لويس الحايك: الشعر كان الأسبق في مسيرتي الكتابية

بقدر ما يكتب الشعر الاصيل والمعبّر، فالبقدر نفسه، يكتب النقد الجيد والهادف. وبين الشعر والنقد، يمارس الصحافة منذ اكثر من نصف قرن. من هنا، باستطاعتي القول، ان الشاعر والناقد الادبي والصحافي لويس الحايك، منذ انطلاقته الاولى، تشغله الكلمة الحاملة الفكر المضيء، أكانت شعرية او نثرية. فمن خلال ديوانه الاول «هواجس العبور»، ومن ثم الثاني «خطوات» الصادر حديثاً، عن «دار مكتبة التراث الادبي»، يعبّر لويس الحايك تارة عن حبه وعشقه، وطوراً عن هواجسه حول الحياة والموت… ومن خلال كتابه النقدي الجديد «تحليل وتنخيل» الصادر عن «دار نلسن»، يكتب لويس الحايك النقد الادبي بحب وعمق، بحثاً عن الجمال والاصالة معاً. وكما في الشعر والنقد الادبي، كذلك في الصحافة، له صولات وجولات في اكثر من مجال، سواء في لبنان او خارجه.
هل لك ان تحدّد ببساطة مفهومك للنقد الادبي وعلاقته بالمنهجية في الابحاث الاكاديمية، وذلك انطلاقاً من كتابك النقدي الجديد «تحليل وتنخيل»؟
كل ما عنيت في المقدمة، هو التمييز بين النقد الذي يتناول، في آن واحد، التقييم – يعني البحث المنهجي – والتقويم – يعني تقديم النص – وليس له صفة تعليمية كالبحث المنهجي الذي يصبّ في المراجع والتفسير والشرح ليمكّن طالبه من التدريس بنيل شهادة دكتور او استاذ، التي تعني بالاجنبية كلمة «بروفسور». هذا لا يعني ان المعلّم، اذا اختصرنا به الالقاب السابقة، غير مؤهل ان يخوض عالم النقد الادبي انما يشترط لذلك ان تكون المراجع التي حفظها إغناءً معرفياً لا توجيهياً. وبروفسور هي اعلى مرتبة تعطى للدكتور الجامعي، لكنها لا تعني اي شيء اذا لم تعمّد بالانشاء الذي سيأتي الحديث عنه. والانشاء لا تضمنه او تحميه او تقيّمه شهادة، بل هو الذي يقيّم صاحبه ويثمّنه.
يقول مارون عبود: «في هذه السوق، اي السوق الادبية، ترى دكان بائع الكمون والبهار، وعلب الكبريت والمكانس والحصر، الى جانب حانوت الصائغ… وحانوت بائع الحمص الشامي والفول المصري الى جانب بائع المسك والعنبر… وخصّاف النعال لصق بائع الحلي الثمينة والحجارة الكريمة». ويقول، تعليقاً على هذا القول، أحد أئمة النقد الادبي بعد عبود، من الجيل الذي سبقنا بفترة قصيرة: «من هنا كان لا بد من «مصنّفين» يسمون الكمون كموناً والعنبر عنبراً والنعال نعالاً. نقاد يقبلون العمل في فرقة «قمع الغش»… دفاعاً عن الادب!».
مارون عبود والنقد
أليس في اقوالك هذه غمز مسيء وبحاجة الى توضيح؟
ما تقوله صحيح، لكن لا بد قبل التوضيح بالامثلة ان نعطي وصفاً للناقد كما حدده اولئك الذين اتقنوا صناعة الكتابة وكانوا من البنائين. فناقد الشعر برأي صلاح لبكي مثلاً، عليه ان يكون شاعراً وصاحب عمارة شعرية، وبرأي مارون عبود ان «كل ناقد بلا إنشاء هو كمن يحارب بالنظارات». ثم اعترف بأن هذا رأي الجاحظ الذي «ادرك انه لا يدرك اسرار الفن الا الفنان، وان ابصر الناس في الادب شعراً ونثراً هم الشعراء النقاد».
مارون عبود في نقده يظهر بوجهين مختلفين وحديثي عنه ليس لاعجابي به فحسب، بل للتذكير بريادته في صناعة النقد الادبي.
في الوجه الاول تبرز لهجته اكثر شراسة من بروز انياب الليث لكنها تحافظ على طرافتها وكبت اذيّتها. فقبل ان يبدأ تنخيلاً وتشريحاً «بشوقية» بشارة الخوري (الاخطل الصغير) نجده يبرر موقفه بما يرضي القارىء من حجج جاء توضيحه عنها على لسانه: «يقولون: لا يعجبه العجب. يا ويلي! كيف لا يعجبني شيء وانا أطير فرحاً وأصفق له طرباً متى وجدته؟ اما ان اكذب على نفسي وعلى الناس، اما ان اقول للخصيّ: ما أفحلك! وللقزم: ما أطولك! وللمكرفح: يا غصن البان يا عمري! فلساني لا يطاوعني وضحى لمتي يضيء لي سبيل الاخلاص للذرية».
ففي كتابه «مجددون ومجترون» قلب الدنيا قياماً وقعوداً على رؤوس الكبار، فلم يسلم منهم احد…
في المقلب الآخر كان مارون عبود يمرّر احياناً تشجيعه للشعراء الشباب، كما يفعل بعضنا اليوم، حتى لا تتحول سوقنا الادبية الى سدوم وعامور. فالشاعر الذي تقرأ في بعض سطوره لمعات ابداع، لا بد من تشجيعه برائحة بخور زكية تشعر بالدفء والطمأنينة ولا تكون خانقة او حارقة ليستطيع ان يكمل نشاطه بما يملك من امكانات تنير طريقها اليه.
حديث في الشعر
هذا عن النقد، فماذا عن شعرك، وما هو تحليلك للشعر؟
الحديث في الشعر حديث طويل وسأحاول الاختصار قدر الامكان.
اولاً، يحق لنا ان نتساءل كشعراء نظّامين عن القوالب الشعرية الموروثة والخلاف الذي يدور حولها حتى يومنا هذا. فالثنائيات كشعر الخيّام مثلاً، والتي نقلها الى العربية احمد الصافي النجفي بقالبها الاصلي، كذلك كل قصيدة دون الابيات السبعة، برأي العروضيين، لا تصنّف شعراً كاليتيم من بيت واحد والنتفة من بيتين وغيرهما. هذا، واذا اعترفنا بشرعية النثر الشعري على اساس ان الشعر هو بمضمونه لا بقالبه. فاننا نقع في اشكالية اخرى اكثر صعوبة من الاشكالية العروضية. لذا، كان لا بد من حل آخر يرضي جميع الاطراف، وهو الاعتراف من جهة، بموهبة الشعر التي لا تخضع لشروط الاسلوب الانشائي، كما في المقالة والخطابة والقصة والعلوم وغيرها. والتي لا تخضع ايضاً للقولبة.
ومن جهة اخرى، علينا ان نعترف بوجود الموهبة الموسيقية التي هي موهبة النظم التي تنضم بدورها الى الكلمة التي نسميها الكلمة الشعرية. هذا مع الاعتراف بأن النثر لا يرقى الى مصاف النظم، والاعتراف ايضاً، بأن الكاتب ناثراً كان او ناظماً لا يسمّى شاعراً اذا خلت كتابته من الفكر ومن الادهاش الذي شبهه النبي الكريم «بسحر البيان لحدّة عمله في سامعه وسرعة قبول القلب له».
مسألة الوحي
هل الوحي يسقط على الناثر كما يسقط على الناظم بمفهومك لكتابة الشعر؟
هذا السؤال يجعلنا نؤكد بأن الموسيقى هي التي تعطي التعبير جماليته، فهي كالزينة لوجه المرأة وجسدها، لذا فان الشعر المنثور الفالت حتى من النغم هو من الكتابات الاكثر صعوبة، والمتلقي من العامة ينأى عن الغامض والمعقد منه ويتقبل المنظوم اكثر، لسهولة حفظه وانشاده. وبما ان النظم موهبة موسيقية وهي التي تنزل ايضاً باللاوعي على الموسيقار وعلى الشعر الغنائي ونسميها وحياً، فان شاعر النثر لا يحظى بنعمتها وعليه ان يعوّضها بابداعه، فالوحي بالمفهوم المتداول الذي يذكره النقاد هو للشعر المنظوم فحسب.
كان استاذنا بطرس البستاني يحدثنا عن الوحي من على منبره في معهد الحكمة ويقول: «كان العرب المتقدمون يعتقدون ان لكل شاعر رئيا من شياطين الجن يحبه ويتبعه ويلقي اليه الشعر ليقوله. فالشعر عندهم وحي والهام»، وكان رحمه اللّه يؤمن بفعل الوحي، ويورد عن فاليري قوله: «ان الآلهة تلقي الينا الشطر الاول مجاناً وتترك لعنايتنا ان نصنع الثاني»، وكان يذكرنا ايضاً بالشاعر النمساوي ريتر ماريا ريلك الذي اوصى الا تطبع بعض اشعاره باسمه بعد موته، لانها امليت كلها عليه، بل أملاها شخص جالس قبالته، ويختم بتحديد دقيق، والقول له هذه المرة: «الالهام هو انبجاس وحي لا يتعلق بسلطة الفنان واحكام ارادته، هو عطية العبقرية المبدعة، فسمّها اذا شئت عطية الآلهة او عطية الشياطين».
لذا، وتوضيحاً لما قلت ووجدته غمزاً من قناة المنهجيين، اضم رأيي المتواضع الى رأي مارون عبود الذي ردّ على من يسأل: «علمني كيف انتقد، اجاب، قل له عن لساني: النقد سليقة وطبع وموهبة فلا يمكن بلوغ الدرجة العليا في سلمه عن طريق التعلم».
واذ لا بد من امثلة فجيّدها كثير في عصرنا. ومن الكتب التي تلفت النظر مثلاً، وتجمع المنهجية الى النقد، كتاب «البنية الجمالية في القصيدة العربية الحديثة» لنبيل ايوب. وفي النقد الصرف كتب كثيرة تطرقت اليها من باب نقد النقد، ونشر بعضها، مثل كتاب «بيت الذاكرة والقامات العالية» للناقدة ماجدة داغر. فالنقد الادبي عاش نهضة عامرة منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا يزال يعيشها الى يومنا الحاضر، ولا مجال هنا الى ذكر اسماء مبدعيه وهي لا تعدّ ولا تحصى.
الشعر كان الاسبق
كتابك «تحليل وتنخيل» ان دلّ على شيء فانما يدل على انك بدأت كتابة النقد قبل كتابة الشعر، وانا اعرف، بأن خطواتك الاولى كانت في ميدان الصحافة، فهل من الممكن ان تضعني في ميدان هذه التجربة؟
لقد نشأنا وتربينا على الصحافة في بلدتنا بيت شباب التي كانت تصدر منها معظم الصحف اللبنانية والتي لم يبق منها – مع الاسف – سوى مجلَتَي «الدبور» و«الخواطر» التي كانت بداية تجربتي الشعرية فيها، وفي مجلَتَي «الاجيال» و«الاجيال الجديدة» بأولى مقالاتي النقدية. الشعر الذي نظمته قبل تجاربي الحياتية أهملت جمعه ولم اعد اعترف به. بعض مقالاتي في جريدة «النهار» اواخر الخمسينيات واوائل الستينيات وحتى السبعينيات لا أزال اذكرها بفخر واعتزاز وسأعيد نشر بعضها في الجزء الثاني من «تحليل وتنخيل» الذي يصدر قريباً. اما ما تريد معرفته فأقول: ان الشعر كان الاسبق في مسيرتي الكتابية.
رأي في الحداثة
انت معجب جداً بمارون عبود، كما يظهر، وما دمنا في الحديث عن النقد، هل تقف بجانبه في تعرّضه لبعض الادباء والشعراء وقد بلغت الحدّة في نقدهم الحد الاقصى من القساوة احياناً؟ وهل يعني انك تؤمن بما كان يؤمن به استاذك؟
انا اميل بالنتيجة الى رأي الشاعر الانكليزي الرومانسي برسي شلي في الشعر حيث يقول: «تمتلىء نفسي اولاً باستعداد موسيقي ولا تأتي فكرة الشعر الا بعد ذلك»، مع الاضافة بأن تمتلىء بالفكر ايضاً مع ضمّ الوحي اخيراً الى لعبة الموسيقى وصناعة الكلمة.
وماذا عن الحداثة برأيك، ما دمنا ضمن لعبة الشعر؟
الحداثة نتشدق بها تغطية للاساليب الجديدة في الكتابة، ولا علاقة لها بالمضامين، وهي مزيج من هذه الاساليب ومن الغموض الكلامي من جهة، وغموض الرموز التي تعود القهقرى الى التراث القديم بروائعه المكتوبة بأسلوب لا اجمل ولا اروع! ولا اجد في التكرار اي حداثة اذا فشل الشاعر عن خلق فكر جديد من رموزها.
دور النقد
هل النقد كما تفهمه ضرورة لتطور الادب ام انه مدعاة اساءة وتجريح لا اكثر ولا اقل؟
النقد كما عرضته في مقدمة كتابي وفي حديثي، هو المحفز الوحيد لتطور الادب، هو كترياق يدفع الدماء في الشرايين، وكالماء الذي يعيد الحياة الى النبتة الذابلة، وكالساحر الذي يكشف عن الكنوز الدفينة، وهو الداعية الى نبش الروائع المجهولة والى تخليدها وليس الزمن كما يقال.
واضيف ايضاً، ان حداثة الشعر وتطوره يرسوان عند مبدعها وفي مطرحه وليس بفضل مسيرة او مدرسة او غيرها وان كانت هذه مدرجاً مؤثراً لصعود الكاتب وشدّ ركابه.
اسكندر داغر