على حد سواء، لدرجة ان احد كبار وكلاء المرجع الاعلى في النجف الاشرف، اعتبر صراحة في خطبة له فرار السجناء بأنه «فضيحة ما بعدها فضيحة» تؤشر على مدى هشاشة وضعف الاستعدادات الامنية الحكومية.
2- وضع المالكي وحكومته مأزوم على المستويين السياسي والامني منذ زمن بعيد، رغم صموده في موقعه والحاقه ضربات متتالية بخصومه، الا ان «ضربة» فرار السجناء السياسيين والمتهمين بـ «اعمال ارهابية»، زادت من ازمة المالكي وحكومته، ودفعت به الى مراحل غير مسبوقة، وخصوصاً على مستوى ردة فعله المرتبكة، وعدم قدرته على تقديم تبرير او مسوغ مقبول ومعقول لهذا التطور الامني المنطوي على مخاطر كبرى ودلالات سلبية، خصوصاً انه يكاد يكون عبارة عن قصة معروفة معلنة سلفاً، لان ابرز زعيم لتنظيم «القاعدة» في العراق اعلن اكثر من مرة سابقاً انه في صدد القيام بعملية واسعة النطاق وعلى مدى زمني بعيد هدفها اقتحام السجون العراقية وتحرير سجناء تنظيم «القاعدة»، اطلق عليها اسم «حملة هدم الاسوار»، وكان ذلك الاعلان في العام 2012.

تنصل المالكي
3- رغم ذلك زاد المالكي من حدة ازمته ومن مستوى ارتباكه وضعفه عندما راح يتنصل من مسؤولية ما حصل ولا يقر بضعف ادائه وذهب الى حد تحميل المسؤولية لسواه وبالتحديد الى طرفين:
الاول: عسكري وهم حراس السجن وضباطه، اذ اتهمهم بأنهم هم من تواطأوا وتعاونوا مع الارهابيين بغية تهريب السجناء، وبأنهم صاروا عبارة عن ميليشيا. وزاد في الطين بلة، انه لوح بضلوع «جيش المهدي» وهي الذراع العسكرية التاريخية للتيار الصدري في تهريب سجناء السجنين الاشهرين في العراق، واللذين من المفترض انهما يتمتعان بإجراءات وتدابير امنية استثنائية.
الثاني: سياسي، اذ بادر المالكي الى فتح ابواب مواجهة سياسية مع القوى التي يفترض انها واياه في شراكة سياسية واحدة، وفي مركب سياسي واحد، وعلى وجه الخصوص التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الاسلامي العراقي بقيادة عمار الحكيم.
وقد جاء ذلك على خلفية اتهام هذين الحليفين بعدم التعاون معه ومع حكومته بالصورة التي ينبغي وبالشروط الواجبة لحماية الحكومة وتحصين مسيرتها السياسية.
وكان من البديهي ان يبادر هذان الطرفان الى نفي ودحض التهم التي ساقها المالكي لهما في آن معاً، ولكن المفاجىء انهما ذهبا في معرض المواجهة السياسية للمالكي وفي معرض الرد عليه الى حد التلويح بفرط عقد التحالف الوطني العراقي الذي تشكل كما هو معلوم وبقوة الحاجة الملحة لمكوناته، بعد فترة قصيرة على ظهور نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة في العراق، والتي جرت في العام 2010، والتي ابرزت ضرورة جمع هذا التحالف لكي تضمن القوى الشيعية الاساسية العودة الى منصب رئاسة الوزراء، وخصوصاً قد شكلت النتيجة التي حصلت عليها القائمة العراقية بزعامة اياد علاوي، عنصر منافسة  اساسياً للمالكي على المنصب الاهم في رأس هرم السلطة في العراق.

مرجعية النجف
ولم يعد خافياً ان ضغوط وتوجيهات مرجعية النجف لعبت ايضاً دوراً اساسياً في تركيب هذا التحالف على عجل وفي ازالة موقتة للتعارضات والتناقضات في داخله.
ولقد صار معلوماً ايضاً ان هذا التحالف شكل الحصن الحصين للمالكي والدرع الواقي له في وجه حملات خصومه المتكررة عليه وعلى حكومته لدرجة انها كادت تنجح في سحب الثقة منه وفي اقصائه عن المنصب الذي يشغله منذ عام 2005.
واللافت في هذا الموضوع ان التلويح بخطر انفراط عقد التحالف الوطني اتى هذه المرة من حزب الحكيم المعروف بالمجلس الاسلامي الاعلى في العراق وهو الاطار السياسي الذي اعتاد مساره المالكي الى اقصى الحدود، والى غض الطرف عن اخطائه وممارساته، وذلك حرصاً منه على استمرار توازنات الساحة العراقية، والحيلولة دون اختلالها لمصلحة الخصم المشترك.
ليس بالامر المستجد ان يوجه التيار الصدري وزعيمه الصدر واركان هذا التيار انتقادات للمالكي ولنهجه وادائه، فهذا التيار اعتاد ان يقتنص اي تطور ويغتنم اية فرصة من  شأنها ان تضع المالكي في دائرة الحصار والاتهام.
فلقد صار معروفاً ان التيار الصدري انضم الى دائرة المعارضين للمالكي قبل اكثر من سنة، وخصوصاً القائمة العراقية بزعامة علاوي والتحالف الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، فأمن نصاباً وطنياً لحراكهم المعارض.

التيار الصدري
وفي مستهل حركة الاحتجاجات والاعتصامات التي تشهدها محافظات الوسط الثلاث ضد سياسة المالكي واداء حكومته، المفضية الى تهميشهم، ما لبث التيار الصدري ان اعرب وفي اكثر من مناسبة، عن دعمه لهذا الحراك ونظم رحلات ووفوداً الى ميادين الاعتصامات لابداء التضامن والدعم والاسناد للحراك وللمطالب التي يرفع المحتجون لواءها.
وعندما طرحت في مجلس النواب مسألة تحديد ولاية رئاسة الجمهورية والحكومة في العراق لولايتين فقط، وهو ما قطع الطريق سلفاً امام عودة المالكي الى المنصب الذي يحتله منذ نحو عشرة اعوام، كان التيار الصدري اول الداعمين والمؤيدين لهذا الطرح الذي اثار مساحة كبرى من السجال والجدال.
وبين هذا وذاك، ثمة «حروب صغيرة» سياسية واعلامية وحتى ادارية كانت تندلع بين «التيار الصدري» والمالكي، وخصوصاً ان التيار بدا دوماً حريصاً على اظهار تمايزه السياسي عن المالكي وحتى عن شركائه في التحالف الوطني.
لكن المفاجىء الذي اظهرته التطورات الاخيرة وبالتحديد تداعيات حدث اقتحام سجني ابو غريب والناجي في بغداد، هو ان ثمة بداية فراق او افتراق بين المالكي من جهة وحزب الحكيم من جهة ثانية، فرموز تيار الحكيم لم يكتفوا فقط بدحض اتهامات المالكي لهم وللتيار الصدري، بل اعتبروا ان هناك خللاً في حكومة المالكي نفسها، وهي تتحمل الجزء الاكبر من هذا الاخفاق الحاصل.
وذهب احد نواب تيار الحكيم الى ابعد من ذلك، عندما قال ان الخلل الاكبر هو في ادارة الدولة وفي هيكلية العملية السياسية والتوافقات التي ادت الى تشكيل الحكومة، وما تبعتها من خلافات.
واضاف: «ان الفساد المستشري في مفاصل الدولة والاداء غير الجيد لمؤسساتها هما نتاج هذه الحالة التي ستؤدي الى الفشل».

ادانة
ولا ريب في ان في كلام احد رموز تيار الحكيم اكثر من دفع لاتهام وجيه للتيار، اذ ينطوي صراحة على ادانة نهج سياسي متكامل قاده المالكي واتسم بـ «الخلل والاخفاق».
وليس من الضرورة ووفق اكثر المراقبين ان يؤدي هذا التوتر، خصوصاً في العلاقة بين المالكي وتيار الحكيم فعلاً الى طي صفحة التحالف السياسي الواسع الذي ضمن للمالكي طريق العودة للمرة الثانية الى سدة رئاسة الحكومة، في وقت بدت السبل امام هذه العودة موصدة تماماً ولاشهر عدة، لكن الجلي ان هذا السجال المستجد بين الطرفين في هذه المرحلة بالذات، من شأنه ان يكشف عن امرين اساسيين:
الاول: ان وحدة التحالف الوطني التي صمدت بصعوبة خلال الاعوام الثلاثة الماضية باتت اخيراً قابلة للاهتزاز، او بمعنى اخر يبدي الطرفان المعنيان استعدادهما الضمني للنزول الى ميدان المواجهة السياسية والاعلامية خلافاً للمرات السابقة التي يزعم فيها تيار الحكيم انه عض اكثر من مرة على جراح اتته من سهام شريكه في التحالف، حرصاً منه على وحدة الصف من جهة، ورغبه منه في مواجهة مصاعب المرحلة الامنية والسياسية والاقتصادية.
الثاني: ان المالكي من خلال اطلاقه هذا الكلام الجديد نسبياً بحق شريكيه الاساسيين في التحالف السياسي، انما بدأ يشعر وكأنه ترك وحيداً لقدره في مواجهة الانواء والمصاعب السياسية التي تتضاعف حولها على الساحة العراقية في اعقاب اندلاع الاحداث الامنية المشتعلة على الساحة السورية المجاورة، واخفاق الحكومة العراقية في تحاشي تداعيات هذه الاحداث ونتائجها وتأثيراتها على ساحتها، وخصوصاً خلال العام المنصرم.

المسؤول الوحيد
وثمة من متابعي الشأن العراقي من يستنتج ان المالكي بات يشعر انه يتحمل وحده كل تبعات الاعوام الثلاثة الماضية وما انطوت عليه من صراعات وتحديات واخفاقات، وخصوصاً بعد ان قرر الرجل فتح باب المواجهة الشرسة مع القائمة العراقية والمكونات والقوى المنضوية تحت لوائها، وما نتج عن هذه المواجهة من نتائج واثار وذيول ما برحت تلقي بظلالها الثقيلة الوطأة على الساحة العراقية من خلال هذا الانقسام السياسي الحاد، ومن خلال هذا التصعيد الامني غير المسبوق والذي اعاد الى اذهان الكثيرين صور التدهور الامني الرهيب الذي عاشته البلاد بين عامي 2006 و2008 وقد وضعها على شفا حرب اهلية وطائفية قتل فيها الآلاف وتهجر عشرات الآلاف ايضاً.
قد لا يكون التحالف الوطني على وشك الانفراط النهائي، فما زال حاجة اساسية لكل مكوناته، ولكن الاكيد ان ثمة حاجة كبرى للملمة صفوفه، ومنع تدحرج الازمات والصراعات بين القوى المشكلة له وعلى عجل.

ابرهيم بيرم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق