آدب

جوزف صايغ: رغم كل شيء لا تزال الخيوط تشدني الى هذا الوطن

كتب جوزف صايغ الكثير من الشعر، والقليل من النثر. بلغ عدد الكتب الشعرية خمسة عشر كتاباً، اما الكتب النثرية فلم يتجاوز عددها الثلاثة، حتى سنة 2007. وصدر له حديثاً، عن «دار نلسن» في بيروت، كتاب بعنوان «حوار مع الفكر الغربي»، وآخر بعنوان «وطن المستحيل»، وصار عدد كتبه النثرية خمسة فقط. من هنا، باستطاعتي القول، انه شاعر قبل اي شيء آخر، وبامتياز. وبمناسبة صدور كتابيه «حوار مع الفكر الغربي» الذي يندرج ضمن أدب الحوار، وهو يعتبر ان «الحوار احتكاك بين مزاجين وفكرين: فامّا هو يصادف الشرارة التي تنيره، بل تلهبه، واما يسقط في البرودة والتسطح»، ومن ثم، كتاب «الوطن المستحيل» الذي يندرج في خانة أدب المقالة، الفكرية الغاضبة والرافضة… – بهذه المناسبة، عقدت ندوة حولهما، دعت اليها «دار نلسن» في «دار الندوة» في بيروت.

في البدء، تحدث الكاتب سليمان بختي، لافتاً الى اننا عرفنا جوزف صايغ شاعراً، وها نحن نراه في كتابه «حوار مع الفكر الغربي» محاوراً لبقاً وعميقاً، وعلى مسافة نقدية بينة مع الذين حاورهم من رموز واقطاب المشهد الثقافي الفرنسي في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم. اما في كتابه «الوطن المستحيل» فهو في قلب سيرة فكرية صراعية عبر المقالات التي تناولت الغلط في واقعنا والذي قضى بالنهاية الى الوطن المستحيل. آمن صايغ بأن الحياة لا تنهض إلا بالفكر، وكذلك الأوطان والمجتمعات.
وخلص سليمان بختي الى القول، جوزف صايغ في الكتابين، عينه على الكلمة والحب والحقيقة، وعينه على الأحلام ان تستمر ويبقى الأمل رغم المرارات.

حديث عن اسم آخر
الناقد والشاعر سلمان زين الدين استهل كلامه بالقول، ان لجوزف صايغ اسماء كثيرة، غير ان أحبّها اليه هو الشاعر، فهذا الصائغ ما برح يرتكب الشعر منذ نعومة اظفاره، وما يزال ينقّب عن ذهب الجمال ويصوغه حلى وقلائد تطوق جيد الزمان، حتى أربى عدد مجموعاته الشعرية على خمس عشرة مجموعة، ما جعله يستحق موقعه على خريطة الشعر العربي.
ومع هذا، فهو لم يتحدث عن الشاعر بل عن اسم آخر من اسماء جوزف صايغ، هو المحاور من خلال كتابه الجديد «حوار مع الفكر الغربي».

اصطدام بالغرب
يذكر سلمان زين الدين، ان العلاقة مع الآخر الغربي لطالما شكلت محور اهتمام الادباء والكتّاب الشرقيين الذين اصطدموا بالغرب، وراحوا يرصدون ترددات الاصطدام في مؤلفاتهم، وقد تمخض عن هذه العلاقة نتاج وفير في حقول معرفية شتى. ولعل كتاب «حوار مع الفكر الغربي» للشاعر اللبناني جوزف صايغ هو احد آخر تمظهرات هذه العلاقة، على ان الكتاب ليس اول تمظهر لاصطدام الشاعر بالغرب، فجوزف صايغ، المقيم في باريس منذ عقود، المتحدّر من ثقافة عربية شرقية، المطلع على الثقافة الغربية، سبق له ان عبّر عن هذه العلاقة شعراً من خلال مطولته الشعرية «القصيدة باريس»، ومجموعته «الديوان الغربي»، غير ان شكل التعبير، هذه المرة، يختلف عن المرتين السابقتين، فكتابه الجديد هو مجموعة حوارات مع مفكرين وأدباء غربيين ترقى الى اوائل سنوات الحرب اللبنانية وتحديداً العامين 1977 و1978.

حوار مع الآخر
يرى الناقد سلمان زين الدين، ان الحوار مع الآخر الغربي كثيراً ما يسقط في أحد مطبين اثنين، الاول ان يتم الحوار تحت وطأة الاعجاب والانبهار به، وبكلمة اخرى، تحت الشعور بالنقص ازاءه ما يجعل المحاور يدور في فلكه ويبدو مجرد مرآة له. والثاني ان يتم الحوار تحت وطأة رفض الآخر وعدم قبوله، لمجرد اختلافه عن المحاور في الدين او الثقافة او العرق، ما يمسخ الآخر، ويجانب الحقيقة. ويفرغ الحوار من مضمونه. ولحسن الحظ ان جوزف صايغ لم يسقط في اي من المطبين المذكورين، فهو متحرّر من عقدة النقص ومن عقدة الرفض، وهو المقيم بين ظهرانَي الآخر، المشبع بثقافته، يأتي الى الحوار من موقع الندّ للندّ…

رصد دقيق للكتاب
في رصده الدقيق لكتاب «حوار مع الفكر الغربي» يشير سلمان زين الدين، الى انه حوار مع ثمانية وعشرين مفكراً او اديباً فرنسياً، وبذلك، يكون المؤلف قد اختصر الفكر الغربي بالفرنسيين والمنتجين باللغة  الفرنسية، ويكون عنوان الكتاب اشمل من مادته، على تنوعها وشمولها، في الشكل والمضمون.
في الشكل، يرى زين الدين، ان جوزف صايغ تعمّد المعيار التاريخي في ترتيب مادة الكتاب غير انه يخرق هذا المعيار في حواره مع رينه إتيامبل، وجان بيار فاي، وجان ريكاردو، ولا يذكر تاريخ الحوار مع افيم اتكين، وروبير ساباتييه، ويورد المادة المتعلقة بشخصية معينة في الحيزّ نفسه على تعدد تواريخها كما حصل مع جان دور مسون. اما طبيعة المادة المنشورة فهي متنوعة في الشكل ايضاً، ثمة ما يجمع بينها، وثمة ما يمايز. في هذا السياق يجمع بين الحوارات ان كلاً منها يتألف من تمهيد، ومقابلة مباشرة او غير مباشرة. ويمايز بينها ان بعضها اضيف اليه مقال او شهادة او ردّ، وان بعضها اضيفت اليه مختارات من نتاج الضيف. وفي عملية احصائية سريعة، تتألف مادة الكتاب من سبعة وعشرين تمهيداً، سبع وعشرين مقابلة مباشرة، مقابلة واحدة غير مباشرة مع لوبرانس – رانغيه، ثلاثة مقالات، مختارات من اربع شخصيات، شهادة واحدة من جاك بيرك في رولان بارت، ردّ واحد من المطران جورج خضر على فرجيل جورجيو، ولا يوجد مقابلة مع تييري مولنييه، وفي الشكل ايضاً، تتتفاوت هذه المواد في المساحة، سواء أتعلق الأمر بالتمهيد او المقابلة او المقال او المختارات.

من الشكل الى المضمون
من جهة اخرى، يرى سلمان زين الدين، تلازم التنوّع في الشكل مع تنوّع في المضمون ووضعية المتحاورين، فقد يكون الحوار هادئاً او مناظرة او سجالاً، وقد يكون متوتراً مستفزاً كما في الحوار مع آلان روب – غريّيه. واذا كان التنوع في الحوار الواحد وهو ناجم عن تعدّد اهتمامات الشخصية الواحدة وتنوعها، فاندريه ميكل، على سبيل المثال، استاذ وباحث وقاص. وجان لاكوتير كاتب سياسي واستاذ جامعي. وهيرفيه بازان روائي وشاعر. وميشال بوتور روائي واستاذ جامعي. ورولان بارت سيميائي وألسني وعالم ميثولوجيا وناقد وباحث. وآلان روب – غريّيه روائي ومهندس زراعي ومخرج سينمائي…

اسئلة متنوعة
في محاورة ضيوفه، لفت سلمان زين الدين، الى ان جوزف صايغ يتخذ من السؤال اداة لسبر اغوارهم واستخراج ما لديهم من افكار وآراء وانطباعات، غير انه لا يستخدم هذه الاداة بصيغة جامدة تقليدية، واسئلته ليست جامدة بمعظمها او محضّرة سابقاً بل يستولدها الحوار نفسه، وهذا ما يجعله اقرب الى تبادل الرأي بين المحاوِر والمحاوَر، ويزيل التراتبية بينهما، وقد يوافق الثاني الاول في آرائه وانطباعاته واستنتاجاته.
ويخلص سلمان زين الدين الى القول، ان في حواراته يطرح صايغ اسئلته في الحرب والسياسة والأدب والفن والفلسفة والتاريخ. ولعل احدى اهم النتائج التي خلص اليها جوزف صايغ في حواره مع الفكر الغربي، هي ان بين ابنائنا بضعة لا تقل اهمية عن امثالها في الغرب، لكن وجودهم في مجتمعات صغيرة ومتخلفة يفقدهم اهميتهم وحجمهم. فمساحة الدماغ من مساحة الارض ونفوذ الاديب من نفوذ بلاده.

ازمة فكرية
اما الاديب ميشال معيكي، فاعتبر ان كتاب «الوطن المستحيل»، هو في قلب ازمة فكرية مفادها اليأس من قيام وطن. هذا الكتاب شكّل اخراج قيد ضمّنه جوزف صايغ تلاوين افكاره، في الأدب والمرأة والحب والوطن والايمان والسياسة واليأس… وصولاً الى «إغراء الهاوية»، كما يقول.
ولفت ميشال معيكي، الى ان بعض مقالات هذا الكتاب بيانات ثورية تنعى الوطن وابناءه، وتشتم الزعامات والقادة والمسؤولين، وتكفر بكل الاسس التي قام عليها…

معركة خاسرة!
ويرى معيكي، ان كتاب «الوطن المستحيل» هو توثيق لمراحل الرجل في مسارات وطن يركن اليه… وان جوزف صايغ قاد معركة خاسرة ضد التنانين، أدّت الى تدمير الذات اولاً، وتدمير للشرق الذي في لبنان وفي نفس المؤلف، وللغرب الذي ليس في لبنان وفي نفسه، والى كُفر بالعروبة والغروبة، والعقائد والعقائديين…
ويخلص ميشال معيكي الى القول، ان هذه الغربة المطلقة التي غاص فيها جوزف صايغ عميقاً، جعلتنا نذعر معه. الوطن المستحيل، ربما… ولكن ألسنا محكومين بالأمل لتنمو فينا قليلاً، قمحة الرجاء في الحياة؟!

كلمة المؤلف
وبعد مداخلات من: معن بشور ومحمد بعلبكي وياسين رفاعية وفوزي محيدلي، اعطي الكلام لصاحب الكتابين، فقال: «هاجرت الى باريس قبل خمسين سنة، لم استطع ان اتابع طريق الجلجلة لهذا الوطن المستحيل، أنتم اقوى مني. لم استطع ان اتحمل كل هذا الغلط وكل ما هو دون كرامة الانسان. بقي لديّ الامل حتى السنة الماضية حين طلبت الجنسية الفرنسية. ورغم ذلك، لا تزال الخيوط تشدني الى هذا البلد: زحلة، وقبر أمي وصبوات شبابي. حاورت المثقفين في فرنسا بدافع المعرفة والانفتاح على ثقافة الآخر، وكتبت مقالات الوطن المستحيل بدافع «فشة الخلق» من واقع يئست من تغييره. وبالنهاية ستظل اشياء الجمال تشدني الى الكلمة والى الشعر والى اغراء الهاوية».

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق