البرامج الكوميدية «تخلع» ورقة التوت!
هي في الأساس ثقافة يفترض أن تصل الى الناس بضحكة، لكن موجة التنكيت المسطح بمفردات من العيار الثقيل والمشاهد التي تنخر العيون قبل السمع، حولت البرامج الفكاهية الى مساحة من التفلت ومرآة لواقع سياسي واجتماعي قد يكون موجوداً، لكنه في قالب الضحك صار أكثر اسفافاً. وما بين معادلة «نكّت عليها تنجلي» والأخرى القائلة بأن «النكتة يجب أن تنخز لا أن تدمي»، تبقى برامج السخرية والتنكيت في لبنان، ظاهرة مفتوحة على شاشات التلفزة ومحكومة بسياسة المحطة وضمير مقدميها من جهة، وخيار المشاهد من جهة ثانية.
ثمة من يقول إن النكتة هي من الوسائل الدفاعية اللا-شعورية التي يعتمد عليها الإنسان لمواجهة الضغوط الناجمة عن العالم الخارجي، مثلها مثل سائر الوسائل الدفاعية الأخرى التي تحاول ايجاد نوع من التوازن النفسي وإخراج الدوافع والطاقات المكبوتة. لكنها في البرامج الفكاهية التي تتنافس عليها المحطات اللبنانية تحولت إلى فتيل قابل للإنفجار في أي لحظة، نتيجة خزان العبارات الإيحائية والألفاظ التي كانت سابقاً تموه بتقنيات «الزمور»، وألغيت بحجة المنافسة مما رفع من منسوب التفلت على الشاشات.
هذا الواقع فتح باب النقاش بين المحللين والمتخصصين حيث اعتبر البعض أنها خرجت عن المألوف بهدف تحقيق الربح المادي واستقطاب أكبر نسبة من المشاهدين والاعلانات، ومنهم من رأى فيها متنفساً وسبيلاً للخروج من الضغوط والحصار النفسي الذي يعيشه المواطن اللبناني على جميع الأصعدة.
سامي خياط: كوميديا في خدمة الغرائز!
لكن بين الرأيين هناك ثابتة لا تقبل الجدل، وهي أن البرامج الكوميدية مع ما تحمله في مضمونها من شوائب وهفوات وتسرع وسطحية، باتت منحازة في غالبيتها ضد شخصيات أو تيارات سياسية تبعاً لانتماء مخرجها أو صاحبها، ومنها ما تحول إلى ضد فريق محدد من السياسيين. أما في المضمون فيبدو واضحاً أن غالبية فقرات البرامج الفكاهية دخلت موجة التكرار وغياب الفكرة الجديدة والإستعاضة عنها بحوارات وشخصيات تستخف عموماً بذوق وخيال المتلقي. لكن الإستثناء وارد لا سيما في بعض الشخصيات التي تبتعد عن الإستنساخ السياسي أو الإجتماعي.
صانع الضحكة وأحد رواد مسرح الكوميديا والشانسونييه مع زوجته نايلة الفنان سامي خياط اعتبر أننا نسير اليوم في طريق الخطأ لسببين: أولاً لأن العبارات التي تزخر بها برامج الفكاهة لا تعكس مفهوم الكوميديا «لأنها تتكل على العبارات المبتذلة والحركات الإباحية والإيحائية لإضحاك المشاهد وخدمة لغرائزهم المعروفة. وهذا يتعارض مع مفهوم الفن الكوميدي. أما السبب الثاني فيتوقف على موجة الإستسهال والتكاسل لإيجاد فكرة أو اختراع شخصية من وحي خيال الكاتب أو المجتمع. شرط الا تكون مستنسخة. وهذا أخطر ما في الأمر لأننا في ذلك نساهم في صقل فكر المشاهد وخياله بأسلوب معين، مما يصعب عليه فكرة تقبل أي نوع آخر من البرامج الفكاهية حتى لو كانت تحمل أفكاراً مبتكرة وذات خلفية ثقافية».
لا ينفي خياط وجود قيمة فنية لدى الممثل اللبناني وخصوصاً في المجال الكوميدي: «لدينا خيرة الممثلين، لكننا نفتقد إلى العبقرية والعمل الدؤوب. وقد ساهمت المحطات التلفزيونية في تحويل شاشاتها إلى منابر للكوميديا المسطحة بحجة أن الشعب يريد هذا النوع من الفن المضحك. والصحيح ان الشعب يريد العكس. لكن هل سمعتم يوماً ان الشعب نزل إلى الشارع للتعبير عن سخطه من برنامج كوميدي باستثناء ما حصل مرة على خلفية تقليد احد البرامج الفكاهية لشخصية دينية – حزبية؟».
من ابو العبد الى حنكش
قد تكون موجة برامج التنكيت جديدة في لبنان، غير ان النكتة في حد ذاتها جزء لا يتجزأ من شخصية اللبناني الذي طبع بالمرح وخفة الدم حتى في أصعب الظروف وأقساها. ولعل أكثر ما يضحك اللبنانيين شخصية أبو العبد البيروتي التي اخترعها «خليل شحاده» في ستينيات القرن العشرين وقدمها في سلسلة عروضاته على مسرح «الفاروق» في وسط بيروت. وكان أحمد خليفة أول من جسد شخصية أبو العبد على شاشة التلفزيون. تبعه محمد شبارو مع فرقة الشانسونييه الساخرة بقيادة الراحل وسيم طبارة ثم أبو الشباب وأبو الشبب. واخيراً أبو رياض الذي يطل أسبوعياً على شاشة تلفزيون المستقبل في برنامج «ما في متلو».
أما أبو النكتة اللبنانية من دون منازع فكان الراحل نجيب حنكش، الذي أطلق عليه سعيد فريحة لقب «ظريف لبنان» و«نقيب البخلاء»، وتميز بطرافته وعفويته التي نقلها عبر مقابلاته الفريدة على شاشة تلفزيون لبنان. و كان يصر على أن يبتعد كتّاب وممثلو الفكاهة في لبنان عن «الخلاعة» ويستشهد بالمثل القائل: «ان لم تستح فقل ما شئت». وحرص حنكش على عدم التجريح بمشاعر الآخرين. ولم يكتف بصنع النكات الذكية بل تفرد في طريقة إلقائها.
يحكى أن حكام الرومان كانوا يقدمون القليل من الخبز للشعب على رغم الحاجة إليه، في مقابل الكثير من الألعاب لإلهائه عن المواضيع الأخرى. اليوم لا شيء تغير تقريباً. فبدلاً من ان يكون المواطن مشاركاً ومسؤولاً أصبح مشاركاً في لعبة التسطيح والإستخفاف بعقله بذريعة ان «الجمهور يريد ذلك» ولا يعترض حتى على المشاهد التي تخدش الحياء او تلك التي تظهر حالات المثلية بكثير من الإيحاءات التي تخرج عن عاداتنا وتقاليدنا.
لا خيال ولا عبقرية
نعود إلى سامي خياط الذي يرد اسباب التفلت وعدم وجود روادع أخلاقية في البرامج الكوميدية، الى «التعب على صناعة أو ابتكار الفكرة والثقافة». ويرى ان هناك «تسطيحاً للصنعة الكوميدية بكل ما للكلمة من معنى». وأوضح أن الكوميديا التي قدمها على مدى عقود من الزمن، هي من نسيج خياله الخاص وتأليفه وإخراجه. والأهم أنها كانت ولا تزال أحادية. وهذا ليس اعتباطياً. «فأنا أؤمن، بأن العمل الكوميدي هو سلة متكاملة بدءاً من الفكرة مروراً بالملابس والإضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية والرقص والغناء… وكلها يجب أن تكون أحادية. قد اكون على خطأ، لكنني لن أغير من قناعاتي. أما الخطوط الحمراء فليست قاعدة منصوصة في الكتب والدساتير. فحدود اللياقة تتوقف عند أخلاقية المعد لكن المشكلة تتوقف على الإعلام الذي يبدو أنه متسامح جداً. ومع أنني من المنددين بمفهوم الرقابة، إلا أنها ضرورية في هذه الأيام أقله في ما يتعلق بهامش احترام الجمهور واستعمال العبارات التي لا تخدش حياء ومشاعر الجمهور، فحتى «الزمور» الذي كان يستعمل لتغليف العبارات النابية أزيل ليفضح مدى التفلت الأخلاقي في استعمال عبارات تتخطى حدود اللياقة الأخلاقية لا سيما في الاسكتشات التي تجسد مظاهرالمثلية».
شربل خليل: يطلبون النكات الأكثر تحرراً
هل يمكن استفزاز الناس للضحك؟
يؤكد الكاتب والمخرج شربل خليل أن الضحك هو أكثر شعور عفوي عند الإنسان، ولا يمكن اعتباره مفتعلاً في اي حال من الأحوال. لكن النكتة تطورت بدليل ان الناس باتوا يتطلبون النكات الأكثر تحرراً. ونفى خليل أن تكون البرامج الفكاهية وراء انتشار ثقافة التفلت الأخلاقي والإجتماعي. فالإنترنت في رأيه هو السبب المباشر في نشر هذه الثقافة «وتبين أن الناس باتوا اقرب إلى النكات المباشرة والإسكتشات التي تعكس مظاهر المثلية او الإنفلاش الإجتماعي».
قد يكون لبنان من أكثر الدول العربية إنتاجاً لبرامج الكوميديا السياسية، والمتابع للقنوات اللبنانية يلمس أنها تكاد لا تخلو من برنامجٍ كوميدي سياسي، وتتنافس في ما بينها على بث هذا النوع من البرامج التي تجعل من السياسة ورجالها مادة دسمة لتأليف اسكتشات تقلد الشخصيات السياسية وأغانٍ تسخر من تصرفاتهم وتصريحاتهم. اما في الغرب فتستخدم هذه النوعية من البرامج كمؤثر فاعل في مجرى الانتخابات الرئاسية. وهذا ما حدث مع المرشحة على الرئاسة الأميركية سارة بيلين في برنامج «ساتر داي نايت» الكوميدي. حيث استطاعت الممثلة الكوميدية تينا فاي أن تصور بيلين بمظهر الحمقاء، ما أدى إلى انخفاض شعبيتها وخروجها من السباق الرئاسي.
هذا في الغرب أما في لبنان فمن شأن برنامج فكاهي أن يشعل فتنة مذهبية أو يتحول إلى منبر لتنفيس أحقاد تيار سياسي على آخر. نكتة لكنها حتماً موجعة.
ج. ن